الكتاب:"الشريك الخفي" رواية الكاتب: جوزف كونراد ترجمة اسكندر حبش. الناشر: دار الفارابي بيروت 1998 العدد الأخير من مجلة غرانتا البريطانية خصِّص ل"البحر". لم يكن ذلك من قبل الاحتفال باكتشاف جديد فيه، فقد توقف البحث في البحار، بحسب المجلة، في العقود الأخيرة. كما أن البحر لم يعد يلهم مخيّلات الكتّاب إذ هم تحوّلوا عنه. لم يعد ذلك المجال الغامض الهائل والسرّي. أو أنه لم يعد مأهولاً بالمعنى الذي كانه أيام السفن الشراعية التي كانت تمخر مجاهله وعتماته. حتى القرن الماضي ظلّ البحر حاضراً وموجوداً كأنه قفا اليابسة أو احتياطيّها لأولئك الراغبين، إما في الابتعاد أو في الهرب أو في المغامرة أو في فتح صفحة الحياة من جديد. هرمان ملفيل في رائعته "موبي ديك" صوّر المحيط، ذلك المدى المائي المتشابه، مثلما تُصوّر مدينة ذات انحاء وخطط. أما اختلاف حيّزه وتقطّعه فيأتي من أعماقه وليس فقط من سطحه، على نحو ما هي المدن. كما يأتي من مسافاته، ما دام ان الاختلاف بين البعيد والقريب لن يكون له، في أي مكان آخر، المعنى الذي يضفيه عليه البحر. النازلون الى البحر، من مخيّلات القرون الماضية، نازلون، منذ خطوتهم الأولى، الى المجهول. ليست خطوة النزول الأولى إلاّ بداية "الرحلة" التي توصل نهايتها إما الى الموت أو الى النجاة. أقصد النجاه لا الوصول، ما دام ان ركوب البحر هو ركوب للخطر، وقد استخدمت العربية العبارة نفسها للرحلتين. إنهم نازلون الى المجهول إذ ينزلون الى البحر. وهم فيه يستطيعون ان يكونوا مجهولين غريبين مثله. "آخاب"، في رواية "موبي ديك" ربما كان أكثر الناس سرية وغرابة إذ لا يبين على محيّاه الا اشارات غامضة تفيض عن باطنه المعتمل بتحدٍّ غير مفهوم وقسوة كأنها أتت من فيض كوكب غريب. آخاب هذا يستطيع ان يحتفظ، في ازاء البحر ووجهاً لوجه معه، بغرابته وداخليته وسريته حيث ان البحر وحده يتسع لذلك. والبحر هذا، الهائل الضخم، ينبغي للتحدي ان يتخذ منه ميداناً، لأن مخلوقاته أكثر بأساً وشراسة من مخلوقات الأرض، أو ان الفارق بين هذه وتلك هو ذاته الفارق بين سطح اليابسة وأعماق البحار. ثم ان هناك، في المسافات التي تتولّد نهاياتها عن مسافات أخرى يكون "البحّار" مركز الكون حقاً وذلك، في التخيّل البصري، قد يبدو حقيقياً وكاملاً. ثم ان البحارة، بحسب الروايات المكتوبة عن البحر، هم في الأصل كذلك، هاربون من انفسهم لكن من أجل أن يواجهوها هناك، في الفراغ والوقت الكاملين. هكذا كان آخاب بطل موبي ديك، وهكذا هو قبطان رواية "الشريك الخفي" لجوزف كونراد. وفي البحار غالباً ما تذهب النفس الواحدة، المعاندة المنفصلة عما حولها، الى شيء واحد أو الى هدف واحد. حيناً هو الحوت الأبيض في "موبي ديك"، أو هو السمكة في "الشيخ والبحر" لهمنغواي، وفي قصة كونراد هو القرين، أو نسخة النفس الثانية متجسدة في هيئة منفصلة ناجزة. حين شهد القبطان قرينه، جسماً ضخماً عارياً طافياً فوق الماء وممسكاً بإحدى يديه طرف سلم الباخرة، جعل جوزف كونراد هذا المشهد من أقوى مشاهد روايته. كان الجسم الضخم العاري، في لحظة مشاهدته الأولى، كأنه يتراوح، بحسب ما تصف الرواية، بين الحياة والموت أو كأنه حي يموت أو ميت ينهض الى الحياة من جديد. هكذا هم المولودون عادة، القادمون في لحظات قليلة سريعة الى الوجود. لكن مولود القبطان ينبغي ان يكون على هذه الضخامة ليكون مثيل مولِّده أو ضده. يكاد يتّفق النقاد ان شخصيات البحار تخلق ذلك الشيء الواحد، الحوت أو السمكة أو العدو، من دواخلها. إنها قرائن للشخصيات على نحو ما هو "ليغات" في رواية كونراد قرين القبطان ونفسه الثانية. لكن القبطان هذا ليست فيه أي من صفات آخاب، القاسي المتحدي الغريب. وهو، القبطان، لا يُطلع قرينه ليقتله بل لينجيه ويخلِّصه. في الأيام التي قضاها القرين في قمرة القبطان بدا الاثنان كأنهما ينقلان المودة بينهما من دون حاجة الى أن يفعلا شيئاً أو يقولا شيئاً. فقط بالهمس وتبادل التربيت القليل وإمساك احدهما بيد الثاني. "ليغات" هو القرين الطيّب وهو بطيبته دال على النازع غير العدواني لقرينه. لم يعش القبطان عمراً مديداً لتقسو فيه شوكة المرارة على نحو ما حصل لآخاب في موبي ديك وللرجل الكهل المستوحد في "الشيخ والبحر"، وان اختلف واحدهما عن الآخر في نوع مرارته. قبطان جوزف كونراد ما زال فتياً يافعاً وقيادته لهذه الباخرة هي أول عمل، أو أول قيادة، له بعد تحصيله علوم البحار. لم يبدأ بعد، فيما آخاب والشيخ كانا في طور النهاية، أو لم يكد يبدأ ما دام ان باخرته الأولى هذه لم تبحر بعد. وفي أثناء ما تحصل المغامرة، أو الرواية، لا تقترب الباخرة أبداً من الأعماق. تظل مترددة في المياه غير العميقة، أو منتظرة، أو متنقّلة بين الجزر القريبة محاذية اياها، هكذا، كأن شيئاً ما، خوفاً ما، يحول بينها وبين النزول الى المحيط. آخاب كان قد بلغ آخر المحيط، أو عمقه، أو قلبه، ليموت هناك مهزوماً تحت وطأة القوة الطاغية للحوت الأبيض، قرينه العدو. قبطان كونراد سعى وراء قرينه لا ليسلمه أمر نهايته، بل أمر بدايته. لقد احتاج الى القرين ليستعد به لتحقيق أول رحلة له. كان عليه أن يوقف ماضيه أو يقتله، أو ليتطهر منه ليبدأ عمره البحريّ ذاك: رجلاً مختلفاً فيه طبائع رجال البحر. في المياه القليلة العمق، هناك بين الجزر، ظلت سفينته تتردد، مبطئة ومسرعة، لترمي حملها ذاك ليغات، القرين من أسفلها، من فتحة حجرة الأشرعة، تلك التي ربما تكون في نفس الموضع الذي تلد منه الحيتان والأسماك أو تضع بيضها. فقط حين تمكن ليغات من المغادرة استعدت السفينة لمياه المحيط العميقة واستعد الربان ليصير رباناً لظلمات البحر وأعماقه.