يرى الكثيرون في شرب الشاي نشاطاً تقليدياً وعادياً لا يتوقف أحد عند مدلولاته في حياته اليومية، باستثناء ما يرد من نصائح عن فوائد شرب الشاي الأخضر، والذي يحمل، بخلاف الشاي الأسود المؤكسد، قيمة صحية عالية ويفيد في محاربة السرطان. إلا أن تناول الشاي في اليابان يتخذ معاني مختلفة، لأنه يشترط مجموعة طقوس تتطلب قدراً عالياً من الاحتراف، وتجعل الشاي وطقوسه في قلب الحضارة اليابانية. يحمل تناول الشاي الأخضر في بيوتات الشاي الخاصة في اليابان متعة مميزة، ومختلفة تماماً عما يمكن للسائح أن يحصل عليه في المقاهي الراقية في روما أو فيينا أو باريس أو لندن أو نيويورك أو جنيف، حيث للخدمة طقوسها الباذخة أحياناً. ويعتبر الشاي الأخضر المشروب المفضل لدى اليابانيين من دون منازع، باستثناء شراب الساكي الكحولي. وهم يحتسون الشاي الأخضر على مدار النهار ولدى تناولهم طعامهم، ويستخدمونه كمادة حساء لطهو الرز، أو يضيفونه إلى بعض مأكولاتهم. وطريقة اعداد الشاي سهلة إذ تكفي اضافة المياه الساخنة إلى مسحوق الشاي الأخضر المجفف ليتحول المزيج الى المشروب التقليدي الذي يقبل عليه السكان بنهم. ويبتاع اليابانيون المسحوق الجاهز في أكياس مغلقة باحكام ولا يضيفون اليه السكر لتحليته، بل يحرصون على تناوله من دون أي اضافات للتمتع بنكهته الطبيعية. وورد الشاي الى اليابان قادماً من الصين عبر منطقة أوساكا اليابانية المواجهة للسواحل الصينية والكورية. ولكن اليابانيين طوروا استخدامه وأسلوب تناوله، مبتعدين عن أساليب الصينيين المغرمين بتناول الشاي، والذين تتضمن طقوسهم تحضير الشاي عبر غمر أوراق الشاي الأخضر المجففة بالمياه الساخنة، واحتساء نقيعها ببطء، ثم تكرار النقع بالمياه الساخنة مرتين، قبل رمي أوراق الشاي الأخضر، مع إضافة بعض الفواكه المجففة أحياناً الى الشاي لاكسابه طعماً مميزاً. وتقول الروايات إن الراهب الصيني إيساي هو الذي أدخل الشاي الى اليابان، في نهاية القرن الثاني عشر، قبل أن يتحول استهلاك أوراق هذه النبتة الخضراء بعد ذلك الى نمط خاص بالحياة اليابانية ويولد ثقافة عيش فريدة من نوعها في العالم. وانطلقت زراعة الشاي في البداية في مدينة أوجي العريقة. وهذه تتخذ اسمها من نهر أوجي، أحد أجمل الانهار اليابانية، وهي تقع إلى الجنوب من كيوتو، العاصمة الامبراطورية السابقة لليابان، والمدينة التي تم فيها اقرار اعلان كيوتو الخاص بالبيئة قبل أكثر من عامين. وكانت أوجي في الحقبة الامبراطورية السابقة تتبع محافظة توكوغاوا الامبراطورية، التي يحكمها أحد نبلاء البلاط. وتمتعت عائلة كانباياشي، إحدى العائلات المحلية التي اشتهرت في تاريخ اليابان بتحضير أفضل أنواع الشاي الأخضر التي كانت تقدم على موائد الاباطرة والحكام، بحق الاشراف على تجارة الشاي في أوجي، التي لا تزال تشتهر الى اليوم بأنها مصدر أفضل شاي أخضر في اليابان. وشهد عدد عائلات تجار الشاي تناقصاً مستمراً أوصلها من 16 عائلة إلى عائلة واحدة هي عائلة كانباياشي التي اضطرت في نهاية المطاف إلى اللحاق ببقية التجار الذين تخلوا عن تجارة المسحوق الأخضر العطري. وأدى زوال التجارة إلى تدمير بيوت تجار الشاي في اوجي التي كانت تتميز بوجود بوابة عريضة عند المدخل، مبنية وفق طراز هندسي يدعى "ناغايا-نوون". ويستخدم اليابانيون الخشب بوفرة في بناء مساكنهم وأماكن راحتهم. وهي منازل صحية يحافظون عليها ويعتنون بها. ويفضل اليابانيون الحصر المجدولة الدقيقة التي تغطي ارضيات بيوتهم والتي يمدون فوقها فرش النوم في المساء. وبيوتهم نظيفة للغاية بما عرف عنهم من حب كبير للنظافة يمتد ليشمل كل تفاصيل