نشرت "أصداء السيرة الذاتية" المثيرة للتأمل، على مدار عامي 1987/1988، ولم يوافق نجيب محفوظ على نشرها في كتاب طوال سبع سنوات. يظل آخر كتبه المنشورة حتى الآن، وإن كان لا يزال يكتب بعدها عدداً من مقطوعات الأحلام وشبه الأصداء، يذكر القراء بأن الكاتب محا من الأصداء بعض المقطوعات، على أنه كان دائماً ضنيناً وعزوفاً عن كتابة سيرته الذاتية، إذ يرى أنها متناثرة في أحاديثه ولقاءاته المتكاثرة ولم يعد فيها ما يستحق أن يكتب، مما يرتضي البوح به بطبيعة الحال. نقدم هذه القراءة بمثابة تحية لعملاق الرواية العربية في عيد ميلاده التسعين الذي يحلّ قريباً. يقول محفوظ في القطعة السادسة والسبعين من الأصداء: "قال الأستاذ: البلاغة سحر فأمّنا على قوله، ورحنا نستبق في ضرب الأمثال. ثم سرح بي الخيال إلى ماضٍ بعيد يهيم في السذاجة. تذكرت كلمات بسيطة لا وزن لها في ذاتها مثل: أنت.. فيم تفكر.. طيب.. يا لك من ماكر.. ولكن لسحرها الغريب الغامض جُنّ أناس، وثمل آخرون بسعادة لا توصف". يدرك محفوظ، بصفاء ذهني غامر، وبصيرة نافذة مكمن السحر في بلاغة الحياة النثرية، في سياق الوجود المفعم بالعواطف والمرتبط أساساً بقلوب الناس وأهوائهم، كما يدرك أن هذا اللون من السحر الذي يتفجر به الخيال الروائي المحاور للواقع يختلف جذرياً عن بلاغة الشعر المحفوظ في عباراته الفاتنة المركبة العميقة. هنا يتجلى الفارق الواضح في وعي محفوظ بين كتابته ونوع الأدب الذي كان سائداً قبله في الثقافة العربية، مما يسميه أحياناًَ "أدب الأساتذة". غير أنه يمارس في الأصداء التفافاً مقصوداً في اتجاه البلاغة المهجورة، غزواً لبعض مناطق الشعرية التي طالما عزف عنها في صباه. فهو يحافظ على الخيط السردي، لكنه لا يغزل فيه حبالاً طويلة، بل يكثف تجربته الحيوية في الذكرى والحلم والكتابة عبر حبات صغيرة صلبة، ليست نواة لمشروع قصة قصيرة، تتطلب الامتداد والنمو والتغطية، بل هي مكتفية بذاتها، في غنى عما عداها، كأنها أبيات القصيدة المستقلة في الشعرية العربية القديمة، ربما لا يجمعها بما حولها سوى تجانس الإيقاع وتماثل القافية. ولأن السرد ينظم إيقاع الحياة خارج الأذن، ويعتمد على المفارقة بدلاً من القافية، فإن الخيط الناظم لهذه الحبات المستقلة بذاتها لا يتجاوز منطق الحياة ومفارقاتها اللافتة. على أن الأهم من ذلك في شعرية السرد المحفوظي هو أن المادة الأولية اللغوية لمقطوعات الأصداء لا تضج بجمال التركيب ولا تنوء بمحاسن الكلام، فهي لا تزال تهفو للبساطة وتحقق جدلية الحوارية الساخنة. بهذا تقوى على تفجير السحر الغامض الذي يجن به الناس كما يقول محفوظ ويبلغون ذروة السعادة، وإن كانت في كثير من الحالات تقترب من دائرة الشعرية الأخرى لتكتسب حلاوة الإيقاع الناضج المفعم بنضارة الوجود الحيّ. تنقسم مقطوعات الأصداء المكثفة الى عدد من المجموعات المتجانسة في اسلوبها وروحها ووظائفها الجمالية، تتمثل في ثلاثة أنواع: الأول: شذرات بارقة من ذكريات شخصية، علقت بجدار النفس، وتقطرت في لفتات مركزة، تحمل بالفعل أصداءً واضحة لطرف من سيرته الذاتية الغائرة في أعماق وعيه. لكنها لا تنتظم في سردية متوالية، ولا ترتبط بفترة زمنية واحدة، كما أنها لا تخضع لأي نسق، بل تمضي عفوية ومنتثرة، حيث لا تتجلى للقارئ بسهولة، بل تنداح في أفق الذكريات، مثل موجات الصدى البعيد، من دون أن تسمي أشخاصاً ولا تحدد وقائع أو تواريخ. تظل هائمة في نتف متناثرة من سحابات الماضي تتلفع بالشيخوخة وتتبدد بالمجاز. ولولا ما نعرفه عن حياة نجيب محفوظ - على قلته - لما استطعنا أن نلمس فيها مذاق الذكريات. وتقدم لنا المقاطع الأولى من الأصداء نماذج عدة من هذه الموجات المتدفقة من الماضي، من مثل قوله في مقطوعة "الأيام الحلوة": "كنا ابناء شارع واحد تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة، كان يتميز بقوة بدنية تفوق سنه، ويواظب على تقوية عضلاته برفع الأثقال. وكان فظاً غليظاً شرساً مستعداً للعراك لأتفه الأسباب. لا يفوت يوم بسلام من دون معركة. ولم يسلم من ضرباته أحد منا حتى بات شبح الكرب والعناء في حياتنا. فلا تسأل عن فرحتنا الكبرى حين علمنا أن أسرته قررت مغادرة الحي كله. شعرنا حقيقة بأننا نبدأ حياة جديدة من المودة والصفاء والسلام. ولم تغب عنا أخباره تماماً. فقد احترف الرياضة وتفوق فيها وأحرز بطولات عدة حتى اضطر للاعتزال لمرض قلبه. فكدنا ننساه في غمار الشيخوخة والبعد. وكنت جالساً في مقهى بالحسين عندما فوجئت به مقبلاً يحمل عمره الطويل وعجزه البادي. ورآني فعرفني فابتسم، وجلس من دون دعوة. وبدا عليه التأثر فراح يحسب السنين العديدة التي فرّقت بيننا، ومضى يسأل عمن تذكر من الأهل والأصحاب، ثم تنهد وتساءل في حنان: هل تذكر أيامنا الحلوة؟". لا يكاد يخامرنا شك في هوية الراوي الملتبسة بشخصية الكاتب، فمعارك الحارة الصغيرة، وشخصية المروي عنه الفعلية، ومجلس مقهى الحسين تتناثر أخبارها في سيرة نجيب محفوظ المتداولة. لكن المؤلف يصنع منها تكويناً جديداً يفضي إلى اكتشاف المفارقة في نسبية الأحكام التي نطلقها، فيركز على مرارة ذكرياته ورفاقه، ومعاناتهم من شراسة زميلهم الفتوة، ويبالغ في اعتبار رحيله منطلقاً لحياة جديدة للصبية، ثم يلقاه وقد بدت عليه علامات السنين من دون أن تفارقه الغلظة وهو يجلس من دون دعوة، ويجعله ينغمر في تحنان الذكريات حتى تصدر منه العبارة المثيرة للتأمل عن الأيام "الحلوة". هناك نجد موجة صغيرة من السيرة الذاتية وهي تصنع أصداءها في حياة الكاتب، لتكشف - وهذا هو الأهم - عن بلاغة المفارقة في السرد النثري المحكم البسيط. المجموعة الثانية تتألف من حزمة متفرقة من أصداء الأعمال الفنية الكبرى للكاتب، بوسعنا أن نطلق عليها "صندوق القصاصات". فهي مقطوعات تحمل في نسيجها وألوانها الخطوط التي عهدناها في روائع محفوظ مثل: "الثلاثية وأولاد حارتنا والحرافيش وثرثرة فوق النيل" وغيرها. وكأنه بعد أن أتقن صنع هذه الأعمال، بقيت في ذاكرته قصاصة صغيرة ترتبط بعالمه وتنتمي إلى قماشته الخاصة، وعندما أصابته الشيخوخة وقعدت به عن اجتراح المشاريع الروائية الكاملة، استخرج واعياً - أو غير واعٍ - ما لديه من هذه الآثار التي تحمل بصمات الماضي وكشف عن رؤيته. هكذا يستطيع القارئ أن يردها إلى مجالها ويفهمها في ضوئه. لنقرأ مثلاً هذه المقطوعة