منذ حوالى السنة ورئيس الوزراء الاسباني، جوزي ماريا اثنار يقف أمام خيار صعب، وربما الأكثر دقة طوال سيرته الحالية في السلطة. اذ كان عليه ان يتخذ في فترة محددة قرارين يُترك للتاريخ الحكم عليهما لناحية الصوابية والتوقيت. الأول، يتعلق بتسمية خليفته كمرشح للانتخابات التشريعية في العام 2003، والثاني، يتلخص بتعيين رئيس جديد لجهاز الاستخبارات المعروف باسم السيسيد CESID أو المركز الأعلى لمعلومات الدفاع وانتهى الأمر بإثنار، ان بدأ بالخيار الثاني، مراهناً على عامل الوقت المتبقي لحسم الاستحقاق الثاني. عقدة "المورو" إن تعيين المرشح الأكفأ للمركز الأكثر حساسية في اسبانيا، يعني عملياً اتخاذ القرار بإعادة صوغ الخيارات الاستراتيجية للدولة التي تطمح الى ان تصبح قوة اقليمية متوسطية. فخلال فترة 14 عاماً من حكم الاشتراكية بقيادة "فيليبي غونزاليس" من 1981 وحتى 1995، كان الخيار مثلث الاتجاهات: أوروبا في الدرجة الأولى التي طالما سعت مدريد لتكون شريكاً كاملاً وأساسياً في بنياتها الوحدوية والافادة من سعة أسواقها؟ تليها اميركا، الأرضية الطبيعية للتوسع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الضروري. أما ثالث هذه التوجهات، فقد توزع بين العالم العربي الغني بالثروات النفطية والغازية والرساميل التي تبحث عن الاستثمار، وبين آسيا المراكز المالية الحديثة والأسواق الناشئة التي جذبت في تلك الحقبة الاستثمارات العالمية الخارجية المباشرة بكثافة لافتة. أما التوجه الذي سلكه إثنار وفريقه في الحكم فكان عبارة عن انعكاس لحال الأوروبي المقتنع بمعاهدة "ماستريخت" بإيجابياتها وسلبياتها. والأميركي الذي لديه شعور بالقرب من القارة التي كانت تشكل في يوم من الأيام جزءاً لا يتجزأ من الامبراطورية الاسبانية. كذلك، الشخص المتأثر بالعولمة وفوائدها الممكنة بالنسبة الى اقتصاد اسبانيا المنفتح في آن معاً على محيطه المتوسطي وعلى التجربة الآسيوية بتركيبتها الثنائية الحالية، المؤلفة من اليابان والصين، خصوصاً بعد ضم هونغ كونغ والسعي الدائم لابتلاع تايوان. حتى هذه اللحظة كان كل شيء يسير بحسب ما هو مرسوم من اللوبي الصناعي المالي الذي أوصل إثنار على رأس السلطة التنفيذية. لكن، خلافاً لكل التوقعات، فاجأ الجميع، بجنوحه نحو اختيار شخصية منبثقة من بوتقة ما يطلق عليهم في مدريد لقب "المورو" اي المتعاطفين مع كل ما هو عربي لتولي المركز الأكثر حساسية الذي أشرنا اليه. هكذا، فقد وقع الاختيار على جورج ديزكالار الذي خدم سنوات طويلة سفيراً لبلاده في المغرب. الأمر الذي أثار زوبعة في صفوف الطبقة السياسية اليمينية وازدراء لدى المجموعات المالية التي اعتبرت القرار بمثابة خيانة للتحالفات وحتى للطبقة التي ينتمي اليها إثنار. ورأى بعض المحللين السياسيين في هذه الخطوة بعد نظر في استباق التحولات المستقبلية في المنطقة كان لا بد لاسبانيا من ان تكون مستعدة لاستيعابها وقطف ثمارها. فالخيارات الاستراتيجية كما يقول أحد المقربين من رئيس الوزراء الاسباني لا بد من أن تكون غير بعيدة من العالم العربي عموماً ومغربه