حينما نفتح الصفحة الأولى من رواية "الحفيدة الأميركية" ل" إنعام كجه جي" يواجهنا تحذير نبوي صارم "إياكم وخضراء الدمن". يحذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من المرأة الجميلة اللعوب المنحدرة من أصل سيىء. ولما سئل، يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ أجاب "المرأة الحسناء في المنبت السوء". يريد بذلك عدم الخداع بحُسن المرأة، فقد يأتي من منبت فاسد. وطبقا لعبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" فالقصد هو "حُسْنُ الظاهر في رأي العين مع فساد الباطن، وطيبُ الفَرع مع خبث الأصل". رسم حديث الرسول إشارة تحذير من الافتتان بالمرأة الجميلة التي لا تنحدر عن أصل كريم، فهي كالنبتة الفارعة في مزبلة. ولا ينبغي أن تحجب النضارة أصلا متعفنا. للأصل وللانتساب مكانة رفيعة في تواريخ الأمم التي تتعلّق بذاكرتها الجماعية، وتحرص على أن تنفي كل ما تراه غريبا عنها. الحداثة تمزّق كل نسيج موروث. حينما يوضع تحذير واضح الدلالة في مقدمة رواية "الحفيدة الأميركية" فلا بد أن يكون القصد منه توجيه الأحداث إلى غاية معينة. تربط الرواية بين القول النبوي، ومسار الشخصية الرئيسة فيها" زينة بهنام" وبين المنطقة الخضراء التي بقيت طوال فترة الاحتلال الأميركي للعراق مقرا لقواته، وفيها أقامت زينة خلال وجودها في بغداد مترجمة لأغراض عسكرية. إنها دمنة مغرية لكنها ضارة. تتجاوز الكناية شخصية زينة إلى المنطقة الخضراء. لم يتعلّق أحد في العراق بحبّ زينة حينما عادت برفقة الأميركيين، إذ رفضت بإجماع تام حتى من جدّتها رحمة. وبسبب إقامتها في تلك المنطقة سمّيتْ زينة ب" الخضراء". يوجه الحديث النبوي تحذيرا مباشرا بألا تبنى أمال على خضراء الدمن. ومَنْ فيها. ولكن أين الداعم السردي لذلك؟. تعرض رواية "الحفيدة الأميركية" لموضوع الهوية المرتبكة، وموقع الشخصيات العابرة للثقافات، وأحوال الأقليات العرقية والدينية التي يتزعزع انتماؤها حينما تعمّ الفوضى في عمق الجماعات الكبرى، وتفقد رشدها، وكل ذلك على خلفية وضع العراق الذي زعزعته أحداث الاستبداد ثم الاحتلال، فتنهار أساطير الانتماء القديمة، وتُستحدث أساطير بديلة، وتتغير الأسماء، ويقع التلاعب بالمصائر، وتُقترح هويات مذهبية ضيقة جدا، أو هويات كونية واسعة جدا. لا مكان لامرئ سوّي في هوية مغلقة، ولا في هوية متوهمة، ولا يمكن أن يكون بلا هوية. يحتاج المرء السوي إلى هوية مفتوحة هي مزيج من هويات موروثة ومستحدثة، هوية قابلة للتحول بتحوّل الأحداث والأزمان تطوّر نفسها بنفسها. هذه هي الخلفية الثقافية العامة التي ترتكز عليها البنية السردية لرواية "الحفيدة الأميركية". إنها بنية منفتحة على المتغيرات التي شهدها العراق في تاريخه المعاصر. وبانتقاء شخصيات متّصلة بذلك التاريخ وتحوّلاته تطرح الرواية جملة من الرؤى والمواقف المتعارضة. لم يعد العراق أرض انسجام اجتماعي، وتماسك أخلاقي، إنما تناهبته الأيدلوجيات، والمصالح، والرهانات الكبرى، صار العراق