بكلمات مركزة، وجمل هندسية مضبوطة، وعوالم مكثفة، يستهل الروائي المصري محمد ناجي روايته الجديدة - الرابعة في رحلته الإبداعية - "العايقة بنت الزين" "سلسلة الهلال". و"العايقة" في العامية المصرية تعني الفتاة المعجبة بنفسها والمفتونة بأناقتها. وهو يذكرك في البداية بنجيب محفوظ بعد أن تعتق أسلوبه واكتسب شعرية مفرطة. لكنه يهجم على الأحداث من منتصفها، وربما قطراتها الأخيرة، ليستثير المناخات المأسوية طفرة واحدة. يضغط على الكلمات لتبرز منها نماذج عاتية تحتاج إلى وقت طويل حتى تكون جاهزة للتصور، إنه ينطلق من حيث توقف سلفه الكبير، يقول في الطور الأولي من الرواية: "لما فاز الفاتح أيوب برأس غريمه الشبراوي، زفر وسعل وبلع البلغم المرّ، ثم ضغط بثقل جسده على ساقه الخشبية وغرزها في اللحم الساكن، أشعل سيجارة وبلع دخانها في نفسين لاهثين". انه الراوي القديم الذي يرسم لوحة تشكيلية مفعمة بعنف اللون والمشهد والحركة، كأنه يعيدنا لروح العصور الوسطى التي كان الناس فيها لا يرتوي حقدهم إلا بالدم المسفوخ والرؤوس المبتورة. وهو ذاته يجر رجلاً خشبية بديلة تبرر جبروته المميز لذوي العاهات. وعندما نمضي في هذا المفتتح القصير الى نهايته ترتسم أمامنا مجموعة غنية من النماذج الباذخة في اكتنازها وامتلائها بالتاريخ والمعنى والمصير. ومجموعة أخرى من الأحداث والأشياء التي تتعدى دلالتها المباشرة لتضج بشحنة رمزية واضحة، الحمامة التي تخبطها ضلفة الشباك فتقع على "تندة" المعلم عسراوي والصبي الذي يلتقطها ويحنو عليها. المعلمة نوسة وهي تتكئ على الأريكة شبه عارية بلحمها المجعد الطري بينما تهذي أمام المرآة بقصة جدها الملك وكيف نقش اسمه وصورته لابساً الطرطور على بوابة الزقاق. هذيان الحية ذات الأجراس التي رأتها تدخل بيت العايقة بينما تقصدها هي لتقضي عليها كما قضت على محظيات جدها ولدغتهن في أثدائهن. العازف الأعمى سمعان البصير - لاحظ مفارقة الاسم - كذاب الزفة وهو يتكئ على الكنبة المواجهة لنوسة ويتلظى شوقاً لرؤية جسدها من دون أن يستطيع لمسه. يغطيها من برد آخر الليل وينزل ليتأكد بنفسه مما حكته له عن رسوم جدها مستعينا بصبي لا يقرأ ليصف له الرسوم والنقوش على البوابة. في صفحات يسيرة تنتثر شخوص ورموز غنية بذكريات المكان لتؤذن بعمل درامي مشحون خارج عن المألوف في السردية العربية المعاصرة. ولا نكاد نمضي في قراءة الرواية حتى تتجلى لنا خاصية فريدة لدى معظم شخوصها، إذ يتمتعون بطاقة هائلة من الإمكانات الأدبية مهما كان مستواهم. يمتلكون خيالاً متوهجاً مستعداً لتوليد المشهد العفوي وابتداع أشكال مختلفة ومبتكرة له. فالشخصيات ليست مجرد موضوع للحكي، أو ذاكرة للأحداث، أو دمى للحركة، إنها كائنات ابداعية خلاقة. مثلا: تذهب العايقة - بناء على اقتراح قريبها - الى بيت شخصية سودانية كبيرة مقيمة في العاصمة المصرية لتعمل مديرة لمنزله. ولأنه كهل يقيم بمفرده فهي تعرف منذ اليوم الأول كيف تخترع له قصة عن أبيها الاسطورة حتى تخيفه فلا يمد يده الى جسدها: "كان على صدغه وشم الصقر، إذا رأى العيب رفرف بجناحه وخبط على الجبين وزعق. كان زنده عفياً، وكلمته على الرقاب سيفاً...". ومع