خصوصاً في المرحلة المقبلة. فالقرارات الأكثر صعوبة التي يتحتم على الحكومة الاسبانية اتخاذها في العقد المقبل لن تأتي من أميركا اللاتينية ولا من آسيا التي أفل نجمها المالي بسرعة وغرقت في مستنقع الابحاث الاقتصادية التي ستزداد حدتها بحسب توقعات الخبراء. فجوزي ماريا إثنار، والحال هذه، خير من يعرف الرجال والأوضاع السياسية ومشكلات الخلافة، خصوصاً بالنسبة الى الأنظمة الملكية وأيضاً الى الجمهوريات الملكية، كذلك بالنسبة الى الحركات الموجودة في اعماق مجتمعات العالم العربي. مع ذلك، فالثنائي إثنار ديزكالار ينقصه طرف ثالث كي يتأقلم بسهولة مع الخيارات الجديدة. بمعنى آخر، انضمام بعض اللوبي المالي الذي يحصنه ويعطيه دفعاً يمكنه من مواجهة خصومه الاشتراكيين وحلفائه الشوفينيين. ومن غير المتوقع ان تحصل هذه المعجزة في المدى القريب كي يركب إثنار معادلته المنشودة. فإيميليو بوتان الرجل الأقوى في اسبانيا، رئيس مصرف "ستاندارد سنترال هيسبانو"، صانع السياسيين والرؤساء وأحد رجال "الغوتا" الغربية التي تشارك في صنع القرارات المصرفية في العالم، ليس مقتنعاً البتة بخيار إثنار. فهو كان يتوقع اختيار رجل ذي ميول أميركية بحتة وحتى آسيوية، لكن تعيين "مورو" في هذا الموقع يعتبر خروجاً على المبادئ بالنسبة الى بوتان. فهذا الواقع يشكل بحد ذاته عقبة اضافية لحل ايجابي للتشنجات القائمة بين اسبانيا والمغرب نتيجة عدم تجديد اتفاقات الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي والفشل في التوصل الى تفاهم حول مسألة الهجرة السرية. ويعتبر الاستراتيجيون الاسبان أن حكومة الرباط بقيادة الاشتراكيين تلعب على التناقضات الموجودة بتشجيع من زملائهم الاشتراكيين الفرنسيين. فحتى لو كانت اسبانيا متقاربة مع فرنسا حيال بعض الملفات الا ان وزن باريس يبقى أثقل، ما يسمح للادارة المغربية بالدخول في صراعات جانبية مع اسبانيا بهدف الحصول على تنازلات اكبر في مجال العلاقات الثنائية. على أية حال، فالثنائي إثنار دازكالار يدرك جيداً بأن فرنسا تملك أوراقاً أكبر على مستوى العلاقة مع المغرب. فهذا البلد بني خلال فترة الاستعمار الفرنسي على أسس تجعله يدور في فلك باريس. وبالتالي، فإن خياراته تبقى مرتبطة الى حد كبير بتوجهات فرنسا. مع ذلك، فوجود نحو من 800 شركة اسبانية في المغرب، اضافة للبنيات التحتية القائمة بين البلدين، كذلك برامج التعاون في شتى المجالات والروابط التاريخية التي تجمعهما خصوصاً بين اسبانيا والشمال المغربي، يمكن ان تحدث مع الوقت التوازن المطلوب مع فرنسا، فالرباط تعلم اليوم تماماً بأن هذه الأخيرة على رغم كونها المصدر الأول لا تستطيع ان تقدم العون اللازم الذي تحتاجه منطقة الشمال الريف في عملية التنمية. وتأخذ الدولة المغربية التي تصالحت أخيراً مع شمالها بعد زيارة الملك محمد السادس لها في الحساب دور اسبانيا في تحسين أوضاعها، هذه المنطقة المحرومة التي شكلت على الدوام بؤرة عدم استقرار بالنسبة للنظام. ويتهم الاسبان "حزب فرنسا" في الادارة المغربية بالعمل على افشال الصيغ المطروحة لإقامة شراكة