بحاجة إلى إعادة تعريف نفسه. ذلك ما تقترحه رواية "إنعام كجه جي" بطريقة سلسة، فكهة، لكنها مباشرة، وواضحة، وقاسية؛ فخلف نسيج الأحداث تقبع مواقف الشخصيات لتعبر عن رؤى جديدة مغايرة لرؤى الأجيال القديمة. واضح أننا أمام نص سردي يعوم على تناقضات الواقع العراقي، ويستثمرها بلا تحيزات سردية مسبقة. ينتقي وقائع، ويركب مشاهد سردية قصيرة. تتناثر الشخصيات في العالم الافتراضي للسرد، ولا تعرف معنى للودّ، وصلة الرحم، ولم تفكّر بالمصالحة، فتستقطبها مواقف متطرفة، وتتغذى بأيدلوجيات رهابية. ولو أتيحت لها الفرصة لنكّلت ببعضها. مساراتها متوازية، ولم تلتق في أية نقطة جامعة لتعيد ترتيب علاقاتها، ولم تتفق على شيء. ينتهي النص كما بدأ موزعا بين محتلٍّ ومقاوم. حتى الأحاسيس الإنسانية الدفينة كُبتتْ في الأعماق، وطُمرت، وفسدت، ولم تحفر مجرى للتواصل والألفة. زينة فتاة عراقية، أشورية، مسيحية، في حوالي الثلاثين من عمرها، أزيح جدها العقيد الركن المتقاعد يوسف الساعور عن منصبه في الجيش العراقي بُعيد ثورة عام 1958 وهو ينتسب إلى عائلة عريقة من الموصل. كان مسكونا بالغيرة على وطنه. أما جدّتها رحمة فتّوحي فكردية من "بيخال" أقصى شمال العراق. ارتبط الجدّان بوطنهما، وماتا فيه. جاءت زينة إلى الحياة ثمرة زواج أمها بتول الكلدانية "التي خالفت ملّتها وتزوجت آشوريا" وأبيها صباح شمعون بهنام، المذيع وعاشق للغة العربية، الذي تعرّض للتنكيل لأنه أفصح سرّا لصديق له عن ملله من طول نشرة الأخبار في التلفزيون، فكان جزاؤه أن قُرض لسانه من الجانبين بكلابتين، وحطّمت أسنانه، وأطفئت أعقاب السجائر على جسده. لا ينبغي إبداء أي تذمّر في حقبة الاستبداد. هرب الأب من بغداد، مع زوجته الجامعية وطفليه زينة ويزن إلى شمال العراق، فتزوّدوا بجوازات سفر مزيّفة، ثم وصلوا الأردن، وانتظموا في طوابير الباحثين عن اللجوء الإنساني، وتمكّنوا بعد أشهر من الوصول إلى أميركا، وبصعوبة بالغة عثروا على شقة خشبية عتيقة في حي سكنّي بائس قرب ديترويت، وانتظروا أعواما للحصول على الجنسية، وترديد قسم الولاء لأميركا، وبذلك أصبحوا مواطنين أميركيين. بوصول الأسرة إلى أرض الأحلام، راح يتفكك تماسكها الموروث: انفصل الزوجان، واجتاحت الأمراض جسد الزوجة التي أدمنت التدخين الرخيص، الابن يزن أدمن المخدرات، ثم أضاعت زينة أي ملمح للأمل، فانخرطت مع جماعات من الشباب المحبط تدور على الملاهي والمطاعم بلا هدف، وعثرت على عشيق أمريكي سكير. هذا هو الإطار السردي للحكاية التي تتناثر أحداثها طوال النص الذي حرص على تقديمها بمشاهد سردية متداخلة. إنها حكاية انتساب واضح إلى أقلية عريقة، ونزوح رمزي إلى مكان آمن بسبب القهر الوطني، وضياع في هوية كونية. لم يكشف النص أي إحساس حقيقي بالانتماء لأميركا عند الشخصيات. كانت ملاذا فحسب، ومانحة لوثائق حماية. حجبت فوضى الحياة في ديترويت عن زينة التفكير ببلدها، وما عاد يعني شيئا بالنسبة لها، ولم تجتمع الأسرة معا، طوال الرواية، إلا مرة