الطريفة بعنوان "سلّم نفسك": "خطر على بالي فتفجر قلبي بالشوق. ذهبت إلى مسكنه في آخر مساكن الضاحية المحفوفة بالحقول. رحب بي في ودّ قائلاً: مضى عمر على آخر زيارة، ولكنك جئت في وقت مناسب. قال ذلك وهو يشير إلى خوان قصير، وضعت عليه صينية بالعشاء المكون من سمك مشوي وزيتون مخلل وخبز ساخن. ودعاني للعشاء فجلست. وما كدنا نبسمل حتى ترامى إلينا صوت من مكبّر يصيح: "سلم نفسك". وثب إلى مصباح الكهرباء فأغلقه فساد الظلام، وسرعان ما انهال علينا الرصاص من جميع الجهات كالمطر. وقلت لنفسي وأنا أرتعد من الرعب: سعيد من يستطيع أن يسلم نفسه". ليست كلمة سعيد الأخيرة هي التي تذكر ببطل "اللص والكلاب" "سعيد مهران" بل طبيعة الشخصية ومناخ المطاردة، وخفة الحركة ورائحة العالم في السمك المشوي والزيتون والخبز، مثل نظام الجمل واقتصاديات التعبير وجمالياته. ولا ينبغي أن نخدع بضمير المتكلم هنا، فليست له علاقة بالمؤلف الضمني، إلا إذا اعتبرناه في زيارة الى الماضي، الى عالم إحدى رواياته الأثيرة، كما أنني لا أعني بكلمة "قصاصة" معناها الحرفي من أنها قطعة من "اللص والكلاب" كتبت معها، بل لا بد من أن تكون مكتوبة في المرحلة الأخيرة للمؤلف، حيث أصبحت رواياته جزءاً حميماً من ذاته وكينونته. وهو هنا يتجاوب مع أصدائها بتكوين فني بديع ومستقل ومثير للتأمل. فهو يقتضي من قارئه فسحة من الوقت بعد أن يطالعه. وهذه مسألة دقيقة، لأنها تبرهن على العلاقة الحميمة بين الكتابة والقراءة. هذه المقطوعات كتبت منسجمة، كل واحدة منها تمثل نصّاً مستقلاً بكينونته ودلالته. وهي تفرض علينا أن نقرأها بالإيقاع ذاته. فلا نستطيع أن نربط بينها وبين ما يليها بشكل آلي تلقائي. علينا أن نتوقف بعد قراءة كل منها لنتمعن معناها، ونتمثل إشاراتها ورموزها. نمارس ما تدعونا إليه بشغف وإلحاح من تأويل يتجاوز معناها الحرفي الأول. فهي ليست حكايات مباشرة، بل عصارة مقطرة مكثفة لحكاية الحياة والفن معاً. وغالباً ما تتضمن حكمة باعثة على التأمل. فالعبارة التي تختتم بها هذه القصاصة: "سعيد من يستطيع أن يسلم نفسه" ربما تكون تعليقاً على الرواية، أو إضافة مقصودة إلى مغزاها. فالحياة كثيراً ما تورطنا في ما لا نقصد إليه. ومن ذا الذي يستطيع أن ينجو من هذه الورطات وكأنه لم يقع فيها؟ ألا يكون سعيداً بحق؟ ليس بوسع القارئ أن يجتاز هذه العبارة بسرعة ليتابع قراءة ما بعدها. فهناك عنوان جديد ومقطوعة أخرى. من هنا نرى أن تشذر الكتابة يعني نمطاً خاصاً من القراءة المتقطعة، وكأن موجة الصدى لا بد من أن تحملنا إلى فضاء الروح لننعم بالحكمة. المجموعة الثالثة من هذه الأصداء لا علاقة لها بالسيرة الذاتية أو الأدبية. وإنما هي تكوينات إبداعية سردية، تنحو في اتجاه الامثولة التي كان يطلق عليها "جبرا" مصطلح "الليجورة" المأخوذ من الإنكليزية. وهي حكايات مجازية لا يمكن أن نقف عند دلالاتها المباشرة، بل لا بد من تأويلها واستخلاص معانيها المحتملة. وقد أتقن محفوظ في مراحله السابقة صناعة تشكيلات باذخة منها، في مقدمها "أولاد حارتنا" و"الحرافيش"، تقدم صورة للكون في مرآة الأدب. وهو هنا يصنع أمثولات مصغرة طريفة