انها تروي له أيضا نهاية مأسوية للحكاية مخترعة بدورها، اذ يتكالب عليه رجال الشهبندر ويغرسون أوتاد الشماسي الحديد في جسده غير أن الأستاذ السوداني فهم جيداً اشارتها وأعلن عدوله عن رغباتها كلية، ولم تستمر في خدمته. المهم في الموقف هو قدرة امرأة شبه أمية على ابتكار القصص الموحية في المواقف الساخنة. شخصية اخرى في الرواية هي عسراوي الذي تنقل في صباه بين أقسام كلية الآداب كلها يمتلك بدوره هذه الخاصية التخيلية المتوهجة. يتذكر بعدما كبر أول مشهد جمعه بصديقته "مباهج" طالبة قسم الفلسفة وهو يتقلب في سريرها بعد أن أصبحت أرملة القاضي. وعندما يستعيد المشهد المفتوح وهو جالس امام محله في حارة قصر البنات "يتشبث ببعض مشاهد حياته كما جرت بالضبط، لكنه يدرجها في مسارات مختلفة، أو يصطنع لها سياقات جديدة". هكذا تتمتع شخوص ناجي بحركية مثيرة تجعل لها احتمالات مفتوحة في القراءة الحرة توازي مساراتها في العمل السردي المكتوب. تجاوز العوالم اللافت في هذه الرواية هو قدرة كاتبها على خلق مفارقة كبرى بإقامة تجاور مكاني وزماني بين عوالم شديدة التفاوت، بعضها يتخلق في رحم المستقبل القريب، والآخر يبدو كما لو كان مندثراً لا تنبئ عنه سوى الرسوم والأطلال، مما يشف عن ايقاع الزمن المتجدد. عسراوي مثلاً يحلم بمشروعه في شراء بيوت الحارة بالتدريج والاحتفاظ ببوابتها التذكارية الكبرى بنقوشها ورسومها وصورها الأثرية، كي يحوّل البيوت إلى "سنتر" تجاري حديث. وهو في أثناء ذلك يفكر في "كاترين" باعتبارها "الوحيدة التي تناسبني، هي حبي الخفي، حقيقة خالدة مدمجة في قرص بلاستيك. يلاعبها على شاشة الكومبيوتر لعبة "الاستريب بوكر" تغمز له بعينها على الشاشة وتلاعبه"، يغلبها فتخلع له قطعة من ملابسها، وتغلبه فيخلع لها أيضاً ملابسه، تعفيه من المشاعر والأفكار، ينسى نفسه أمام الكومبيوتر: "لا تتركني حتى تبعثر جسمي وعقلي، تبدد في نقطة نقطة، لكنني حين استجمع نفسي، أسعى إليها من جديد طائعاً لا كارهاً ولا مجبراً". في الظرف الآخر نجد عالماً مغايراً تماماً، "بيوت عتيقة متلاصقة ومتشابهة، طوب أحمر وسقوف خشب، كل بيت من طابقين وواجهة لا تزيد على ثلاثة أمتار، شبابيك من الأرابيسك ومداخل ضيقة..."، وتتوالى حكايات سمعان، ذاكرة الماضي في الفن وعين التاريخ المعتمة، يحكي قصص فتيات الدرب، وأهمهن قمر التي دخلت الدير وأصبحت بتقواها واخضرار العود اليابس في يدها شفيعة البنات الخاطئات يوم القيامة. عالم من الأساطير القديمة الجديدة، تتجاوز في المكان والزمان، وتتحاور في وجدان القارئ الذي لا يظل متلقياً سلبياً بل سرعان ما يمزج بخياله عناصرهما. فالمسمع الحلو - على حد تعبير سمعان المولع بالعزف والغناء - هو زينة الكلام وزهرة معناه. على أن شخصية "العايقة" لا تمثل بؤرة السرد الوحيدة في الرواية، بل هي احدى المناطق الحساسة فيها الى جانب شخصيات اخرى محورية، كما أن الحارة لا تقوم بدور "زقاق المدق" عند نجيب محفوظ، على رغم من الأشباح الحية التي تسكنها والأشواق الكثيرة التي تتبخر في سمائها وهي تتهيأ للرحيل. هناك نقاط جذب أخرى تنافس الحارة، ومنها تلك الأرواح الشاردة على طول