} الروائي النيجيري المقيم في أميركا تشينوا اتشيبي صاحب الرواية الأفريقية ذائعة الصيت "الأشياء تتداعى" 1958 قدم في ثلاث محاضرات القاها في هارفارد ونشرت أخيراً في كتاب، آراء مثيرة للجدل بخصوص الأدب الأفريقي. يعزو تشينوا إتشيبي إقباله على الكتابة الى ثلاثة حوافز: اولاً الى ما كان عنده من داعٍ قاهر الى إخبار قصة، وثانياً، لتوافر ملامح قصة فريدة تترقب الانبثاق، واخيراً، بفضل ما تعلمه خلال عملية الكتابة، من إعتبار المشروع برمته يستحق المشقة التي كان لا بد له الكاتب من تجشمها في سبيل ان يحمل ثمراً. غير ان هذه أسباب من الحيادية، والغموض، ما يجعلها تصدق في حال معظم الناس ممن يقبلون على مزاولة كتابة القصة، وما يجعلها، بالتالي، تقصر عن تفسير الاسباب الكامنة خلف إقبال احد ابرز الروائيين الافارقة على إنتاج ما يعتبر اليوم، بل ومنذ صدور روايته الاولى "الاشياء تتداعى" عام 1958، الرواية الافريقية بإمتياز. والباعث على الحيرة فعلاً ورود هذا التصريح في سياق ما يرويه الكاتب لكيفية افلاح الكتّاب الافارقة، وتحديداً الجيل الذي ينتمي اليه إتشيبي ممن بزغ نجمهم في عقديّ الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حقّ ان يسردوا قصتهم بأنفسهم. وكان هذا الحقّ قد أحتكر لما يربو على ثلاثة قرون من قبل كتّاب اوروبيين اقبلوا على كتابة "الرواية الافريقية" بتصورات متحاملة، ومفترضة مسبقاً، وبخبرات عابرة في الارتحال والاقامة في القارّة التي ما انفكت موضوع سياسة عدوان واستيلاء خلال القرون المعنية. بيد ان سياقاً سردياً إختزالياً كهذا الذي يسوقه إتشيبي لا يترك مجالاً كبيراً للحيرة. فثمة درجة من الوضوح ما يكشف بأن تعيين الكاتب اسباباً حيادية لإقباله على الكتابة إنما هو من قبيل الحرص على حماية رواياته من النظرة الايديولوجية الضيقة التي ينظر فيها هو نفسه الى تاريخ "الرواية الافريقية"، لا سيما تلك المكتوبة من قبل الاوروبيين. فيوقن إتشيبي انه لو كان صرح بأن إمتهانه مهنة الكتابة هو من قبيل الرد على ما كتبه الاوروبيون عن افريقيا لما كان أسدى لنفسه خدمة جليلة طالما اننا نعيش في عهد يحطّ فيه من شأن الاعمال الادبية المكتوبة بدوافع سياسية، فما بالك اذا كانت الدوافع السياسية من قبيل تلك التي ينسبها إتشيبي الى ما كتبه الاوروبيون عن افريقيا. فينطلق إتشيبي من التسليم ببديهة ان تقليداً ادبياً كتقليد الكتابة البريطانية ما كان له ان يشرع ويزدهر الاّ في خدمة حاجة ما. بل ويسارع الى تعيين هذه الحاجة ب"تجارة العبيد" من دون ان يكلف نفسه مشقة تأسيس صلة ملموسة ما بين الادب المذكور وتجارة العبيد مكتفياً بتوكيد إنشائي لما كان قد افترضه اصلاً: "لا يدعنا المضمون والاسلوب والتوقيت في شك بأن إنتاجه كان خدمة ملحقة الى تجارة العبيد." ولئن صدع الكاتب بالحياة المستقلة للادب المذكور، بمعزل عن العلاقة الانعكاسية التي ينسبها اليه اصلاً، فإنه لا يفعل ذلك من قبيل الاستدراك بأن الكتابة الادبية، والكتابة عموماً، تحكمها جملة من الاسباب والعوامل الانشائية الخاصة بالتقليد الادبي الذي تندرج فيه او بالتركيب المعنويّ للعبارة او ببنيتها النحوية مما يحول دون ردّها الكتابة الى السياسة مهما بلغت السياسة المعنية من الهيمنة. وإنما يضطر الى ذلك من باب الحاجة الى سوق تاريخ متماسك لشيوع سردّ اوروبيّ لافريقيا يقوم على إساءة تصوير متقصّد غرضه، اولاً، خدمة تجارة العبيد، وثانياً، تبرير السياسة الكولونيالية. فلقد أُبطلت تجارة العبيد في القرن التاسع عشر، غير ان الادب الذي ظهر في خدمتها وازدهر لم يتوقف او يخبو وإنما استمر، اولاً لأن للادب حياة مستقلة وثانياً لكي يخدم مرحلة جديدة من التعاطي الاوروبيّ مع افريقيا: الاحتلال والكولونيالية. ولم تتوقف إساءة تصوير الافارقة الى ان ظهر هو وابناء جيله من الكتّاب الافارقة الذين انتزعوا حقّ رواية القصة الافريقية "الاصليّة". وليس من المستغرب انكفاء اتشيبي الى الموقع الذي انطلق منه اصلاً، اي إفتراض علاقة إنعكاسية ما بين الادب الاوروبي المكتوب عن افريقيا والسياسة الاوروبية تجاه تلك القارّة. فهو الى تسليمه اولاً بأن تقليد الكتابة البريطانية انما نشأ وشاع إستجابة لتجارة العبيد ويعود ويسلّم ثانية بأن الانسان "حيوان صانع قصص" نادراً ما يفوّت فرصة إرفاق اعماله وخبراته بقصص مطابقة لها. وبما ان الاستعمار كان عملية، او خبرة، انتزاع ملكية الآخرين، فلقد كان المستعمر بأمس الحاجة الى قصة تبرر إقباله على هذه العملية، وبالتالي على راوية قصة كهذه. بل ويمضي إتشيبي الى صوغ المرافعة المعهودة للدفاع عن سياسة التوسع الامبراطوري في سياق دراميّ إفتراضيّ: "لنتصوّر ان رجلاً أطل لكي يأخذ ارضي مني. اننا لن نتوقع منه ان يقول انه يفعل ذلك بسبب جشعه او لأنه اقوى منيّ... لذا فإنه يستأجر راوية قصص صاحب خيال خصب كي يختلق حكاية ملائمة للمقام، كأن يقول ان الارض المعنية لا يمكن ان تكون ملكي لانني لم أُظهر شهية لكي استخدمها في شكل يتوافق مع الانتاجية القصوى والنفع." مثل هذا التصوير هو خلاصة نموذجية لوعي الكاتب للادب الاوروبيّ حول افريقيا وللدور الذي نيط به في حقبتيّ تجارة العبيد والسياسة الكولونيالية. وتبعاً للسرد الذي يتقصدّه إتشيبي، فإن هذا الوعي استيقظ بعد قراءة رواية "مستر جونسون"، وهي رواية مغمورة لكاتب انكليزي، مغمور، يدعى جويس كاري. ولقد شاءت الصدف ان عمل كاري في سلك الادارة البريطانية في نيجيريا في فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى قيضّ له ان يكتسب من الخبرة ما خولّه كتابة رواية عن المكان عينه الذي نشأ فيه إتشيبي. انه لمن خلال الفارق الجليّ ما بين الصورة التي تقدمها رواية "مستر جونسون" لنيجيريا، وهي صورة تصغيرية وإحتقارية لحياة الافريقي، وما بين معرفة الكاتب اتشيبي الوثيقة لموطنه، أيقن هذا الاخير ان القصص ليست بالبراءة التي كان ينسبها اليها من قبل. هذا الشك ببراءة القصص، بمصداقيتها وحيادها المزعوم برهن له مع الايام على حاجة مسيسة الى قصة تُروى من الطرف الآخر: قصة افريقية يكتبها افريقيّ. وما هذه، بحسب السرد الذي يسوقه إتشيبي على وجه مختزل بما يضمن له التماسك المنشود، الاّ بداية رحلة مزدوجة في سبيل استعادة الحق المنزوع في إخبار القصة الافريقية من قبل الافارقة انفسهم، ولكن ايضاً في سبيل إستعادة ملكياتهم المنزوعة من قبل المستعمِر. وكما سبق الإشارة، فإنه بفعل وعيّ لتاريخ الرواية الافريقية كهذا، يحرص إتشيبي على ان ينسب اسباباً حياديّة الى إقباله على الكتابة. وان لمن غير المستهجن ان ترد الاسباب الحيادية المذكورة رداً على ما أُشيع طويلاً بأن رواية "الاشياء تتداعى" لم تظهر سوى كرد مفحم على رواية جويس