يطلق اللبنانيون عبارات عدة في حياتهم اليومية، وتصبح آلية. وأنا غير الفالحة في استخدام الكثير من هذه العبارات، يطيب لي حفظها أو بالأحرى تذكر القليل منها، كي أبارز بها الايطاليين على الأقل، وهم لهم عباراتهم في كل "محط كلام". وفي زيارتي الأخيرة الى بلدي لبنان يؤلمني استخدام كلمة زيارة أكثر ما شدني ترداد عبارة "عاش مين شافك". وهذه بلا مرادف في الايطالية. ويستغرب اللبنانيون عندما أرد "أسترد العيش عندما أراكم وعندما أزور بلدي". وتبدأ المعزوفة الجاهزة: "شو فيها بيروت. ما فيها شي. صخب وتلوث والناس هلكانة اقتصادياً، على حافة الفقر، على حافة التصحر، وسياسياً البلد على كف عفريت!". وأنا التي لا أريد الانصياع أعلم ان العفاريت دخلت فينا كلنا، ومن هم في الغربة على كف عفريت أيضاً. المهم زيارتي الى لبنان سنوياً تعيدني الى توازني وأحياناً توزعني كما توزعني ايطاليا على مستوى الهوية والانتماء، فأنت في وطنك لم تعد مقبولاً كلبناني، وهنا لا تستطيع ان تكون إلا أنت، لكنني حيث أنا استمريت في التواصل مع بلدي على الأقل عبر شاشات التلفزة العربية، ومنذ عام تابعت كيف انسحبت اسرائيل وحرر معتقل الخيام. بقيت مذهولة من المشاهد التي بثتها القنوات العربية، وآلمني حقاً هاجسي المهني، وهو عدم تغطيتي هذه اللحظة التاريخية، وأنا التي كنت أركض لاهثة إبان الحرب في زواريب بيروت من قرية الى أخرى ومن مخيم الى آخر. لذا كان في أوائل قائمة زيارتي هذا العام، التوجه الى الجنوب من دون رعب القذائف والقصف المجاني، والأهم زيارة الخيام حيث جذوري، وأنا المولودة في بيروت لم يتسن لي مرة واحدة زيارة قريتي. توجهت بحنين، يرافقني صديق من الجنوب. في الذاكرة مشاهد العام المنصرم المتلفزة. نساء ورجال، أمهات وأبناء يتعانقون، وآخرون يرمون الحجارة على الاسرائيلي عند معبر فاطمة. لا أدري فعلاً لماذا "فاطمة". ليس في لائحة عمليات المقاومة شهيدة بهذا الاسم. توجهت وفي القلب خوف وفي الرأس توجس. وفي توجهنا الى الخيام، قال صديقي مشيراً الى كومة خراب فوق تلة على طريقنا: "بعدما أخذت فرحة التحرير عقول المسؤولين في المنطقة، اقتُرفت الغلطة الكبرى، حيث دمِّر مسجد وكنيسة بُنيا إبان مرحلة الاحتلال مع ان تكلفة البناء بلغت مئات آلاف الدولارات". قلت "كان يمكن فعلاً، الابقاء على هذين المعلمين، ربما ليس لاستخدامهما وانما كشاهدين على تلك المرحلة". "المرج" يرافقك من بعد. قال صديقي عند دخولنا القرية: "هذا مرج الخيام". كنت قرأت عن المرج، كما قرأت عن "الدردارة". والدردارة؟ سألت؟ فالخيامي يرمز الى قريته بأمرين: المرج والدردارة. قال عند وصولنا: "ها هي!". ترجلت، انها بحيرة، كما كتب على عمود قربها. قلت للشاعر حسن العبدالله عندما التقيته في مكاتب "الحياة": "تربينا على كلمة الدردارة. وديوانك حمل هذا الاسم لكني عندما وصلت اليها لم أجد كلمة الدردارة. وفتشت ولم أجد سوى البحيرة". وقلت لصديقي الجنوبي: "ربما استبدلوا الاسم باسم حضاري. لعيون السياح!". لكن ليس من احصاء حتى بعدد السياح الذين زاروا الخيام ومعتقلها. وكما يفعل الايطاليون، اشرت بأبهامي آلياً يمنة ويسرة وبعيني من دون كلام يستخدم الايطاليون اشارات جمة بأيديهم وأصابعهم للدلالة على ثمة شيء سلبي أو ايجابي. وصلنا الى المعتقل. شباب في الخارج يوجهونك أين توقف سيارتك، دخلت وعلى يميني سلة مهملات قرب الغرفة التي استخدمها الصليب الأحمر. السجن مفتوح للجميع، الى اليسار اسماء المعتقلين والعملاء. في الداخل دليل سياحي واحد، هو أحد المعتقلين يروي بطريقة "أهلية بمحلية"، كيف كان اللحدي والاسرائيلي يعاملان المعتقل وأساليب التعذيب. عند عمود الكهرباء المشهور، استمعت قليلاً لتعليق الدليل والى جانبي أحد الزوار الأميركيين، "في الواقع بقي الدليل يتحدث حوالى نصف ساعة عن هذا العمود والتعذيب..."