واحدة، وعلى عجل، حينما عادت زينة محبطة من العراق بعد انتهاء تعاقدها مع الجيش. لم تكن أميركا بلدا جامعا، إنما عملت على زيادة تمزيق نسيج الأسرة. أطلقت فيها نوازع العبث والأنانية. ولم يعد العراق سوى ذكرى متراجعة إلى الوراء. بوقوع أحداث 11/9/2001 اصطنعت زينة لنفسها سببا. فكرت في كيفية ردّ الجميل لأميركا التي منحتها الجنسية، ووفرت لها فرصة العبث المجاني. ومع بداية غزو العراق استجابت لعروض الترجمة التي تقدمت بها وزارة الدفاع، والتحقت مترجمة بالجيش الأميركي، وعادت إلى العراق بهذه الصفة لتقوم بعمل جليل: تخليص بلاد الرافدين من طاغية. شرعت تستعدّ في ظل حملة تقول بتحرير البلاد من الاستبداد. اختلقت هدفا يوافق ذلك "إنني ذاهبة في مهمة وطنية. جندية أتقدم لمساعدة حكومتي وشعبي وجيشي، جيشنا الأميركي الذي سيعمل على إسقاط صدام وتحرير شعب ذاق المر". عزّز الهدف بمبلغ186000 دولار، هو أجرها السنوي، وكان كما تقول، هو" ثمن لغتي النادرة، بل ثمن دمي". دمجت زينة بطريقة براغماتية بارعة بين شعور وطني زائف استثير فجأة، وأجر مالي مجز، وتغيير في مسار حياة عابثة. لم يكن هذا الغطاء السميك من البلادة الأخلاقية قادرا على طمس المشاعر المتوارية في منطقة نائية من أعماقها، فلم تتخلّص بصورة قطعية من ذاكرة كانت تجرها أحيانا إلى الوراء، وتُحدث فيها اضطرابا، فمع بدء الغزو نشأت لديها مشاعر متضاربة "رغم حماستي للحرب اكتشف أنني أتألم ألما من نوع غريب يصعب تعريفه. هل أنا منافقة، أميركية بوجهين؟ أم عراقية في سبات مؤجّل مثل الجواسيس النائمين المزروعين في أرض العدو من سنوات؟ لماذا أشعر بالإشفاق على الضحايا وكأنني تأثرت بالأم تيريزا، شريكتي في اسم القديسة شفيعتي؟ كنت أنكمش وأنا أشاهد بغداد تقصف وترتفع فيها أعمدة الدخان بعد الغارات الأميركية. كأنني أرى نفسي وأنا أحرق شعري بولاعة سجائر أمي، أو أخز جلدي بمقصّ أظافري، أو أصفع خدّي الأيسر بكفي اليمنى". دخل مؤثر جديد، فاهتزّ التوازن القديم، دفعت الحرب زينة إلى موقف غير محسوب. وقع صراع بين المشاعر والمصالح. هذا مقوّم من مقوّمات الهوية المركبة. حينما دقت طبول الحرب اكتشفت زينة أنها يمكن أن تكون مفيدة ومستفيدة، فهي تجيد الانجليزية والعربية. تريد أن تخدم وطنها الجديد بغزو الوطن القديم. ولم يغب عامل المال. رحلتها للمشاركة في احتلال مسقط رأسها رسمت لها معنى الهوية وفقدانها. كانت سعيدة في وطنها الجديد لأنها لا تعرف معنى الانتماء، فاللامبالاة تغذّي صاحبها بالفرح لأنه ليس مشدودا إلى هدف، وغير مثقل بمعنى. يعوم كفقاعة في وسط غامض، وبإعادة تعريف هويتها كأميركية-عراقية بدأ الشقاء. جاء تعريف الهوية على خلفية قضية الغزو والاحتلال. وإذا كان جيل الأجداد قبل ظلما وسكت عليه، وجيل الآباء هرب منه، فجيل الأحفاد عاد لينتقم. عادت زينة غازية تحمل في أعماقها نقمة عمياء. جاءت حاملة المشروع الأميركي لإعادة تعريف العراق، وتحريره من طاغية. وانتهى الأمر بزرع طغاة وتدمير بلد. لم يكن ذلك