فعلى الصعيد الأول تتجلى المشكلة في الارهاب الرخيص الذي بدأ يظهر على السطح، فتصنيع المتفجرات لم يعد مهمة مستحيلة، وسيصبح الامر اكثر خطورة حين تشيع الاساليب الكيماوية والجرثومية في اللعبة وهي ارخص وأكثر قدرة على الايلام للخصم او العدو. وفي هذا الاطار ذكر موظف سابق في الپ"سي. آي. ايه" لصحيفة "هآرتس" الاسرائيلية انه "لم يعد هناك حاجة للمكاتب ومعسكرات الاسناذ الحكومية من اجل تنفيذ عملية، اذ يكفي وجود موديم وحاسوب لتشكيل تنظيم ارهابي...". وإذا ما توفّر التمويل فان المسألة تصبح اكثر سهولة ولعل ذلك هو مكمن خطورة بن لادن حسب فينس كاينسترادو الرئيس السابق لقسم مكافحة الارهاب في وكالة المخابرات المركزية الاميركية. حيث يرى الرجل ان بن لادن "ظاهرة جديدة، فهذا الذي نراه ليس دولة تخصص مبالغ مالية غير محدودة وتضعها تحت تصرف مجموعة لا تقوم الا بما تطلبه منها الدولة... فهنا ثمة مجموعة تستطيع التقرب من شخص مثل بن لادن لتنفيذ عملية على اساس فردي محض مقابل مبالغ مالية، فيقوم هذا الشخص بالتنفيذ طالما يعتقد بأن ذلك يأتي ضمن معتقداته وأهدافه الدينية". هذا الحديث حول بن لادن لا يمكن اقراره، فهو حديث ظني ليس عليه دليل، كما ان الذين يعرفون الرجل يؤكدون انه ليس تكفيرياً، وموقفه حتى في موضوع الحكام لا ينسجم مع جماعة التكفير، اما عن موقفه من الولاياتالمتحدة والدولة اليهودية فله اسبابه التي اوضحها في حواراته الكثيرة، رغم محاولة الاعلام الغربي التعتيم على هذا الجانب في برنامجه. في ضوء ذلك، يمكن القول ان عملية مطاردة هؤلاء من قبل الولاياتالمتحدة، خصوصاً في حالة ثبوت تورطهم في عمليتي نيروبي ودار السلام، ستكون مهمة معقدة الى حد كبير، وكلما جرى اعتقال بعضهم سيصبحون ملهمين لآخرين يفكرون بذات الطريقة وهكذا. ولعل الضربات العسكرية الاميركية للسودان وأفغانستان تؤكد عدم وجود رؤية واضحة في عملية المطاردة المذكورة. بالمقابل فإن الثمن الذي سيدفعه اولئك القوم سيكون كبيراً، اذ ستجري عملية مطاردة لهم في كل الاماكن والمواقع وسيكون بالامكان توقع قوانين جديدة في التعامل معهم على كل الاصعدة وفي مختلف البلدان، وستتجلى اكثر النظرية التي تبناها بعضهم حول لا جدوى هذا المسار محلياً ودولياً. بيد ان ذلك لا يجب ان يمنع الولاياتالمتحدة وشعبها على وجه التحديد من التساؤل حول سر استهداف هؤلاء لبلدهم دون سواه، وهو ما يستدعي التوقف امام ممارسات واشنطن ازاء العالم العربي والاسلامي، وهي الممارسات التي لا يختلف اثنان على انها عدائية وتضع المصلحة الاسرائيلية عنواناً لها دون منازع. وقد يرى البعض ان هذا الجانب هو الوحيد الايجابي في اللعبة. على الاصعدة المحلية، اي في الدول التي يتواجد فيها تيار العنف فإن المسألة لا تقل تعقيداً، فقد اثبتت حادثة الاقصر ان حجم الضرر الذي يمكن ان يلحقه ذلك التيار بالبلد هو اكثر بكثير من امكاناته، التي لا تهدد بنية الدولة في شيء، وهو ما يستدعي وقفة لايجاد آلية جديدة للتعامل معه. ولعل المسألة هنا تبدو متداخلة، فالدولة لم تعد وحدها القائلة بخطورة هذا اللون من الممارسات، اذ انضم اليها قادة في ذلك التيار، كما حصل في اعتبار القادة السجناء للجماعة الاسلامية في مصر الاعتداء على