} كتب محمد صلاح خمس حلقات عن "رحلة الافغان العرب" وصلة المنظمات الاسلامية العربية بتداعيات الحدث الافغاني. وهنا رد المحامي المصري منتصر الزيات على بعض ما جاء في تلك الحلقات. تابعتُ باهتمام الحلقات الخمس عن "الأفغان العرب" التي نشرتها "الحياة" من 17 إلى 20 تشرين الأول اكتوبر، وقدرت أن التواصل مع ما كتبه مراسل "الحياة" في القاهرة محمد صلاح في تلك الحلقات يعطي زخماً إيجابياً حول هذه القضية المهمة، خصوصاً أن الظرف الحالي يمنع أبطال القصة الحقيقيين من قول كلمتهم في هذا الصدد. وقدم الكاتب سرداً تاريخياً رشيقاً للأحداث، لكننا نقف عند المقدمة الأولى للصحوة المعاصرة، إذ أنه رأى بروز تيار يدعو الى التغيير بالقوة في صعيد مصر يقوده كرم زهدي كان سبباً في انضمام أعضاء في "الجماعة الاسلامية" آنذاك الى جماعة "الاخوان المسلمون"، وهو أمر يحتاج في رأيي الى تصويب. فبدايات تغيير خريطة "الجماعة الاسلامية" الطالبية بدأت بدخول قيادات بارزة فيها في جماعة "الاخوان"، مثل الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح وعصام العريان وغيرهما، واعتراض قياداتها في الوجه القبلي على هذا القرار المنفرد وتأكيد الأخيرة على تمسكها بخط "الجماعة الاسلامية" بعيداً من التنظيمات القائمة وقتها. ثم كانت علاقة سالم الرحال، وهو أردني فلسطيني كان يقيم في مصر، وجرى ترحيله خارج البلاد في وقت لاحق من العام 8019 بقيادات "الجماعة الاسلامية" في صعيد مصر وتوثيقه للعلاقة بينهم مع محمد عبد السلام فرج صاحب "الفريضة الغائبة"، من الأسباب المهمة في توجه الجماعة الاسلامية للمعارضة المسلحة لنظام الرئيس الراحل أنور السادات. ولكن اعتماد هذا السبب لا يمكن قبوله إلا بإضافة المناخ السياسي المحتقن آنذاك كعامل مساعد. وكان الكاتب دقيقاً في الالمام بأطراف هذا المناخ المحتقن بداية من توقيع السادات لاتفاقات "كامب ديفيد". ولعل هذه تحديداً تبيّن عدم صحة الادعاءات التي أوردها بعض الكتاب أخيراً بعد حادث الثلثاء الدامي في نيويورك وواشنطن 11/9/2001 من عدم اهتمام الجماعات الاسلامية بقضية الصراع العربي - الاسرائيلي. فالاسلاميون كانوا في طليعة القوى السياسية التي عارضت اتفاقات "كامب ديفيد" واستمروا على معارضتهم على رغم تحول مواقف كثيرين ممن عارضوها الى القبول بصيغ أوسلو ومدريد وهلم جرا. وهكذا أجمل الكاتب أهم المحطات التي أفرزت مناخاً عجّل بخطة اغتيال السادات على النحو الذي تم في السادس من تشرين الأول 1981. وعلى رغم أن الكاتب لم يتدخل برأيه في مسألة شائكة يحلو لبعض المناوئين للجماعات الاسلامية إثارتها وتتمثل في تدخل السادات في شكل مباشر في تأسيس الجماعات مطلع حكمه وأنها - أي الجماعات - خرجت من عباءة السادات، الا أن سرده للأحداث بحيادية يستخلص منه حقيقة مفادها أن تلك الجماعات استغلت مساحة الحرية التي أتاحها السادات آنذاك في الانتشار وتدعيم صفوفها وكسب أنصار لفكرتها في أسلمة المجتمع بعد احباط قاس تغلغل في صفوف الشباب اثر نكسة حزيران