أن تختار عدواً مرهوب الجانب، يعني، قبل كل شيء، احساسك بالرضى عن النفس. وفي حالة أميركا، هذه القوة العظمى، شكّل العداء لها السمة البارزة لثقافة النصف الثاني من القرن العشرين. هنا إنجذب المثلث المتنافر الأهداف، الأدب والفكر والسياسة، إلى هذه الكأس للإرتشاف منها. شبّه أحدهم أميركا قبل ثلاثة عقود بحيوان هائل الحجم، لا يعرف أي طرف منه ما تفعله الأطراف الأخرى. الآن يمكنني أن اضيف إلى ذلك: حين يصاب أحد تلك الأطراف بأذى بليغ، تركّز بقية الأطراف قوتها العضلية ضمن فكين بأسنان حادة. في النصف الأول من القرن العشرين كان خلاف الأدب مع أميركا ثقافياً بحتاً، وأوروبياً بالدرجة الأولى. في النصف الثاني أصبح سياسياً مغلفاً بالثقافة، وشرقياً، للعرب النصيب الأكبر فيه والأشد هوساً. الأسباني غارسيا لوركا خص أميركا بقصيدة طويلة 1940 صور فيها الحياة الأميركية. في النصف الثاني من القرن العشرين توجه عدد من الشعراء العرب المهمين إلى نيويورك ليكتبوا عنها شعراً، لكنهم ركزوا على الفقر، ذلك إن حقائبهم كانت مليئة بالقطط السوفياتية الكثيرة الشكوى من الجوع، إلى أن يسيطر على النظام حاكم مثل كاسترو أو منغستو أو علي سالم البيض أو ميلوشيفيتش، فيعمّ الشبع كل الناس! بالنسبة الى الاسماء الأقل شهرة لا يوجد شاعر أو قاص أو روائي، ناهيك عن الصحافيين، لم يرتشف من، او تمس شفتاه هذه الكأس، والعدد الضئيل الذي لم يحسب له أي حساب، ممن كتبوا ضد أميركا وأشاروا في الوقت نفسه إلى أخطاء موسكو، نظر الجميع إليهم بريبة، وكان السؤال الذي يعصف بأذهان ذاك الجميع: إذا كنتَ معادياً لأميركا، كيف تنتقد الإتحاد السوفياتي إذاً؟! على صعيد الفكر، وما زلنا نتحدث عن النصف الثاني من القرن العشرين. حلّق بعض المفكرين العرب في خلاصاتهم السوسيولوجية على مقربة شديدة من الكأس ذاتها، وهوى البعض الآخر داخلها، والبعضان مثنى بعض أسسا شهرتهما العامة على العداء للغرب عموماً، بينما اكتفى مفكرون وكتّاب آخرون، أقل خيلاء، بشهرتهم داخل أوساطهم الجامعية. في نهاية الستينات عندما وصل ادوار سعيد إلى بيروت واختلط بمجالس الكتّاب والمفكرين ليفسر دعوته للسلام بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وجد النبض الثقافي العام محموماً في كراهيته لأميركا والغرب، واكتشف أيضاً أن وزير خارجية أميركا السابق سايروس فانس لم يوافق على دور الوسيط الذي كان ينشده سعيد في عملية السلام، لأن الرجل يعرف أن ياسر عرفات يخشى الطموح الشخصي لدى فلسطيني واحد أكثر مما يخشى كل الذين تولوا جهاز الموساد مجتمعين. لذلك عاد ادوار سعيد إلى أميركا وكتب أول عمل كبير له "الاستشراق"، ليحلل، في إنتقائية واضحة، الخلفية الاستعمارية لعملية الاستشراق، واضعاً الأدب والجغرافيا والسياسة والفكر في سلة واحدة رمزت إلى ما سماه: العقل الغربي الاستعماري العنصري. ولأن النبض الذي ساد جهده التحليلي كان سياسياً بالدرجة الأولى، وشرق اوسطياً بالدرجة الثانية، ضاعف لائحة المدانين لتشمل ادباء لا يتطرق الشك إلى نزعتهم الإنسانية في معاركهم الفكرية ضد كل أشكال الإستعباد، مثل: البير كامو. أو التشبث بالرمز السطحي في مواضيعهم، مثل: روديار كيبلينغ. يقول