حياتهم اليومية. ولا تشذ أساليب بناء منازل الشاي التقليدية عن تقاليد بناء المنازل اليابانية العادية التي يستخدم فيها الخشب بكثرة. وأقامت بلدية أوجي منزلاً يقع بالقرب من مركز الاستعلامات السياحية في المدينة، على ضفاف نهر أوجي الساحر، خصصته للسياح الراغبين في تذوق الشاي الأخضر الياباني والتعرف الى طقوسه التقليدية، مقابل تسديد رسم لا يتجاوز 500 يوان، أو نحو أربعة دولارات. ويضم "بيت الشاي"، ويحمل اسم "تايهوان"، غرفتي جلوس إحداهما تحوي كراسي وطاولات، والأخرى مقاعد وعارضات خشبية تشبه طاولات مستطيلة، وهو مبني على الطراز الذي كان سائداً خلال فترة "إيدو" الامبراطورية التي عرفتها اليابان خلال القرنين الماضيين. ولعل أكثر ما يثير الدهشة في تقاليد تناول الشاي الأخضر الياباني هو أن المرأة التي تتولى استقبال الضيوف وتقديم الشاي تحتاج الى 20 عاماً من الخبرة، قبل أن تدعي أنها أصبحت مضيفة محترفة. ويُفترض بها أنها تملك قدراً عالياً من الكياسة التي تميز عادة النساء اليابانيات، لا سيما ذوات التربية التقليدية، واللواتي تعكس تصرفاتهن وشخصياتهن أنوثة ودماثة قد لا تستطيع أي امرأة أخرى في العالم مجاراتهن بها... مهما فعلت. والمضيفة تتقن الاهتمام بضيوفها الذين يرغبون في تناول الشاي الأخضر وتبدي لهم حسن الوفادة والترحيب والعناية بحاجاتهم وتتولى تقديم الشاي لهم. ويقبل اليابانيون على تناول الشاي الأخضر في بيوت الشاي بشغف، مظهرين تمتعهم بمذاقه الساخن، في جدية تشبه، الى حد بعيد، الطقوس التي يقبل عليها رواد المعابد. ما اشربش الشاي... أشرب قازوزه أنا تقديم الشاي الأخضر، فن اسمه "تشا-نو-يو" وله أدواته ومعداته الخاصة. وتحيطه طقوس يتعين احترامها. ويطلق على موقد الفحم المستخدم في التحضير "فورو"، وتتيح جدرانه البسيطة الارتفاع احتواء الابريق الذي يطلق عليه "كاما". ويطلق على كوب الشاي "شاوان"، وعلى مسحوق الشاي الأخضر "شاشاكو". أما الوعاء الصغير الذي يوضع فيه مسحوق الشاي الأخضر فيطلق عليه "ناتسوميه" أو "أوسوكا". وتستخدم جرة لها غطاء يطلق عليها "ميزوساشي" في حفظ الماء المستخدم لملء الابريق أو غسل الأكواب. أما الوعاء الذي تجمع فيه المياه الناجمة عن غسل الأكواب فاسمها "كنسوي". وترفع المياه الساخنة من الابريق بمغرفة ذات مقبض طويل اسمها "هيشاكو"، وتصب في الكوب، حيث يكون قد جرى سكب بعض مسحوق الشاي الأخضر. ولتحريك المسحوق في الكوب تستخدم بعد ذلك فرشاة صغيرة من القش اسمها "تشيسن"، قد تكون فرشاة الحلاقة صنعت على شاكلتها لأنها تشبهها تماماً. وتقوم المضيفة بتقديم صنف من حلوى البامبو الفائقة الحلاوة، التي يتعين تناولها كاملة قبل شرب الشاي الأخضر. ثم تقدم بعد ذلك الكوب في انحناءة مؤدبة. ويتعين على الشارب تناول الكوب بعد القيام بانحناءة تحية. ويستلم الكوب بيده اليمنى، ويضعه في راحة يده اليسرى. ثم يدير الكوب بعد ذلك بيده اليمنى ثلاث مرات. ومع احتفاظه بيديه هما تحيطان بالكوب يقربه من شفتيه ويحتسي ما فيه دفعة واحدة أو على دفعات، من دون أن يغادر راحة يده اليسرى. وعندما ينتهي يمسح بيده اليمنى المكان الذي مسته شفتاه من الكوب، وبعد ذلك يديره ثلاث مرات عكس المرة الأولى ويعيده من ثم الى المضيفة. ولا يمكن للمضيف أن يدخل مع ضيوفه من المدخل نفسه، بل هناك مدخل خاص لكل منهما في غرفة الشاي نفسها، واسم مدخل المضيف "سادو غوشي"، ومدخل الضيوف "نيجيري-غوشي". ويقسم بيت الشاي الى غرفة تحضير الشاي وهذه اسمها "تيمايي داتامي"، وغرفة جلوس الضيوف وهذه اسمها "كايوكو داتامي". أما الضيوف الخاصون فلهم جناح اسمه "كينين داتامي".