السياح في الاقصر، نوعاً من خرق "عهد الامان" مع اولئك السياح، وهو ما لا يجوز شرعاً، فضلاً عن مطالبتهم بوقف العنف ضد الدولة بشكل عام، بسبب أفقه المسدود. اما بقية الاسلاميين من رافضي العنف فهم ايضاً ضد هذا الخيار لما له من آثار سلبية على سمعة الاسلام كدين وعقيدة ورسالة في انظار العالم اضافة الى آثاره الاخرى، مثل اضراره على وجود المسلمين في الغرب، فضلاً عن آثاره على الاوضاع الاسلامية الداخلية من حيث ردة فعل الدول تجاه الاسلاميين، والأهم من ذلك ما له من آثار على الاوضاع المتعلقة بمصالح الوطن والمواطنين، ويكفي انه يضرب نعمة الأمن والاستقرار ضربة كبيرة، في مواجهة تحديات خارجية اهم، وعلى رأسها التحدي الصهيوني. المشكلة اذن، في غاية التعقيد والتداخل، ولا بد من وقفات خاصة امامها على مختلف الاصعدة، فالضرب في الخارج وضد اميركا ان وجد هو وجه من وجوه المشكلة الذي يملك تبريراً سياسياً، مهما بدا جدلياً، غير ان الامر يتعدى ذلك الى الداخل، وإذا لم يكن هناك علاج حقيقي يتعاون فيه المخلصون لمشروع الامة ودينها من علماء وعاملين ورسميين ايضاً فإن التداعيات السيئة ستتواصل. اما الجهاد ضد الاغتصاب الصهيوني والغطرسة الاميركية فله اهداف متعددة ووسائل كثيرة تنسجم مع الشرع ولا تصيب الابرياء وتشوه صورة الاسلام والمسلمين، فضلاً عن كونها اكثر فعالية، ولعل مثال "حماس" و"حزب الله" شاهد على ذلك. ما يمكن ان يضاف هنا هو ان الرفض الشعبي للسياسات الاميركية في المنطقة، قد بات ينسحب على الاوضاع الرسمية، التي تقاوم تلك السياسات بطريقتها وضمن ما ترى ان ظروفها تسمح به، ولا شك ان بعض الحكومات تشعر بكثير من الرضا عن الرفض الشعبي ومظاهره، كما هو الامر بالنسبة للتطبيع في مصر، ولعل الاستقبال الذي حظي به الشيخ احمد ياسين في بعض الدول العربية تأكيد على ذلك. ولا شك ان التخريج الفقهي للقضية يبدو ضرورياً هنا، فالخلاف السياسي حول جدوى او لاجدوى العنف يظل محتملاً، بيد ان السؤال هو عن الفقه الذي يقبل قتل مئات الأفارقة لأجل عشرة اميركيين، بفرض جواز الشق الثاني، وهو ما لا يوافق عليه سوى القلة، في حالة المدنيين. اضافة الى مسألة الفتوى بقتل الشرطة ورجال الدولة في حالات الصراع الداخلي. ان هذه السطور لا تدعي انها تقدم اجابات على هذه الظاهرة وتداعياتها، غير انها تحاول القاء الضوء عليها لفتح باب النقاش، ولعل المشكلة في الوضع الاسلامي السني انه لا يملك مرجعية واضحة، فهو متعدد المرجعيات الى درجة مخيفة، غير ان الحوار بين اهم تلك المرجعيات التي تحظى بكثير من المصداقية، اضافة الى الحوار مع الانظمة ربما كان سبيلاً معقولاً لوضع الاقدام على طريق الحل. فهنا ثمة مصلحة عليا للأمة، وثمة مصالح لأوطان المسلمين، فضلاً عن مصلحة جحافل من الشبان المخلصين الذين يمكن ان يكونوا جزءاً من مشروع امتهم في الوحدة والنهوض، وليس مجرد ارقام في المعتقلات، او قوائم "الارهابيين" المطلوبين. خصوصاً وان القابلية للحوار لدى هؤلاء ما تزال متوفرة، حتى لدى من يتهمون بالتطرف الشديد، ففي آخر حواراته لم يرفض رفاعي طه احد قادة الجماعة الاسلامية في الخارج مبدأ الحوار مع السلطة، ووضع شروطاً لا يمكن القول انها تعجيزية بحال. * كاتب أردني.