شارع السلطان المجروح. ولعل أعجب هذه الأرواح هي الغناء الذي يسلب الألباب، والشعر الذي ينهال على الألسنة، وجاءت حرفة الغناء التي أصابت سمعان البصير وورثها عن فانوس الكبير، وأصبحت تركته مع العود لدى الشهير رقبة - جاء كل ذلك ذريعة لكثير من المقطوعات الشعرية المنظومة على نسق الأغاني الشعبية الفولكلورية من دون عبقها الفني الأصيل. وأسرف الروائي على نفسه وعلى قرائه في نظم هذه المقطوعات، متوهّماً رقيّها الى مستوى المقطوعات الشعبية المأثورة، مثلما يرد في غناء رقبة في الخمارة عقب رؤيته لشبح الأعرج - وسنرى في ما بعد أنه ليس شبحاً، إذ يقول: "يا عسكري ياللي كنت زمان حارسني/ ليه انت دلوقت دون الناس خارسني/ وكنت صاحبي زمان في قعدة الخلان تلاطفني/ لكنك اليوم، في وسط القوم، تخوّفني". ومع طرافة المنظور الذي يرصد تحوّل العسكري من حارس - هل كان يوماً حارساً بريئاً؟ - الى رقيب مخيف، فالأبيات مصطنعة، مثلها مثل تلك الابيات التي تحاول ترجمة الرسوم المنقوشة على بوابة الحارة بكلمات تفتعل الحكمة والشعر والإيقاع: "ملوك بدور... لابسين طراطير ونور/ على قبة البوّابة/ وهو أصغرهم وحاديهم/ ماسك ميزان الحق وسطيهم/ يجعل مساكم مساء الخير يا صحابة/ احنا غلابة، أمانة تنظرونا دور". ودعك من الكسور العروضية في هذه المنظومة فإن اقحام الشعر وخلوّه من رحيق الحكمة الشعبية العريقة يجعلان الموسيقى والغناء هنا اشد قصوراً من رمز "أهل الرباب والفن" عند نجيب محفوظ في "أولاد حارتنا" ويجعل البنية العنقودية التي تتميز بها رواية ناجي متعددة المحاور ضعيفة التأثير في استثمار شجن الغناء والفن لإثارة اشكالات وجودية. البحث عن المعنى قطع الفاتح بن أيوب رأس غريمه الشبراوي في المقطع الأول من الرواية. كان رفيق عمره في الحرب. انفجرت الشظية في رجليهما معاً وتركت احدهما "أعرج شمال" والثاني "أعرج يمين"، ظنهما الناس شخصاً واحداً منهما كانا يخرجان معاً. وعندما خان الشبراوي صاحبه وباع بيته منتحلاً شخصيته انتقم هذا منه بالذبح واختفى، لم تكتشف الشرطة ولا عرف الناس من القاتل، ظل يهيم في الظلام ويدق مثل الشبح بساقه الخشبية. يزور متلفعاً بالعتمة العايقة بنت الزين فتمثل لأوامره مكرهة مجبرة، وتحاول اتقاءه بالضراعة للأولياء من دون جدوى. وعندما تعرّت الحارة بمعاول الهدم خرج من مكمنه فحاصروه بالحصى والعصيّ والمعاول حتى وقع مضرجاً في دمائه، وظنوا أنهم يقتلون العفريت. قتل الأعرج مرتين وتكشفت اسطورة الشبح. الغريب أن قدر المبتورين لا يفارق الرواية، بل يتضاعف في الجزء الثاني منها، حيث يظهر "عباس النصّ" وقد شاب شعره وقلّت حركته وأخذ يجر عربته الخشبية. قميصه الكاكي - كان جندياً هو الآخر - منسدل حتى إليتيه، آخر ما تبقى من قامته، ما بعد ذلك من يدين وذراعين قصتها الشظايا في الحرب. فإذا ذهب عباس الى الحاجة "ويكا" صاحبة المقهى - لاحظ مفارقات الاسماء - ليأخذ منها الصندوق الذي سبق ان أودعه لديها - لم تكد تتعرف عليها، فمثله الآن كثيرون في الشوارع. اشتدت غربة الأبدان في القاهرة من مشوهي الحرب، وعندما يميل الى الخمارة يصنع مع الآخرين من نفايات المجتمع مسرحاً وهمياً منصوباً