بين البلدين علماً انه خلال عهد الملك الحسن الثاني كانت الأمور تحسم من قبله في نهاية المطاف لمصلحة الجارين. لعبة التحالفات وآفاقها تحاول إسبانيا منذ سنوات لعب دور استراتيجي في منطقة غرب المتوسط. وتسير التطورات الأخيرة، الجارية على الساحتين السياسية والعسكرية الى وجود رؤيا لتبدل التحالفات وبروز خريطة جغراسياسية جديدة في محيط مضيق جبل طارق. فالدور التقليدي المنوط بفرنسا في المتوسط وفي بلدان المغرب العربي الذي هو من نتاج الموقع والحقبة الاستعمارية بدأ بالتراجع لمصلحة اسبانيا التي تريد فرض نفسها كقوة اقليمية بمفهومها السياسي وحتى الاقتصادي. فاجتماع اللجنة العسكرية الاسبانية المغربية المشتركة في بداية حزيران يونيو الماضي في مدريد، وتنظيم مناورات بحرية مشتركة في المضيق، وصولاً للتدريبات العسكرية الدورية للقوات المغربية التي تتم في اسبانيا وزيارة الرئيس الأميركي بوش للعاصمة الاسبانية وإنتهاء بالمحادثات لإقامة قاعدة لحلف شمال الاطلسي في فالينسيا والاختراقات التي تتم تدريجاً للقطاعات المتعارف على تسميتها بالاستراتيجية مثل الهيدروكربورات، أنابيب الغاز عبر أوروبا، الاتصالات وشبكات الكهرباء، كلها جعلت من اسبانيا محاوراً يصعب بعد اليوم تجاوزه بسهولة والالتفاف على دوره في اللعبة الجغراسياسية الدائرة حالياً. فاجتماع مدريد هذا كان، خلافاً لكل المعلومات التي رشحت في حينه، مهماً للغاية وناجحاً على رغم ازمة الصيد البحري التي كانت في أوجها آنذاك. فلم يكن هذا الاجتماع بمثابة فرصة لقوات الجيش الملكي المغربي لتأكيد ثبات العلاقات وتطورها مع اسبانيا فحسب، بل رسالة واضحة لمن يهمه الأمر بأن التباينات السياسية والديبلوماسية التي أخذت منحى حاداً، لا يمكن ان تمس عمق التحالف الاستراتيجي القائم. هذا ما أكدته صحيفة "لا ريزون" المقربة من الاجهزة الاسبانية، التي تتابع بدقة هذا الملف. فالاجتماع الذي بدأ بلقاء في مقر قيادة أركان القوات المسلحة الاسبانية بحضور كل من الجنرال عبدالعزيز بناني عن المغرب والأميرال انطونيو مورينو بابربيرا. ففي الاجتماعات التي تتالت على مدى ثلاثة أيام، بحث الطرفان الوضع الاستراتيجي العسكري في المنطقة، السباق على التسلح، مشكلة الصحراء الغربية وانعكاساتها على التوازنات الاقليمية. أبدى المغرب خلالها رغبته بالحصول على اسلحة اسبانية متطورة خصوصاً بعد لجوء الجزائر الى شراء اسلحة متقدمة من روسيا، اضافة للمخاطر الناجمة عن قيام هذا البلد بالتوجه نحو التسلح النووي من خلال انتاج البلوتينيوم في قاعدة "عين سرّة" العسكرية. معلومات سبق وأكدتها "نشرة علماء الذرة" المعروفة بجديتها ودقة معلوماتها من خلال مقالات نشرها عدد من المفتشين الذين عملوا في اطار "الأنسكوم" في العراق مثل ديفيد أولبرايت، وكوداي هندرستاي الذين أشاروا الى انه باستطاعة الجزائر انتاج 15 كلغ من البلوتينيوم لإحتياجات عسكرية في المدى المتوسط. في هذا السياق، ذكّر المغاربة محاوريهم بحصول الجزائر على قاذفات من طراز سوخوي 24 وطائرات حربية مقاتلة ميغ 29 و31 من روسيا وأوكرانيا بهدف تحقيق