واضحا عندها، فهي لا تعرف عن جدّها وجدّتها إلا نبذا من ذكريات الصبا. لكنها تعرف عن أمها وأبيها الكثير. بيد أنها لم تكن تعرف نفسها كما ينبغي. وطوال حياتها الأميركية كانت تبتذل أية معرفة، وتسخر منها. وبوصولها العراق بدأت تعيد بناء تجربتها الشخصية. حرص الأب صباح بهنام على تعليم الأبناء اللغة الآشورية حفاظا على خصوصية الهوية التاريخية، فيما ظلّت الأم تتحدث بالعامية العراقية، أما الانجليزية كانت هي لغة الحياة اليومية خارج البيت بالنسبة لزينة. يريد الأب الحفاظ على اللغة القومية، والأم على اللغة الوطنية، والبنت على اللغة الكونية. لكن الأميركيين بوزارة الدفاع كانوا ينتقون من يعرف العربية لتأسيس التواصل بينهم وبين العراقيين، في المعتقلات، وفي أثناء الاستجوابات، والتحقيقات، وخلال العمليات العسكرية. ولم ترد أية إشارة إلى أن زينة قامت بالترجمة لغرض يتصل بغير ذلك. إنه تضارب عميق يأخذ دلالته من السجال الناشب بين الهويات. تمثل زينة أيقونة الحيرة في الحالة العراقية الواقعة بين الاستبداد والاحتلال. لقد تركت جدتها وجدها في بغداد، ورافقت والديها إلى أميركا. أصرّ الجدّان يوسف ورحمة بأن يبقيا عراقيين، وفصلا بصورة قاطعة بين الاستبداد والوطن. أما الأبوان صباح وبتول فتركا البلاد هاربين من أخطار حقيقية، وأصبحا مواطنين أميركيين، لكنهما سقطا في منطقة الحنين إلى مسقط الرأس. خربّ المنفى علاقاتهما الزوجية، فترك الأب البيت، وعانت الأم صعاب الحياة. أما الأحفاد زينة ويزن، فعاشا عالما لا صلة له بالذاكرة. أدمن يزن المخدرات وهو في مقتبل عمره، وأصبح اسمه" جازين" وانخرطت زينة، وقد أصبحت "زانيا" في عبث الشباب وعدم الانتماء. لم تحتف بالتاريخ. كان العراق بالنسبة لها "حاوية لعظام الأجداد". أبت الجدة رحمة فتّوحي مغادرة بلادها، فمكثت وحيدة في بيتها الكبير في بغداد، تستعيد صورة زوجها العقيد، وتتمسّح بأزيائه العسكرية بعد وفاته، وتصلّي أن يحمي القديسون بلادها. تقوم على خدمتها عجوز شيعية تدعى طاووس، عاصرت نصف قرن من حياة الأسرة المسيحية. وقبل قرابة ثلاثين عاما، حينما تعرّضت بتول لحالة حمّى، قامت طاووس بإرضاع زينة. أنجبت طاووس ستة أبناء، أصبحوا جميعا أخوة لزينة بالرضاعة. أكبرهم "مهيمن" عاشق للموسيقى، الذي سيق إلى الحرب مع إيران، وأخذ أسيرا، وخلال الأسر غذّي بالأيدلوجية الدينية المتشدّدة، وتشبّع بها، وحينما أطلق سراحه وعاد، فأول ما مقام به إحراق صندوق الأشرطة الموسيقية التي احتفظت به له أمه" ذهب شيوعيا بالوراثة، وعاد فقيها يجادل في أمور الجنة والجحيم". وباحتلال العراق التحق بجيش المهدي. الأخت زينة مترجمة لدى الجيش الأمريكي المحتل، وأخوها مهيمن في جيش المهدي المقاوم. ثمة انتساب وثمة عداء. اتصال وانفصال. هذه هي الحبكة السردية لرواية "الحفيدة الأميركية". تأتي الحرب لتعيد خلط علاقات الأجيال بعضها ببعض، وتعيد تعريف هويتها. فينبثق جدل حول الوطن والمنفى، وحول الاستقرار والهجرة. ترى زينة بأن" الهجرة هي