يونيو 1967. فكانت مصلحة متبادلة تلقائية بين السادات والجماعات في استثمار علاقتهما. السادات ظهرت مصلحته في تقليص نفوذ رجال عبدالناصر وكبح جماح التيار اليساري والناصري، ولم يكن ذلك ليتحقق الا بقدر من السماح لنشاط الجماعات الاسلامية، وأيضاً كما أسلفنا مصلحة التيار الاسلامي بفصائله المختلفة تجلت في الوجود والانتشار وممارسة الدعوة العلنية. وحينما تعارضت المصلحة وقع الصدام بين السادات والجماعات. ولعل من نافلة القول ونحن في صدد التقويم أو التأريخ لظاهرة "الأفغان العرب" أو ما تسمى حيناً العنف الديني، أن نقرر عدم لجوء الجماعات الاسلامية الى العنف في كل الفترات التي سمح لها فيها بالتعبير عن آرائها ومعتقداتها بصورة سلمية سواء كان ذلك في أيام السادات أو في منتصف الثمانينات حتى أواسط التسعينات على نحو قد يحتاج معه الى تفصيل في غير هذا المقام... وخصوصاً في ما يتعلق بمنهج الدكتور أيمن الظواهري الانقلابي الذي انتهجه منذ 1968، وكان يطمح من خلاله الى التخطيط الهادئ وصولاً الى تغيير نظام الحكم بطريق الانقلاب العسكري أو الثوري ومن ثمّ تولية نظام يتولى تطبيق التعاليم الاسلامية بحسب ما يتصور أو يعتقد. لكنه ابتداءً لم يلجأ الى استخدام العنف العشوائي الا وسط مناخ محتقن في العلاقة بين الحكومة في مصر والجماعات الاسلامية وربما وسط أجواء التنافس التي أشار اليها الاستاذ محمد صلاح في الحلقة الثالثة من وقائع سنوات الجهاد. وأعتقد أيضاً أن اشارة صلاح في الحلقة الثانية الى تكفير الظواهري للإخوان في كتابه "الحصاد المر" كان غير دقيق. فالظواهري لم يعمد الى استخدام الاحكام الشرعية ضد مخالفيه داخل التيار الاسلامي على رغم معارضته القاسية لهم. وحينما أورد الظواهري في مقدمة كتابه "الحصاد المر" باباً فصّل فيه وجوب تطبيق الشريعة الاسلامية وتكفير الحكام المبدلين لشرع الله وعدم جواز الحوار معهم كان يستخدم نقولات شرعية من الفقه الاسلامي والسلفي ليدخل من خلالها الى نقد منهج "الاخوان" في دخول البرلمان وغيرها من القضايا. لكنه أبداً لم يطلق حكم التكفير ضد "الاخوان" أو غيرهم. وبالمثل عارض أيمن الظواهري بقوة مبادرة وقف العمليات العسكرية التي أطلقتها القيادات التاريخية للجماعة الاسلامية، وأورد عشرة أسباب لمعارضته، لكنه لم يتطرق الى نقد القيادات الذين أطلقوها وإن كان استعاض عن ذلك بنقدي شخصياً ولمْزي في مجموعة مقالات تضمنتها نشرته التي كان يصدرها على "الانترنت" باعتباري مروجاً للمبادرة وناطقاً باسمها. وحينما أصدر قراراً بفصل بعض العناصر من تنظيمه لم يعمد الى اعلان مثل هذا القرار على الرأي العام مراعاة لمشاعرهم وهم يتصدرون العمل العام. كثيرة هي النقاط التي تحتاج الى تعليق أو تداخل في الحلقات الخمس، التي كتبها الاستاذ صلاح، وذلك راجع إلى أن الفترة التي تناولها غنية بالاحداث والمواقف وعدت مقدمة لازمة لاهم أسباب أزمة العنف في كثير من الدول العربية. لكن ضيق المقام ربما لا يسمح بتناولها كلها على أمل بافراد مقالات أخرى