كاري "مستر جونسون". إشاعة كان إتشيبي نفسه، ايام الاحتفاء ب"الادب الملتزم"، قد بارك إنتشارها. فهو إنما يشاء الآن ان يُبعد شبهة الالتزام ب"السياسة الافريقية" التي ازدهرت عهد مناوئة الاستعمار وما تلاه من إستقلال وطنيّ، عن اعماله الادبية، فلا يضطر الى تقويمها على نحو ما يقوّم الروايات الاخرى التي يتناول في تاريخه المختزل هذا. وهو لو عمد الى محاسبة ما يرد في رواياته من وصف وتعبير على نحو ما يحاسبها في اعمال جويس كاري والزبث هكسلي وجوزيف كونراد وفي. أس. نايبول، اي باعتبارها تعبيراً عن الآراء السياسية للمؤلف نفسه، لانتهى الى إعتبار اعماله بمثابة بيان إحتجاج ادبيّ. إن إتشيبي، وهذا جدير بالايضاح، كاتب "مخضرم". فهو ينتمي الى عهد الاحتفاء بالادب الذي يعمل في خدمة التحرر، كما ينتمي الى عهد التقليل من شأن هذا الادب باعتباره أدب احتجاج وحسب شعاريّ الطابع. لهذا فإنه لم يمانع في البداية ان توصف رواية "الاشياء تتداعى" كرد على رواية "مستر جونسون"، غير انه مع انقضاء الاعوام ونهاية الاحتفاء ب"الادب الافريقي" بإعتباره ادباً "تحررياً"، بل وانقلاب الامر الى ما يشبه نظرة تصغير احتقارية، كان لا بد له من يؤكد "فنية" اعماله الادبية، متوسلاً، على ما رأينا، اسباباً غير سياسية لإقباله على الكتابة. بيد ان الازدواجية التي تسم وعيّ إتشيبي ليست محض تعبير عن محنة كاتب يحاول الدفاع عن فنيّة اعماله الادبية ولكن من دون التخليّ عن الوعي الايديولوجيّ الذي نشأ عليه. وإنما هو وعيّ مزدوج لمن يحرص على الظفر بهبات العالمين، او العهدين الذين إنتمى اليهما. فهو شأنه في ذلك شأن عدد من ادباء العالم الثالث حريص، من جهة اولى، على ان يجاري القيم الجمالية الشائعة اليوم، اي تلك التي تُعيب شبهة "الإلتزام السياسي" في الادب، في حين انه من جهة ثانية لا يتورع عن إطلاق آراء وتحليلات تستمد مقدماتها وفرضياتها من عهد الاحتفاء ب"الالتزام السياسي" المنقضي. بكلمات اخرى، فإن الازدواجية التي يعبر عنها إتشيبي انما هي نتيجة إذعان محسوب يكفل للاديب الفوز بعطايا كل عهد. لهذا فإننا نراه مرة يُعيب على الروائية الافريقية يوتشي إميتشا افتخارها بأن اعمالها لم تعد تُصنف في باب "الادب الافريقي"، معتبراً الامر بمثابة اعراب عن وعيّ النفس المعطوبة للإنسان منتزع الملكيّة، لكنه في مرة اخرى، لا يتورع هو نفسه عن الزهو بالنجاح الذي احرزته "الرواية الافريقية" في سوق الكتب البريطانية. وهو المقيم في الولاياتالمتحدة منذ اعوام يزعم انه احجم حتى الآن عن كتابة رواية تدور احداثها في اميركا لأن هناك من الكتّاب الاميركيين من يؤدي مثل هذه المهمة في حين انه ليس هناك ما يكفي من الروائيين في نيجيريا. واذا ما بدا هذا الكلام بمثابة إعتذار كيّس لإقامة الكاتب المديدة في غير البلاد التي ما انفك ملتزماً الكتابة عنها، فإن النصيحة التي يسديها للكتّاب الافارقة ممن يطمحون الى الذهاب الى نيويورك او لندن، ينعدم فيها ايّ اثر للكياسة: "لا تعذبوا انفسكم بإحضار رسالتكم شخصياً. اكتبوها حيثما تقيمون واحملوها اسفل الدرب المغبّر الى مركز بريد القرية وارسلوها!" ولكن لماذا لم يكتف هو نفسه بإرسال الرسالة من بريد القرية الى لندنونيويورك؟ لماذا لا يعود الى وطنه؟ ولماذا لا يعود العشرات من امثاله ممن يزعمون إخلاصاً لا يتزعزع للأوطان الاولى؟