أرجحية بالتوازن مع المغرب. وأفادت المعلومات التي سرّبها الاسبان عن قصد بأن الملك محمد السادس طلب خلال زيارته للولايات المتحدة من المسؤولين في البنتاغون والبيت الأبيض معاملة عسكرية مماثلة لتلك المعتمدة مع مصر أو على الأقل الحفاظ على توازن معقول للقوى العسكرية في منطقة المغرب العربي ومنع أي اختلال فيها في المستقبل. ومن النقاط المهمة التي أثيرت في هذا الاجتماع النوعي، امكان التقدم باتجاه بناء حلف أمني في منطقة غرب المتوسط. فهنالك اهتمام ملحوظ من قبل دول المنطقة، كذلك لدى دول غرب الاتحاد الأوروبي وحتى داخل مصادر القرار في حلف شمال الاطلسي. فتقريب بلدان المغرب العربي من المنظمة الاطلسية، تحديداً المغرب، تونسوالجزائر ومستقبلاً ليبيا بحسب بعض المصادر التي حظيت حتى الآن بعروض استنسابية بحسب الحاجة والامكانات المتاحة، كذلك تطوير العلاقات الثنائية مع الولاياتالمتحدة التي يلعب فيها مشروع الشراكة الأميركي المغاربي، المعروف بمبادرة "أيزنستات" دوراً مهماً، يمكن ان تشكل بداية لإنشاء تحالف اقليمي بين الدول المذكورة والأخرى المعنية بالأمر مثل: اسبانيا، البرتغال، فرنسا وايطاليا. من جهة اخرى، يشار الى ان زيارة رئيس الوزراء الاسباني لتونس ليست مهمة فقط من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، وأيضاً من الناحية الاستراتيجية. اذ تلعب تونس اليوم في نظر الاستراتيجيين الاسبان دوراً أساسياً في شمال افريقيا بحكم اعتدالها وتدخلها المقبول لتضييق شقة الخلافات بين الجيران المغاربة. كما يمكّنها استقرارها السياسي والاجتماعي من التحرك بحرية وبسهولة اذ باتت تعتبر بمثابة الدينامو الذي لا غنى عنه للخطوات المشتركة التي تخفف الحدة في منطقة غرب المتوسط. ويأتي انفتاح ليبيا باتجاه المدى المتوسطي ومشاركتها في كل الاجتماعات الاقليمية، بما فيها التي عقدت في فالنسيا لمعالجة مشكلات الارهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية في هذا الاتجاه. وتشير بعض التقارير التي اعدتها اللجان المختصة داخل الاتحاد الأوروبي بأن التقارب الكبير الحاصل حديثاً بين واشنطنومدريد في اطار الخطط الاستراتيجية الخاصة بالقوة الأعظم في العالم، جعلت من هذا الحليف الأوروبي الجديد شريكاً مفضلاً وقوة اقليمية مكملة. فحصول شركة "جنرال ديناميكس" الأميركية على غالبية حصص شركة "سانتا بربارا" الاسبانية لصناعة الاسلحة، وإعطاء رخصة لشركة "لورال" الأميركية لاطلاق قمر اصطناعي للاتصالات الاسبانية، تؤكد على متانة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين. ويسحب هذا التقارب نفسه أيضاً من خلال توسيع القواعد البحرية الجوية الأميركية الموجودة في روتا ومورون في اسبانيا، كذلك فإن نشوء محور روتا فالنسيا، المقر الجديد لقوات التدخل السريع لمنظمة حلف شمال الاطلسي، سيضعف من دون شك السيطرة الفرنسية على المنطقة. بناء عليه، يبدو أن قادة المغرب العربي أدركوا جيداً طبيعة هذه التحولات التحالفية الكبيرة وأبعادها. لذلك اخذوا منذ فترة بتركيز اهتماماتهم على مدريد. * اقتصادي لبناني.