حين يسأل الصغار ببراءة شديدة: "هل كان هناك رمضان قبل اختراع التلفزيون؟" فإنهم بسؤالهم هذا يعكسون قدراً غير قليل مما آلت اليه أحوال رمضان في بلاد العرب عموماً وفي مصر خصوصاً. سيل من المسلسلات والفوازير يزيد طينه بلة في السنوات الاخيرة، ظهور ما يعرف ببرامج المسابقات، التي تغدق ذهباً وسيارات وشققاً سكنية وأجهزة تلفزيون عملاقة وجوائز أخرى ببضعة آلاف من الجنيهات. ويتابع المشاهدون تلك الثروات التي تهبط على غيرهم من السماء بعيون زائغة، وأفواه فاغرة، وجيوب خاوية، آملين في أن يكون الشهر الكريم فاتحة خير عليهم، ومن يدري فربما سقطت عليهم سيارة أو غسالة أو حتى ورقة واحدة من فئة المئة جنيه. وفي هذا العام، يحل شهر رمضان المبارك في جو ملبد بغيوم الحرب والكساد والانثراكس الجمرة الخبيثة وهي أمور يعكسها جميعاً التلفزيون بمختلف قنواته. ونجح التلفزيون المصري في تثبيت، بل وغرس أقدامه في كل بيت مصري خلال شهر رمضان، لا سيما في السنوات التي يهل فيها رمضان في فصل الشتاء، إذ يقل خروج الأسر، اضافة الى التزام الكثيرين البيوت تحت وطأة ظروف الدراسة، وتوابعها من دروس خصوصية وحلقات استذكار مكثفة. وتكون، حينئذ، برامج التلفزيون الرمضانية - الممل منها والمسلي - بمثابة الجزرة التي تشجع "الحصان" على إنجاز عمله بسرعة. وكما هي العادة، تحفل الصحف والمجلات في مثل هذه الأيام التي تسبق حلول الشهر الكريم بالتحقيقات والأخبار والمتابعات لما يحدث في أروقة ماسبيرو، وفي سنوات تالية مدينة الانتاج الاعلامي. فهذا مسلسل اجتماعي توقف العمل فيه بعد خلاف بين المخرج والبطلة، وذلك مسلسل ديني تأجل تصويره بسبب كسر ساق البطل، وهذا مسلسل كوميدي تشوبه مشكلات لخلاف على أجور الممثلين. اضف الى ذلك التغطيات الساخنة لأنشطة التلفزيون، التي توحي بأن المشاهد بصدد الاشتراك في ماراثون عالمي لا يحتمل الخسارة. "طوارئ في استوديوات التلفزيون"، "أزمة ما قبل رمضان"، "باق من الزمن 72 ساعة والفوازير ما زالت في المونتاج". نموذج للعناوين الكثيرة التي تحفل بها الصحف وتسهم اسهاماً فعلياً في تغييب عقلية المواطن المصري عن الواقع، أو على أقل تقدير تساعد على انتشاله من أزماته التي غرق فيها الى أذنيه. وإذا كان المشاهد يغمس عقله وقلبه في الشاشة الفضية القابعة في بيته على اختلاف عدد بوصاتها، فهو يهدر طاقاته كذلك فيها، فالتلفزيون المصري يتفنن في حشو ساعات إرساله ال 24 بأكبر عدد ممكن من الأفلام والمسلسلات والبرامج التي تضمن التصاق المشاهد أمامها الى ساعات الفجر الاولى، وينعكس ذلك جلياً في ساعات العمل خلال شهر رمضان التي تخضع لعملية "ترشيد" شديدة. فلا تكاد تنتهي أزمة الصباح المرورية التي تواكب توجه الموظفين إلى أعمالهم، حتى تبدأ أزمة بعد الظهر المرورية مع عودتهم إلى بيوتهم. وهناك تعليلات عدة على تلك الظاهرة التي تزداد تفاقماً كل عام. فالبعض يؤكد أن الموظفين يحرصون على ترك مكاتبهم مبكراً خوفاً من الأزمات المرورية، وآخرون يجزمون أن الوقت القصير الذي يمضونه في المكاتب يسبب الأزمات المرورية على غرار أيهما جاء أولاً: البيضة أم الدجاجة؟. تفسير ثالث يشير إلى أن الموظفين يغزون الشوارع في نهار رمضان لشراء حاجاتهم الرمضانية. وهذه قصة أخرى. فبعد ما كانت محلات