ثمة معادلة بسيطة ومعروفة في علم الجريمة بخصوص الارهاب ومواجهة الارهابيين، وهي تتمثل في منع الارهابيين من استثمار اي فرصة في مخاطبة الرأي العام وتقديم طلباتهم عبر وسائل الاعلام، لأنهم يستمدون القوة والعزم من خلال ردود الفعل التي يمكن أن يثيروها عبر شاشات التلفزيون بالتحديد، ويقيسون بالتالي مدى جدوى عملهم في تأجيج الغرائز الفطرية وجذب وسائل الاعلام. لا أعرف ما هي حجة الادارة الاميركية في طلبها من وسائل الاعلام التعتيم على الرسائل المسجلة لبن لادن وأعوانه في تنظيم القاعدة، ولكن، تذكرت هذه المعادلة حين أفرطت بعض الجهات وكذلك الأفراد في تحليل وتناول المطلب الاميركي والمطلب البريطاني في ما بعد بخصوص تعتيم وسائل الاعلام، خصوصاً شبكات التلفزيون على رسائل بن لادن المسجلة. ربما يعود شيء من الدافع الاميركي والبريطاني الى المعادلة السالفة الذكر، وربما الأساس هو فعلاً الخوف من كون رسائل بن لادن قد تحمل رموزاً وتوجيهات الى أعوانه في الخارج. وسواء كان السبب هذا أو ذاك فلم يعد مهماً معرفة السبب والدافع بقدر الاتفاق على مدى جدوى افساح المجال أمام بن لادن لبث نداءاته مجاناً من خلال شبكات التلفزيون، وهل بث رسائل مسجلة لمجموعة مسلحة في جبال أفغانستان رداً على البيانات الأميركية والبريطانية تندرج في حرية الاعلام والرأي؟ حرية الاعلام والرأي لا يمكن تجزئتها أو العبث في تفسيرها وتعريفها بصورة جديدة ومختلفة عن الواقع، لكن تساؤلاً يبرز في هذا المقام، هو: هل من المشروع او الحكمة أن تركز شبكات العالم كاميراتها على دور رعاية المجانين والمرضى النفسانيين؟ هل من المقبول أن تتحول وسائل الاعلام الى نوافذ للمجرمين والشواذ والمعتوهين لتبرير جرائمهم وممارساتهم الشاذة؟ كل هذه التساؤلات مشروعة وينبغي أن تكون واضحة في أذهان المسؤولين في وسائل الاعلام، خصوصاً في اوقات الأزمات، وعلى الأخص في المحنة التي احتوت العالم منذ الحادي عشر من أيلول سبتمبر الماضي. لكن اشكالية التعامل مع الأحداث المرتبطة ببن لادن لا تكمن في الحريات ومفهومها لحرية الرأي والحرية الاعلامية او مفهوم الغرب للحريات، فلا أظن أننا بعيدون من بعضنا البعض في المفاهيم، لكننا مختلفون على الأرجح في تطبيق هذه المبادئ والتعامل مع الأحداث، وربما السبب في ذلك يعود الى غياب تعريف مشترك للارهاب، فما تراه دولة عربية ارهاباً، لا تراه الأخرى ارهاباً أو تراه ردّ فعل على فعل معين!! هذا التعقيد يضطرنا الى الالتفاف على لب القضية واستبدال اي اتفاق ضروري ومهم باتفاق آخر ربما أقل تعقيداً وأكثر وضوحاً وقرباً للواقع، وهو تعريف مبدأ المصالح المشتركة، فإذا ما تم ذلك يمكن عندئذ معالجة باقي الأمور، بما في ذلك التعامل الاعلامي مع نشاط بن لادن ورسائله. مبدأ المصالح المشتركة يقتضي النظر بحيادية مطلقة وتقويم موضوعي لأي نشاط أو عمل يوجه ضد أي دولة من الدول المشاركة في الاتفاق على مبدأ المصالح المشتركة، خصوصاً اذا كان هذا المبدأ جزءاً من ميثاق سياسي. وفي حال دول مجلس التعاون الخليجي فمبدأ المصالح المشتركة لا يمكن تجزئته، ليس بسبب وجود مجلس التعاون الخليجي فقط وإنما أيضاً بسبب عوامل جغرافية وتاريخية وسياسية واجتماعية. من هذا المنطلق يجب النظر الى التعامل الاعلامي مع نشاط بن لادن وتقويم مدى تأثير أو جدوى بث رسائله وتسليط الضوء عليه وجعله بطلاً قومياً أو اسطورياً... ربما التأثير لن يكون مباشراً على دولة أو دولتين لفترة من الوقت، لكنه بالتأكيد مؤثر على دول وشعوب اخرى بصورة قد تنذر بانجراف عدد كبير من المسلمين لنداءات بن لادن، وربما خروج ابطال جدد الى الساحة على نمط زعماء منظمة القاعدة!! الحريات تظل مبادئ يُحتذى بها، لكن علينا أن نتعامل معها بحذر شديد في كثير من الأحيان والظروف، فهي مبادئ تنطوي على نصوص مطلقة، لكن الممارسة والتطبيق لهذه المبادئ ليست مطلقة ولا يمكن جعلها مطلقة، فثمة ممارسة واعية تأخذ بالاعتبار المصلحة العامة وهي أفق واسع، وثمة ممارسة غير واعية تركز على جوانب آنية، وهي أفق ضيق لا ينفع خصوصاً في الأزمات. الظروف التي تجتازها منطقة العالم الاسلامي والغربي، تستدعي تعامل وسائل الاعلام العربية بحذر شديد وتحمل المسؤولية الاخلاقية قبل الاعلامية حتى لا تتحول الساحة العربية والاسلامية الى مواقع يقفز اليها من يشاء ان يجعل من نفسه بطلاً لبضعة أيام وأمام نفر محدود، فيما يدفع الثمن باهظاً عدد كبير من البشر. المعركة الحقيقية هي في مدى النجاح الذي يمكن أن نسجله في تثقيف الجماهير وتوعيتها وتهدئة المشاعر المتأججة، والمحافظة على بناء فهم سليم وواضح لدين الاسلام على أنه دين التسامح والسلام. * كاتب كويتي.