Abderrahim Lamchicehi. L'Islamisme Politique. الإسلامية السياسية. L'Harmattan, Paris. 2001. 176 pages. الميزة الكبرى لهذا الكتاب الصغير انه يطرح مسألة الاسلام السياسي على مستويات ثلاثة مجتمعة: على المستوى الجينالوجي، وعلى المستوى الاثيولوجي، وعلى المستوى الفينومينولوجي. أي بعبارة عربية: على مستويات علم الأصول وعلم الأسباب وعلم الظواهر. ذلك ان مسألة الاسلام السياسي، على راهنيتها الصارخة، تضرب جذورها عميقاً في التراث الاسلامي التاريخي، وتتحكم في تكوينها وصعودها وأفولها مروحة عريضة من العوامل والأسباب، وتتسع في تظاهراتها لشبكة واسعة من التيارات والحركات والمنظمات المتباينة في ما بينها الى حد التعادي والتكفير المتبادل. وعلى رغم ان عبدالرحيم اللمشيشي، وهو جامعي وباحث فرنسي جزائري الأصل، متخصص في قضايا الإسلام السياسي، يوفي جميع هذه الجوانب حقها، فإن الجانب الأكثر تجديداً في كتابه الجديد، وربما الأكثر راهنية بالإحالة الى ما حدث في نيويورك وواشنطن يوم 11 ايلول سبتمبر الماضي، يتمثل في محاولته التصنيفية الشاملة للحركات الاسلامية انطلاقاً من موقفها من مسألة العنف السياسي. فالموقف من العنف ينهض بذاته معياراً كافياً للتمييز بين الحركات الاسلامية ولتحديد مواقعها الاجتماعية وهويتها الايديولوجية، ودرجة تجذرها وتطرفها، ومستوى تطورها الثقافي، فضلاً عن مستوى التطور الحضاري والسياق الجيوبوليتيكي للبلد أو للجناح الجغرافي الذي تنشط فيه. وكقاعدة عامة فإن الحركات التي تفلح في توسيع قاعدتها الاجتماعية وصولاً الى كسب تعاطف قسم من الانتلجنسيا، والتي يقودها افراد متحدرون هم أنفسهم من القطاعات الحديثة من المجتمع اساتذة، محامون، أطباء، مهندسون، الخ ومنتمون الى الطبقات الوسطى الصاعدة، تنزع اجمالاً الى التنكب عن طريق العنف وتعطي الأولوية للعمل السياسي وللنشاط الاجتماعي والتربوي لبلوغ أهدافها. وهذا، بطبيعة الحال، ان كانت النخب الحاكمة والأوضاع الدستورية القائمة تتيح لها الفسحة الكافية للمشاركة في الحياة السياسية الشرعية وللدخول في المسابقة الديموقراطية الانتخابية. ومن هذا المنظور فإن حزب الرفاه التركي يمثل النموذج الأكثر تطوراً لحزب اسلامي شرعي ونافذ. فالرفاه يحصد نحواً من 15 - 20 في المئة من أصوات الناخبين الاتراك، وهو يجند أنصاره من مختلف الأوساط الاجتماعية، لا سيما من الشرائح الوسطى والمدنيين، ويحرص قادته على تمتين صلاتهم بأوسع شريحة ممكنة من الانتلجنسيا، بما في ذلك الجناح المعارض من المثقفين اليساريين والديموقراطيين، وهم يقيمون علاقات شخصية وحوارية حتى مع بعض الدوائر الحاكمة. وبدوره يقدم نجم الدين اربكان، زعيم حزب الرفاه نموجاً لقائد اسلامي "علماني". فهو ليس رجل دين، ولا فقيهاً، ولا منظراً اسلامياً، بل هو سياسي محترف، شارك منذ عشرات السنوات في العديد من الائتلافات الحكومية أو المعارضة، وكان شاغله الدائم من طبيعة ذرائعية خالصة، محوره الدفاع عن المصالح الاستراتيجية والاقتصادية الخاصة لبلده. ورغم حضور بعض المقولات الاسلامية في خطابه، فإن نزعته الاسلامية تبقى من طبيعة قومية طورانية لأن تركيا، بحكم تطورها الاقتصادي والثقافي، تبقى هي المؤهلة في نظره، اكثر من أية أمة اسلامية أخرى، لقيادة العالم الاسلامي ولتحقيق الوحدة الاسلامية تحت رايتها. وفي مصر، يمثل الاخوان المسلمون هم ايضاً نموذجاً، عتيقاً والحق يقال، لحزب اسلامي معتدل لم يأخذ طريقه الى التجذر وتبني العنف الا بصورة مرحلية، وتحت ضغط القمع كما في الحقبة الناصرية. فالإخوان المسلمون كان لهم على الدوام حضور برلماني، وقبلوا في اكثر من مناسبة تشكيل قوائم انتخابية مشتركة، لا سيما مع ممثلي حزبي الوفد والعمل، وحتى مع بعض الشخصيات العلمانية والقبطية والليبرالية. وبحكم الانغراس الاجتماعي للاخوان المسلمين في الشرائح الوسطى الصاعدة وفي قطاع واسع من الانتلجنسيا، فإن هذا الحزب لا يؤثر ان يمارس - الا حيثما اضطره القمع الى ذلك - استراتيجية القطع مع اللعبة السياسية. ويقدم تطور حركة الاخوان المسلمين في سورية مثالاً على مسار معاكس. فطالما كانت اللعبة السياسية في سورية من طبيعة برلمانية، فإن الاخوان المسلمين كانوا ينشطون في المجال الشرعي ويخوضون المعارك الانتخابية ويشاركون في قوائم