البقالة والسوبر ماركت تتوسع وتتوغل لتغزو الأرصفة المواجهة لها في الأيام التي تسبق شهر الصوم، لعرض الكميات الضخمة من الياميش والمكسرات، من قمر الدين، والمشمشية، والقراصيا، والبندق، والفستق، واللوز، والزبيب، لم تظهر أي بوادر بعد لهذا التعدي على الأرصفة. ففي ظل حال الكساد الشديدة التي يعانيها الجميع، ومع تضخم أسعار السلع الغذائية، وارتفاع نسب البطالة، والشعور العام بعدم استقرار الأوضاع السياسية ومن ثم الاقتصادية، يميل كثيرون إلى عدم التوسع في شراء المستلزمات الاستهلاكية. وغالب الظن أن البلح أو التمر سيحتفظ لنفسه بالأولوية، فهو متوافر، وينتج بعضه محلياً وأسعاره في متناول الجميع. إذ يتراوح سعر الكيلو غرام بين 80 قرشاً مصرياً ونحو أربعة جنيهات. وكعادتهم في كل عام، يبتدع تجار التمر اسماءً تجارية جاذبة، شملت في الأعوام السابقة "عيون صفية" في إشارة إلى عيون الفنانة صفية العمري، ومن بعدها بلح ليلى علوي، وهذا العام ظهر بلح ندى بسيوني. ولم تتوقف تسميات البلح هذا العام على الفنانين، لكنها استعارت اسمين مشتقين من الساحة السياسية، وكلاهما يبدأ بحرف الباء "بوش" و"بن لادن"، والأول اسم نوع من البلح، ويبلغ سعر الكيلو "البوشي" ثمانية جنيهات، أما "بن لادن" فأطلقه البعض على ياميش رمضان ككل تضامناً معه. وإذا كانت هناك توقعات بخضوع موائد رمضان هذا العام لنوع من الترشيد، سواء الإجباري أو الاختياري، فالمؤكد أن التلفزيون سيسد الثغرات في هذا المجال، وذلك من خلال العدد المذهل من برامج الطعام التي يبثها في شكل مركز في هذا الشهر، فمنها ما يدور على طبق يقدمه فنان، وآخر تقدمه زوجة سفير، وثالث تتفنن فيه طاهية ماهرة، ورابع يبتكر فيه محترف من أحد الفنادق الكبيرة. وكانت تلك البرامج تواجه بانتقادات لاذعة في سنوات ماضية، لاحتوائها أطباقاً تتطلب مواد غذائية لا تتوافر للمواطن العادي، وأخرى لم يسمع بها أحد، وربما تتفتح أذهان المشاهد هذا العام ويتعامل مع تلك البرامج التي كانت توصف ب"الاستفزازية" باعتبارها متنفساً يشبع به نزعاته التطلعية لأكلات الأثرياء. الفنادق والمطاعم من جهة أخرى استعدت مبكراً لموائد رمضان ربما في محاولة أخيرة لتعويض خساراتها جراء تقلص نسب السياحة الأجنبية والعربية الوافدة إلى مصر، وكعادتها كل عام بدأت توزع قوائم بأسعار الوجبات ومحتوياتها، ويبدو الجهد المبذول لخفض الكلفة واضحاً، لكن هل من مجيب؟ وإذا كانت استجابة جموع المصريين تلك الدعوات أمراً مشكوكاً فيه في ظل الكساد وتوتر الأوضاع، فإن عدم استجابة الجهات المختصة للنداءات المتكررة من سخافة طرح فوانيس رمضان - عربية المنشأ والاستخدام - لكنها واردة من الصين، وزاد الطين بلة هذا العام بالإعلان عنها في الصحف القومية "سارع باقتناء فانوس رمضان ومسجل عليه أغاني رمضان"، المثير هو أن من بين أغاني رمضان طبقاً للإعلان أغنية "بابا أوبح". ونعود إلى التلفزيون ورمضان وسؤال أيهما جاء قبل الآخر. ففي هذا الشهر الكريم، تتسابق برامج التلفزيون الدينية على طرح الأسئلة الخاصة بالصوم، وهل تفسد نقاط الأنف الصوم، وكيف يبدأ المسلم صومه إيماناً بالمبدأ القائل في الإعادة إفادة، وغالب الظن أن جديد هذا العام سيكون "بوش - بن لادن" في أفغانستان وليس في سوق البلح.