للموسيقى والغناء والعزاء. يرتجل فيه الشعر مع إعداد السيناريو: "في عتمة المساء فوق نهر، في النهر مركب نور، زينة المراكب، رئيسه واقف على الدفة مثل ديك، وعينه حارسة، وحوله على الجانبين مراكبية يجدفون وينشدون، طوال الليل يجدفون وينشدون، حتى يعبروا بالقارب حافة العتمة، ويصبح الديك ومعه صوت المغنى وهو يقول: يا ريّس النور، عدّي بحور، وجاوبني...". يحاول الشعر أن يتحول الى سرد، الى ملحمة هذا الانسان، يرمز إلى غربة بدنه وروحه في لون من كتابة الجسد المختلفة، إذ لا تثير الظمأ الشبقي، بل تخط على قوام الانسان وكلامه وسيرته ما يعتري وجوده من نقص وروحه من فجيعة. لم تعد العاهات مصطنعة بل أصبح الشارع ذاته يحمل تسمية "السلطان المجروح". واذا كانت الرواية تنثر حكايات عدة لشخوص يضيعون في الزمن فإن أهل الفن يتأثرون بمساحة عريضة من رقعة خطابها السردي في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، ابتداء من المعلم فانوس - صاحب الصوت الساحر الشجي الذي استطاع "انتيكا" ان يتذكر بمشقة مقطوعته الغنائية الهاربة: "كل ابن آدم غريب... حتى البدن غربة/ وكل آت قريب... والعبرة بالصحبة". وتدرجانه الى سمعان الأعمى وانتهاء بنموذج "فنان الشعب" رقبة الذي علمه العود كيف ينطق بالحكمة. ثم اشتهر امره في عصر "الكاسيتات" التي تلعلع في الميكروباصات الشعبية. غير أن بعض الشخوص الأخرى تظل قائمة بدور الشاهد والوسيط على ابراز ايقاع الزمن المتغير، ومن أهمها "مباهج" طالبة الفلسفة القديمة والتي أصبحت ارملة القاضي، تقيم في مسكنها المستقل على هضبة المقطم، ويتناوب عليها زملاء الدراسة القدامى فتنبعث ذكريات الشباب. حسني عواد الماركسي الذي لم يكن يعرف سوى حتمية التاريخ الحاسمة وثورة الطبقة العاملة أصبح صاحب مطعم شرقي خمس نجوم في الحي الشعبي يقدم فيه المأكولات والفنون للسياح الأجانب. عسراوي الذي ما فتئ يلوك أحلامه وأفكاره ومشاريعه السياحية ايضاً، والتي ارتطمت بعقبة قرار مصلحة الاثار بإيقاف هدم البيوت المحيطة بوابة قصر البنات حفاظاً على قيمتها التاريخية، مع ان شاهد الرسوم الفرعونية على آثار قريبة العهد تزييف واضح. منصور الذي كان أنشطهم في الدعوة للانضمام الى منظمة الشباب الموالية للسلطة اصبح رجل أعمال ناجحاً يمتلك القرى السياحية والمصانع والشركات الضخمة. هل تمثل هذه المصائر وما انتهى إليه سعي شباب الآداب دلالة الرواية الأساسية على حركة الأجيال وخسران الأيديولوجيات وانتصار الحسيّ العملي الانتهازي في نهاية الأمر؟ حتى العايقة بنت الزين التي تأبت على الخطاب والعشاق قبل وفاة زوجها وبعدها ولم تخضع سوى للشبح الأعرج زفت في حفل باذخ الى سلطان القلعة الذي تسلّق كل الحواجز واشترى جميع عقارات درب قمر وضمن لها الستر. لكن الراوي الذي لا يكف عن الثرثرة وفتح الحكايات الجديدة حتى آخر صفحة لا يختم الرواية من دون أن يجعل "عباس النصّ" يتذكر نموذج رزق الاسكندراني أعجوبة السهرات في عتمة خنادق الحرب. نافورة الحكي المتدفقة لا تريد أن تقتصر على عنقود واحد ولا دلالة سياسية أو اجتماعية، بل تتفجر منبثقة حتى الصفحة الأخيرة بالحيوية والنضارة المبدعة.