ائتلافية. لكنهم، مع القمع السلطوي في عهد الوحدة ثم بعد انقلاب آذار مارس 1963، تحولوا الى النشاط السري ولجأوا الى العنف السياسي الذي بلغ ذورته في فتنة مدينة حماة في 1982. وعلى العكس من ذلك، كان مسار الحركة الاسلامية في المغرب. فهذه كانت سلكت طريق التجذر والتطرف، ثم ما لبثت ان تحولت الى النشاط السياسي الشرعي منذ ان اتيحت لها فرصة المشاركة في اللعبة السياسية والانتخابية، وتبنت خطاباً معارضاً للعنف الى حد ان بعض قادتها قد دانوا علناً العنف الهمجي للجماعات الاسلامية المسلحة في الجزائر. ولا يصعب على المرء ان يلاحظ انه ابتداء من آخر الثمانينات حدث تغير واضح في سلوك الحركات الاسلامية، باتجاه التجذر والتطرف، أو حتى المزايدة في مجال العنف السياسي والارهابي. فالحركات الاسلامية باتت تجند محازبيها من أوساط الشباب المهمش في المدن وفي احياء الصفيح التي ناءت تحت وقر الهجرة الريفية، كما من أوساط الطبقات الوسطى المعانية من ظاهرة التخلع الطبقي والبطالة والإفقار المعمم وانسداد الأفق المهني وأزمة السكن والزواج في ظل ما بات يعرف باسم عهد الانفتاح الذي ترجم عن نفسه بالمقابل سلوكاً بذخياً فاجراً لدى الطبقات العليا وطبقة المقاولين والمرتشين الجدد. وقد تواقت هذا التحول في البنية الاجتماعية للحركات الاسلامية مع انقسامات تنظيمية خطيرة أدت الى ظهور جماعات اقلوية متطرفة مثل "التكفير والهجرة" كفرت الحكومات القائمة والمجتمعات على حد سواء، ورفعت شعار "إعادة الأسلمة" بالقوة، واعتبرت "الفداء" و"الشهادة" و"الجهاد" الطريق الأوحد للخلاص من "طاغوت الجاهلية"، الأمر الذي لم يترك أمامها من خيار آخر سوى "الخروج" الهجرة عن المجتمع والتحول نحو ما يمكن تسميته ب"حرب غوار اسلامية". ولعل أبرز مثال على هؤلاء الخوارج الجدد تقدمه "الجماعة الاسلامية" في مصر و"الجماعات الاسلامية المسلحة" في الجزائر. فهاتان الحركتان "قطعتا" مع الثقافة السياسية السائدة، وحتى مع الحركة الاسلامية المعتدلة الأم التي تحدرت منها الاخوان المسلمين في مصر وجبهة الانقاذ الاسلامية في الجزائر لتقيما مع العنف علاقة هستيرية مرضية. وقد غدا موضوع ارهابهما واغتيالاتهما، ليس لرجال السلطة وحدهم، بل كذلك للمثقفين والصحافيين والفنانين، وحتى للمواطنين الأبرياء المستنكرة عليهم براءتهم بحكم الطبيعة "الجاهلية" و"الوثنية" للمجتمعات المسلمة التي يعيشون فيها. وقد أخذ منطق "الخروج" اكثر اشكاله تطرفاً عندما كفّ الإطار القومي للدولة أو للمجتمع المعني عن ان يكون هو اطار تحشّد ونشاط المجموعات الاسلامية الجذرية. فعلى عكس الحركات الاسلامية التقلدية، فإن استراتيجية المجموعات الاسلامية الجذرية الجديدة تقوم على تجاوز التمايزات القومية والاثنية لتتلبس طابعاً أممياً بالإحالة الى جماع "الأمة" الاسلامية. ويتأكد هذا الطابع الاممي مع نزوع هذه المجموعات الى اعتبار اكثر الدول المسلمة القائمة، سواء أكانت قومية أو ما دون قومية أو فوق قومية، دولاً فاقدة للمشروعية أو عديمة التمثيلية للأمة الاسلامية. ومن هنا تضخم الحاجة لدى المناضلين في اطار هذه المجموعات الى الانتظام في شبكات عابرة للقومية تعطي الأولوية لا للايديولوجيا أو للبرنامج السياسي، بل للعمل العنيف المباشر، أو حتى الارهابي. وبمعنى من المعاني يمكن القول ان هذه المجموعات التي لا تعترف بالحدود السياسية القومية، تمارس "العولمة" على طريقتها الخاصة. والنموذج الأكثر تمثيلاً لهذا الجيل الجديد من النشطاء الاسلاميين تقدمه شبكة "المجاهدين" الافغان الذين ما سموا بهذا الاسم إلا بالإحالة الى قاعدتهم الجغرافية الحالية، لا بالإحالة الى جنسيتهم، والذين لا يحصرون في الواقع مسرح نشاطهم بدولة واحدة، بل ينقلونه وينتقلون معه حيثما هبت ريح الأزمات، وحيثما دعت الحاجة الى الدفاع عن قضايا الأمة الاسلامية: الجزائر، جنوبلبنان، الأراضي الفلسطينية المحتلة، السودان، الصومال، البوسنة، الشيشان، داغستان، الفيليبين، الخ. واكثر ما يميز هذه المجموعات من وجهة النظر التنظيمية هو هلاميتها، وانعدام طابعها المركزي والهرمي، و"بداوتها" الحركية الكبيرة، مما يؤهلها لتنفيذ عملياتها في أي مكان من العالم من دون ان تكون قابلة للكشف أو للضرب حتى لو قتل أو ألقي القبض على الأفراد من منفذي تلك العمليات.