اكتافيو باث، عندما يتطرق إلى أعمال كيبلينغ المتحمس للإمبراطورية الإنكليزية ونيرودا المتستر على جرائم الشيوعية أو عزرا باوند المأخوذ بالنازية وجان بول سارتر الذي يغمض عينه عن معسكرات الإعتقال الستالينية بأن قوة أدبهم غفرت لهم مواقفهم القديمة الخاطئة. هذا ما عنيته بالفرق الذي ساد الخلاف الثقافي بين الأوروبيين وأميركا، والخلاف السياسي المغلف بالثقافة بين الكتّاب العرب وأميركا. في ما يتعلق بالسياسة، النبع الأصلي للعداء، سيطرت مشاعر العداء لأميركا والغرب على العاطفة الشعبية للعرب بعد ثلاث سنوات من انقلاب الضباط الأحرار في مصر 1952 وخنقت منذ ذلك الحين كل رأي مختلف، كما شلّت أي نظام معتدل. وفي بداية السبعينات، إثر سلسلة طويلة من الإنقلابات العسكرية، أصبح العداء حالاً عصابية عامة لم يفلت من عدواها أي مجتمع عربي، ولم يكتف الضباط الشبان الذين سيطروا على الحكم في بلدانهم بالإرتشاف من تلك الكأس، بل حطموها بأسنانهم، رغبةً في إظهار العداء في صورته الأنقى. وفي ذروة نشوتهم، التي زمّر لها رهط كبير من المثقفين والأحزاب، ذهبوا بعيداً في مشاعرهم المعادية حين طالبوا بمقاطعة سلع الغرب وأغذيته المعلبة وسجائره وأفلامه. المهزلة في هذا التطرف الذي كان يجد صداه الطيب يومياً في نشرات "نوفوستي" السوفياتية، أن هؤلاء الحكام الجدد التقدميين كانوا أول من تراجع عن شعارات المقاطعة المقدسة عندما قاد الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز معركة جادة ضد مصالح الغرب، وهي معركة النفط الشهيرة 1973 حين تهربوا من إيقاف ضخ النفط إلى أسواق الغرب، بذريعة حاجتهم إلى المال للتسلح وتحرير فلسطين! وكان على رأس المتهربين أكثر الحكام العرب تصوفاً في كراهيتهم المعلنة لأميركا والغرب. لنتفحص الآن أخلاقية هذا العداء، اصوله، وجدواه! وراء كل معركة توجد قضية ما، تنمو وتكبر في عقل راكز فيصاحبها النبل والشجاعة، أو في عقل طائش فيرافقها التهور والمخاتلة. وبصرف النظر عن شرعية حق اليهود في إقامة دولة لهم في المنطقة أو عدم شرعيته، جاء إنشاء دولة اسرائيل خاطئاً في اسلوبه وتوقيته، إذ كان بمقدور اليهود لستُ هنا بصدد تقديم حلّ جديد بعد فوات الأوان تثبيت وجودهم إلى جانب الفلسطينيين ديموقراطياً، وهم قادرون اليهود بخبراتهم، والثقة التي منحها إياهم العرب قديماً، على توسيع دورهم في المساهمة ضمن كيان واحد، يُترك للزمن والتطور الحاصل في مفهوم المشاركة الديمقراطية ترجيح كفة هذا الشريك أو ذاك في الأداء الوطني، الذي يحدد، في النهاية، صورة البلد والنظام القائم فيه، ويبدو أن الزمن، في دوراته التي تطحن المشاكل والأحقاد والعداء والصداقات، سينتهي بالأمور إلى هذا الشكل من العلاقة بين الفلسطينيين واليهود في الحقب المقبلة. كان وراء إنقلاب عبدالناصر ورفاقه على النظام الملكي السابق رغبة ملحة في مواجهة دولة اسرائيل الجديدة، إلاّ أن تلك الرغبة قامت على حسابات عسكرية في الدرجة الأولى، لذلك حين رفضت أميركا طلبه الأول بتسليح مصر، حوّل الطلب نفسه إلى الإتحاد السوفياتي، فوافقت موسكو على الفور، المحاصرة من قبل الغرب عسكرياً واقتصادياً وثقافياً وأمدته بأسلحة من تشيكوسلوفاكيا. ويكمن