استقرار هذا العصر، والانتماء لا يكون بملازمة مسقط الرأس" أما مهيمن، الأخ بالرضاعة، فيرى أن "الهجرة مثل الأسر؛ كلاهما يتركك معلقا بين زمنين، فلا البقاء يريحك ولا العودة تواتيك". كل يدافع عن تجربة يعرفها، فتتوارى عنه تجارب الآخرين. لم يتأسس أي نوع من الاتصال العميق بين الشخصيات لعزوفها الكامل عن التعرّف على تجارب سواها. نبذت زينة-زانيا في بغداد من طرف جدتها، ولم يتقبّل مهيمن وجودها في عالمه، فأمضت أيامها مجندة في المنطقة الخضراء. حاولت كسر الحلقة المغلقة لكنها فشلت، كانت تتصرف بطريقة مستعارة من هويتها الجديدة. من الصعب أن تكون الأميركية المسيحية المجندة في جيش الاحتلال قد سقطت أسيرة في حب رجل متطرف في جيش المهدي، فهي غير قادرة على المنح الحقيقي، وهو يرفض بإصرار بذلا أخويا يعدّه سفاحا، فقد ناصب أميركا بأجمعها العداء، إنما هو خوف القوي من الضعيف. وفيما كانت القوات الأميركية تنكّل بجيش المهدي في الأحياء المعدمة شرق بغداد، كانت إحدى مجنداته تتودّد، في عمّان، لأحد أفراده. يتصاغر الجلاد أمام الضحية، فتنهار رمزية الاحتلال بكاملها. يلوح خلاف كبير حول موضوع الهوية: تعود زينة إلى بلادها ضمن حملة غزو، ويكون أخوها مقاوما. تحاول هي إخفاء علاقتها بالاحتلال فيما يصرّح هو بمقاومته. تستدرجه للاستمتاع الجنسي، لكنه يحترم القواعد الرمزية للأخوة. تعرض نفسها بشهوة عليه، فتقابل بصدود. يمتثل مهيمن لقيم دينية وانتسابية ثابتة، فقد تعلّق بإيمان ديني، وقاوم غزوا أجنبيا لبلاده، فيما حاولت زينة بعودة معاكسة أن تسهم في احتلال بلدها الأصلي، وتخطّى مفهوم الأخوة امتثالا لرغبة جسدية صارت تجتاحها شغفا بأخيها. لا تبحث زينة عن تفسيرات لأفعالها، فيما ظل مهيمن أمينا لشروط وجوده الوطني والشخصي. وترتب على ذلك أن بقيت زينة إلى النهاية تخادع، وتخفي صلتها بالاحتلال، فيما كان يجهر الآخرون بمواقفهم. الحلقة الواصلة بين الطرفين كانت رحمة وطاووس. التقت الجدّة رحمة بطاووس على خلفية إنسانية تجاوزت حبسة الانتماءات الدينية والعرقية والطائفية، أما الأحفاد فتقاتلوا بأوهام الهوية الجديدة. حل السلام بين الأجداد، وحكمت الحرب عالم الأحفاد. لم تلمس أية حساسية على الإطلاق في علاقة المسيحية الآشورية رحمة بالمسلمة العربية طاووس، فقد تآلفتا مدة نصف قرن، وأثمر ذلك عن أخوّة. جيل الأحفاد هو الذي افتعل الصراع على الهوية. حينما انتهى عقد زينة كمترجمة في الجيش، وعادت إلى أميركا "انشطرت نصفين، ما قبل بغداد وما بعد بغداد". إنها ليست قادرة على استرجاع حياتها السابقة ولا التآلف مع حياتها الحالية. فكرت بأن الرئيس الأميركي بوش "سيذهب وتبقى اللعنة تلوّث مياه النهرين لعصور قادمة. سيقول العراقيون، في الآتي من الأجيال، لعنة بوش، مثل لعنة الفراعنة" وحينما وصلت ديترويت، اغتسلت، فلم يتساقط عنها "غبار الشجن" الذي جاءت به من العراق" ظل عالقا بي مثل قريني. سيبقى معي يكمل تربيتي" وراحت تستعيد قول أبيها" شلّت يميني إذا نسيتك يا بغداد".