لتلك المهمة خصوصاً أن الكاتب أنصف الحقيقة كثيراً بين ثنايا بحثه بالسرد الموضوعي للأحداث كما عاصرها أو تابعها أو تلقاها من مصادرها وهم رموز فاعلون لها. وأختم ملاحظاتي بما أفرده الكاتب في الحلقة الأخيرة حول تغير منهج أيمن الظواهري من مواجهة العدو القريب الى العدو البعيد. فكما قدمتُ في البداية عن انقلابية منهج الظواهري وهو يواجه العدو القريب، تلك النظرية التي استطاع من خلالها التأثير في مكونات الشيخ أسامة بن لادن الفكرية والدينية بإعلاء منهج الجهاد الثوري لديه فان الانقلابية لم تتغير لديه وهو يتأثر بدوره بنظرية بن لادن حول ضرورة التحالف بينهما لمواجهة اليهود والصليبيين بحسب ما اسماهم في بيان اعلان الجبهة في شباط فبراير 1998. وهو العدو الذي كان بعيداً قبل هذا التاريخ. وأسهم في دخول الظواهري وتنظيمه في مواجهات فاشلة مع الحكومة المصرية في الفترة من 1992 وحتى 1998 انتهاء بصدور حكم باعدامه من محكمة عسكرية في القاهرة، وتبنى بن لادن كفالة الظواهري وتنظيمه وتوفير الحماية اللازمة لهم من خلال حكومة "طالبان". وإذا عدنا إلى ملف العلاقة بين الأميركيين والجماعات الإسلامية التي قاتلت في أفغانستان بمعونتها وتحت إشرافها إن صحّ التعبير، فذلك شيء آخر ينبغي تأصيله. فالولاياتالمتحدة كانت لها مصلحة أكيدة في استئصال الوجود الروسي السوفياتي سابقاً من منطقة آسيا خصوصاً في هذه البقعة الاستراتيجية جغرافياً والغنية أيضاً بالثروات الطبيعية التي تحيط بها. هذه المصلحة دفعت الولاياتالمتحدة إلى إبرام تحالف مع عدد من الدول العربية والإسلامية من أجل السماح للحركات الإسلامية من مختلف البلدان بالوصول إلى منطقة بيشاور التي كانت نقطة الانطلاق الى داخل الأراضي الأفغانية ومن ثم غدت ركيزة أساسية في الاستقبال والتجهيز وأيضاً التدريب على فنون القتال لأكثر من عشرين عاماً تالية. وغير خافٍ الدور الذي لعبته دول عربية لشحذ الهمم ومعاونة المجاهدين الأفغان من أجل تحرير أراضيهم وطرد الروس منها. وشملت أوجه المعاونة كل المراحل التي تقتضيها بدءاً بتوفير فرصة السفر والوصول إلى بيشاور ومروراً بالاستقبال في معسكرات أقيمت خصيصاً لهذا الغرض في بيشاور وكان من أبرزها معسكر "القاعدة" الذي أشرف على تجهيزه أسامة بن لادن. وكان الشيخ عبد الله عزام رحمه الله رائداً في أداء هذا الدور وافتتاحه لمكاتب خدمات المجاهدين حتى داخل الولاياتالمتحدة، وقد زرت شخصياً مكتب خدمات المجاهدين في نيويورك في منطقة بروكلين عام 1991 بعد مقتل مديره السابق مصطفى شلبي في ظروف غامضة، وانتهاء بالمال والسلاح على رغم أن المجاهدين غنموا الأسلحة الثقيلة والمتطورة من الروس أنفسهم. كانت هذه المعسكرات فرصة سانحة للشباب العربي الطيب الذي لبى نداء الجهاد ووفد من مختلف البلدان العربية والإسلامية في التعارف والاندماج وتلاقي الأفكار وتقليبها. وتلاقت مصلحة الولاياتالمتحدة في طرد الروس من هذه المنطقة المهمة مع مصلحة الجماعات الإسلامية في تفعيل الفريضة الغائبة الجهاد