خطأ عبدالناصر، الذي دفع ثمنه بعدئذ هو والعرب، في تسرعه، وفي البعد العسكري الذي احتل الجانب الأكبر من تفكيره، لأن التسلح كان يعني له تبرير إنقلابه، وظل هذا المعنى يتلاعب بمصير ونتائج الإنقلابات التي شهدتها المنطقة العربية في ما بعد، لأن أبطالها لم يكونوا رؤساء دول، بل رؤساء فرق وكتائب عسكرية، عندما يصلون الى السلطة لا يبدأون بالسياسة، إنما بالمدافع والصراخ، وينتهون بهما. في ذلك اليوم بالذات، حين رفضت واشنطن طلب عبدالناصر، المتلهف على التسلح، تقرر نوع المصير الذي شهدته المنطقة العربية طوال النصف الثاني من القرن العشرين، والمعروف الآن لدى الجميع! فلم يخطر لعبدالناصر، وربما لأي من رفاقه الآخرين، أن واشنطن لا يمكنها تسليح انقلاب لم تدرس بعد شعاراته وأهدافه والمشاكل التي يثيرها لمن حوله، وإذا اطمأنت إلى نتائج الدراسة لا يمكنها وضع أسلحتها بمواجهة أسلحة حلفائها البريطانيين والفرنسيين الموجودة آنذاك في المنطقة من دون مشاورتهم في واقعية أهداف الإنقلابيين، وإمكان تحقيقها، كلها أو بعضها، سياسياً! وعندما شجبت واشنطن العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الاسرائيلي 1956 على مصر، وخيرت العواصم الثلاث بين الإنسحاب فوراً من الأراضي المصرية، وبين تدخل أميركي سياسي أو ربما عسكري لتحقيق ذلك، كانت فرصة إعادة النظر في إمكان كسب السياسة الأميركية لمصلحة العرب قد أفلتت من يد عبدالناصر والى الأبد، لأن النفوذ السوفياتي كان قد تغلغل في المنطقة وأنشأ خنادقه ومتاريسه الثقافية المتينة، عبر طبول الدعاية التي قامت بها الأحزاب الشيوعية العربية، ودعاية وسائل الإعلام المصرية التي لا تقل شأناً في هذا المجال. فلم يبق من صوت يمكنه أن يعلو على صوت... ثقافة العداء لأميركا والغرب. لا يوجد إنسان يمتلئ وعياً بحضوره في السنة الأولى من القرن الحادي والعشرين يمكنه الوقوف إلى جانب أفعال أو أفكار اسامة بن لادن. إن وقوفاً كهذا يتطلب إرتكاساً قوياً إلى الماضي، لن يحققه إلا عزل وتوجيه مكثف للعقل، أي عملية مسخ ثقافي ونفسي منذ الصغر، يتحول بعدها الفرد إلى أداة بشرية هاذية، مشبعة بالعنف في حال الإرهاب، وبالعاطفة المستكينة في حال التصوف. وهذا هو المنهج الذي اتبعته النازية في مدارس الأطفال، والشيوعية في اجتماعات الخلايا، والمتصوفة في عزلاتهم الدراسية البوذية والقابالية والإسلامية والرهبنة، وعلى غرار ذلك العبادات الفئوية الحديثة. تابعتُ بدقة صورة بن لادن التي تبثها التلفزيونات مئات المرات في اليوم، ولم يعثر نظري على كتاب واحد، فكري أو أدبي أو ديني أو سياسي، ينتمي إلى العصر الذي يعيش فيه! في الستينات، وصف الإعلام السوفياتي الهذيان الثقافي الذي ساد المنطقة العربية آنذاك بأنه: وعي عربي جديد! وكان في الواقع وعياً مثلوماً تشنجياً، وعي الفئات المأخوذة بالدعاية الايديولوجية التي تتكرر على الأسماع كل يوم. إنه لا يختلف عن وعي الجنود بما يقوله جهاز التوعية العسكرية: "كلنا للوطن..." لكن من نحن كلنا؟ وما هو الوطن؟ الكيان أم الرئيس القائد؟ ليس من جندي يطرح أسئلة كهذه، لأن واجبه أن يغرق في صدى الكلمات وحسب. أما معرفة هذه الكلمات، أو إعادة ترتيبها، فلا يمثل وعياً. ليس بن لادن وحركته، وأنا اتخذ منهما نموذجاً لكل الزعامات والحركات الأصولية المتطرفة المهمومة بمقاييس ثياب المرأة أكثر من أي عذاب إنساني آخر، إلا تنويعاً جديداً على الإرهاب الفكري والجسدي الذي اتبعته الأحزاب الشمولية في المنطقة العربية. إنه قمع لإعادة صوغ الأذهان والعواطف باسم العداء لأميركا، وهو بن لادن يضع نفسه في منزلة الرسل الحديثين، لكنه يعتمد في نشاطه ودعاواه على الأجواء الثقافية التي خلفها السوفيات في العداء للغرب وأميركا، لأن أي رجل سياسة، أو دين، يعرف أن نزول القوات الأميركية في الخليج عام 1990 هو الذي منع صدام حسين من العبث بمقدسات تعني كل المسلمين في العالم. هذا يعني أن دعوى بن لادن لا تقوم على منطق نزيه. وبنظرة سريعة إلى وجوه قادة طالبان المنعَمة، وأكتافهم العريضة، ثم مقارنتها بوجوه المواطنين الأفغان الحزينة، وأجسادهم الهزيلة داخل الثياب المهلهلة، تؤكد أن النظام الافغاني المتحالف مع بن لادن هو نسخة، مكررة عن الأنظمة الإستبدادية التي استولت على سلطات عدة في الشرق الأوسط وأفريقيا. وبذلك تسقط بقية دعاوى بن لادن، وتؤكد خواءها. من المستحيل القول إن أميركا دولة أخلاقية كاملة في علاقاتها بالدول الأخرى، وهل يسهل القول إن الاتحاد السوفياتي، أكبر تاجر للسلاح في العالم بين 1950 و 1998 كان كذلك؟ لكن، لا يجوز اعتبار الدولة التي ترفض تدجيجك بالسلاح عدواً مطلقاً، هذا لا علاقة له بالسياسة، فهل تجوز علاقته بالثقافة؟ تحولت الثقافة العربية أداة في خدمة موقف موسكو خلال الحرب الباردة، في رحلة طويلة من الغياب عن الوعي، قوامها نصف قرن، إذ انهمك المثقف العربي ضد نفسه كمثقف وضد بلده، وضد شعبه وضد المصالح العامة للعرب في حرب لا يعرف شيئاً عن اسسها، ولا قوانينها، ولا أهدافها، ولا الخيوط التي تتحرك بها! فأساء بهذا إلى مرحلة ثقافية كاملة، لولا تمسك بعض الأسماء القليلة بمهمتها الأساسية في عملية الكتابة، لأمكن القول إنها كانت مرحلة مدَّمرة. المثقفون العرب الذين كتبوا ضد أميركا تمنوا في الوقت نفسه زيارة الولاياتالمتحدة، واعجبوا أو تأثروا بكتابات وليم فولكنر ويوجين اونيل، واستمتعموا بادوار ديستن هوفمان وليزا مينيللي ودي نيرو وأفلام وودي آلن وكوبولا، وأصغوا بإعجاب إلى موسيقى الجاز، وشاهدوا أو كتبوا عن فن البوب آرت ولوحات بولوك، مع ذلك عمّم عزفهم اللجوج على نغمة أميركا العدو الأول للعرب ثقافة شعبية محقونة بالكراهية، ضمن خلط غير أمين، أهوج، لا يميّز بين سياسة واشنطن وبين أميركا الأرض والشعب والحضارة. وهذا العزف ما زال مستمراً، أبرز ما يقوم به الآن إعلاء صوت الغوغاء على الديبلوماسية! إن نسف البنايات لن يغير سياسة الدول الكبرى، ولن يقنعنا أحد أن تعبئة أمّة بالعداء ضد أمّة أخرى أمر يليق بالعرب، أو يخدم مصالحهم. الدليل إن الأميركيين، المشغولين بحياتهم وفنونهم واختراعاتهم وحتى بهمومهم الشخصية، عرفوا العرب الآن على نطاق واسع لم يسبق له مثيل، لكنهم عرفوهم كإرهابيين، لا يحملون في رؤوسهم وبين ثيابهم غير القتل الشنيع، وهذا أسوأ ما في النتائج القريبة لأفعال الأصوليين العرب المتطرفين. * كاتب عراقي مقيم في بريطانيا.