، قال الزائر: "ربما كان الدليل ينتظر اغماء من هم حوله، أو التوصل الى نقل رسالته الغائب عنها المنطق والاقناع، كاشارة الدليل مثلاً الى ترك السجين أياماً لتعذيبه على عمدو الكهرباء وبالتالي قتله، علماً أن ثواني معدودة كفيلة للقضاء على حياته". بالطبع ما من أحد قادر على نفي أساليب التعذيب الوحشية التي مارسها المحتل بحق المعتقلين، لكن كيفية ايصال هذه الرسالة تتطلب الكثير من المنطق من دون شك. في الواقع، دخلت السجن، درت كمن يفتش في شيء ما بين الزنزانات، لكني بعدما قمت بجولتي إثر عام من التحرير، الانطباع الوحيد الذي ترسخ لديّ، أني شعرت بمرارة بالغة، فالحدث أكبر بكثير من الرمز الذي بقي. وما هكذا يمكن التعامل مع رمز لأبطال الوحشية الاسرائيلية باستخفاف وأكثر. فبعد عام، لم ألمس خطوة واحدة عملية لتحويله نقطة استقطاب محلية أو عالمية، فليس كافياً أبداً الكتابة على جدران الغرف: "هنا الصليب الأحمر، وهنا السجن الافرادي، والجماعي، وهنا الحمّام... وهنا عربة اسرائيلية مدمرة، وهناك شكل لاسرائيلي ترك داخل سياج في باحة المعتقل". على شاشة التلفزيون لقاءات اسبوعية للمناسبات مع معتقل أو معتقلة محررين. فما المانع، وبتكاليف بسيطة لأن العذر دوماً هو المال وتحرير كافة التراب!، تحويل السجن الى متحف كمبدأ، أو المباشرة بالفكرة، وليس الدخول الى حرم المعتقل وكأنك في نزهة، أو في زيارة الى منزل عادي مهجور تجول فيه كما يحلو على خاطرك. ليس من استعلامات على مستوى الحدث، غير دليل واحد يتحدث بالعامية ولا يملك لغة أخرى، بالطبع من حق المحررين الريادة في ادارة المعتقل اليوم سواء أمنياً أو معلوماتياً. لكن يمكن هذا المعتقل مؤازرة المعتقلين المحررين ودعمهم ناهيك عن أنه ليس من غرفة يمكنك الاستماع فيها الى شهادات المعتقلين ببساطة عبر شريط فيديو على الأقل، أو نبذة عن المعتقل، وليس من كتيّب صغير كدليل وذكرى، وليس من ذكرى تحملها معك لزيارتك هذه، بالعربية أو غيرها، حتى الكافتيريا التي نصبت عند مدخل المعتقل يمكن الافادة من موقعها وتحسين هدفها لخدمة المعتقل بتوفير ما يتطلبه الزائر، بخاصة ان الخيام خالية من هذه الخدمات حالياً... على الأقل موقف منظم للسيارات في الساحة الخارجية. لا شيء سوى الخطابات والخطابات! قال الزائر اللبناني القادم من أميركا: "المسؤولون مهتمون بالطرق وقصورهم". لم أحمل الى ايطاليا، سوى الصور التي التقطتها، وأنا في بلد يستثمر ناسه حجرة صغيرة لتصبح محجاً ومركز استقطاب سياحي. يوم مغادرتي بيروت. استيقظت صباحاً على حداء أعمى، هو الحداء نفسه الذي ترعرعنا عليه. توجهت الى الشرفة، رأيته،. المشهد نفسه الذي واكبني منذ طفولتي، ضرير يجره ولد أو قريب. وفي الطائرة، عندما هممت بأخذ مقعدي قرب النافذة، لم يتحرك المسافر المجاور لمقعدي، قبل ان اهم بالاستئذان، للمرور، قالت المضيفة: "يفضل ان نتركه بسلام فهو ضرير". "كلنا عميان على الأرجح، يجرنا ولد أو قاصر بحسب نوع الحداء". لكنني رددت أيضاً: "لماذا غافلني أبي بموته، ولم يترك لنا غرفة واحدة في الخيام أو حائطاً؟ فالهواء منعش في الخيام".