والمشاركة من خلال الشعور الديني المتجذر داخلهم في دحر العدوان الشيوعي على بلد مسلم وما يتيحه ذلك لهم من التدرب على كل فنون القتال. وطوال الفترة من عام 1979 حتى 1992 لم تكن هناك مشكلة تعكر صفو هذه العلاقة أو تهدد تلك المصالح المشتركة، لكن وللموضوعية أيضاً كانت بدت المخاوف والشكوك تثور لدى الحكومات العربية من تصدير عناصر تنتمي إلى تلك الجماعات المقاتلة في أفغانستان من أجل المشاركة في شن عمليات عنف داخلها مواكبة للأزمات التي كانت برزت بين إسلاميين وحكومات عربية مثل مصر والجزائر على النحو الذي رددته بعض الدوائر بمناسبة اغتيال رئيس مجلس الشعب البرلمان المصري رفعت المحجوب عام 1990. على كل حال لم تطرأ المشكلات التي تهدد هذه المصالح المشتركة بين أميركا وحلفائها من العرب وبين الجماعات الإسلامية التي نوهنا إليها إلا بعد تحرير العاصمة أو قبيل ذلك بقليل ودخول المجاهدين كابول وتولي أول حكومة للمجاهدين بزعامة صبغة الله مجددي حين بدأ بعض الدول العربية يمارس ضغوطاً على حكومة المجاهدين من أجل ترحيل "الأفغان العرب" إليها وعدم منحهم حق الإقامة أو الجنسية. وخشي آلاف الشباب العربي من العودة إلى بلدانهم في تلك الآونة مع تزايد المعلومات عن وجود تدابير أمنية مشددة تواجه كل العائدين من أفغانستان. وعززت هذه المخاوف بقوة الإعلان في مصر عن تشكيل محكمة عسكرية استثنائية لمحاكمة "العائدين من أفغانستان" وفي أقل من شهر صدرت أحكام بإعدام عشرة متهمين منهم وأحكام أخرى مشددة بالسجن على باقي المتهمين فيها. ومن داخل مخيمات الترقب والانتظار صدرت دراسات تعكس مدى خطورة الأجواء التي تتجمع دخانها في الأفق وكان أخطرها بالتأكيد "العمدة في إعداد العدة" الذي عُدّ دستوراً لجماعة "الجهاد" المصرية. وناشدنا الحكومة المصرية آنذاك بضرورة إصدار قرارات تشريعية وتنفيذية تؤدي إلى العفو عن كل الشباب الذين شاركوا في الجهاد على أرض أفغانستان والعمل على عودتهم الى بلادهم لكن أحداً لم يسمع تلك النداءات المخلصة. وكان طبيعياً أيضاً أن تكون المعسكرات المفتوحة داخل أفغانستان على الحدود الباكستانية هي المكان المناسب لإيواء آلاف المضطرين إلى البقاء فيها هرباً من مصير مجهول داخل بلدانهم ثم تنقلوا بين دول البلقان نصرة للمسلمين المضطهدين فيها ومعاونتهم بما اكتسبوه من خبرات قتالية أثناء فترة الجهاد الأفغاني ضد الروس فشاركوا في البوسنة وكوسوفو والشيشان وما زال كثير منهم هناك. لم نقصد مما سردناه أن نقدم تبريرات للأفغان العرب بقدر ما أردنا أن نقدم صورة تبرز تفاصيل وحقائق تتعلق بالظروف التي احاطت بوجودهم أولاً وأيضاً تلك التي أعاقت عودتهم إلى بلدانهم بطريقة اعتيادية، وندلل على أنهم لم يكونوا تجار حروب مرتزقة. نختلف أو نتفق مع بعض أفكارهم لكن كان مهماً أن نلقي الضوء حول تداعيات الأحداث التي جعلت منهم "إرهابيين" بفعل الظروف الدولية واصطناع أدلة وهمية ساقت بعضهم الى أعواد المشانق حيناً ومغارات الجبال وكهوفها الوعرة حيناً آخر. * محامٍ مصري.