بالتقنية ذاتها. وفي وسع القارئ أن يكتفي بظاهر الأمثولة إن كان قليل الفضول أو الحيلة. ولكن إن أعمل حقه في الفهم سرعان ما تتجلى له إمكانات خصبة. فالمرشد الأعمى - لاحظ المفارقة - يمكن أن يكون صوت الدين الذي هدى الناس طويلاً وأن تكون البائعة الحسناء هي المعرفة العلمية مما يتوازى مع أعمال أخرى لمحفوظ، وربما كان المرشد الأعمى الملائم للعقدين الأخيرين من القرن العشرين هو الفكر الماركسي المهجور وتصبح البائعة الجميلة هي الحرية التي حثت الناس على التخلص من قيوده الايديولوجية وعماه المادي. وربما كانت الدلالة كامنة في دائرة فلسفية أخرى. فالمرشد الأعمى هو العقل البشري كما كان يقول بعض المفكرين، والحسناء هي البصيرة التي تتجاوز محدوديته، الى غير ذلك من إمكانات غنية للفهم والتأويل، ولن نجد لهذه الامثولة اية علاقة مباشرة بسيرة نجيب محفوظ الذاتية ولا شبهاً واضحاً برواياته الادبية، وان كانت تقنية الامثولة ليست جديدة لديه كما اسلفنا. تتضمن اصداء السيرة الذاتية 228 مقطوعة، تقع في قرابة مئة وخمسين صفحة من القطع المتوسط. يختلف ايقاع اجزائها" فهي تبدأ متأنية تكاد المقطوعة الواحدة تستغرق صفحة كاملة وسطوراً عدة، ثم لا يلبث الايقاع أن يتسارع في ثلثها الاخير لتصبح المقطوعة سطراً واحداً وبعض السطر. وكأنها جمل لاهثة كتبت على عجل قبل أن يفرغ المداد. واللافت في هذه التكوينات أن هناك عدداً من الرموز التي تخترق كثيراً منها مرددة اصداء كتابات محفوظ السابقة، مثل الصحراء والحارة والكهف والبحر. غير أن صورة "المرأة العارية" التي تجسد أشواق الانسان في الدنيا وتمثل مباهج الحياة التي لا تفوقها اية لذة تتكرر بوتيرة بارزة في سياق هذه المقطوعات. ولا يطيق محفوظ صبراً على ممارسة صنعته الاثيرة في تخليق النماذج البشرية المكتنزة بالدلالات. فيبدأ من المقطوعة التاسعة عشرة بعد المئة، في الثلث الاخير من الاصداء، في تقديم نموذج رمزي جديد يحتل موقع البطولة في ما بقي من المقطوعات، هو "عبد ربه التائه" الذي ينطق بلسان الحكمة والخبرة والغيب، ويتماهى أحياناً كثيرة مع المؤلف ذاته. وقد كان أول ظهور للشيخ عبد ربه في حينا حين سمع وهو ينادي: "ولد تائه يا أولاد الحلال". ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال: "فقدته منذ اكثر من سبعين عاماً فغابت عني جميع أوصافه" فعرف بعبد ربه التائه. وكنا نلقاه في الطريق أو المقهى أو الكهف. وفي كهف الصحراء يجتمع بالأصحاب، حيث ترمي بهم فرحة المناجاة في غيبوبة النشوات. فحق عليهم أن يوصفوا بالسكارى، وأن يسمى كهفهم الخمارة. ومنذ عرفته داومت على لقائه ما وسعني الوقت وأذن لي الفراغ، وإن في صحبته مسرة، وفي كلامه متعة، وإن استعصى على العقل أحياناً". هكذا عثر محفوظ على ضالته في هذا النموذج العجيب، فهو درويش وعربيد، يقرأ الوجوه والمصائر، وينطق دائماً بعصارة الحكمة. وهو صوت الكاتب ونجيّه، ومحاوره وملاذه وشيخه في الآن ذاته، وهو الصدى الممتد الذي يسبح في مخيلته في فترة القصور والشيخوخة من عهود وأزمان إبداعية مختلفة، بوسعنا أن نعتبره آخر العنقود في مخلوقات الكاتب العظيم. * ناقد وأكاديمي مصري.