لا يأخذ زائر سجن الخيام ذلك الشعور بالقشعريرة، أو الحزن أو حتى الغضب، إذ يجد نفسه أمام صدفة عاشها فردٌ مُعتقَلٌ كان أو معتقِل... فالغرف التي لم يصمد فيها إلا بعض الأثاث، نجده كله في إحدى الزوايا، مدمراً، محطّماً. لا نرى كرسيّاً في زاوية، أو غطاء مقلوباً على سرير، أو مشطاً ومرآة على طاولة، وإذا وُجدت لا نشعر أنها كانت هكذا في لحظة كان الدخول الى هذه الغرفة، أو هذا السجن، ممنوعاً... وهو السبب لكونه الآن مكاناً نقصده للزيارة. كأن تاريخ هذا المعتقل السابق أو المتحف بدأ يوم التحرير، وليس قبله بعشرين عاماً. هناك من يقول أن مشروعاً يُعدّ لتحويل معتقل الخيام الى متحف دائم. فكيف ذلك؟ هل سيشترون أثاثاً جديداً ويوزعونه على الغرف، وهل سيعيدون طلاء الجدران؟ ضاعت التفاصيل التي كانت وحدها قادرة على إبقاء جوّ من التوتر والحقيقة، وبقيت الصورة العامة، الواسعة، البعيدة التي كل ما تفعله هو الإيحاء بتلك الحقيقة التي لا نستطيع إلاّ أن نتخيلها. صادف وجودنا هناك، في آخر النهار، وكان عدد الزائرين بدأ يقلّ، حتى بتنا أفراداً لا جماهير جاءت للاحتفال أو جيوشاً جاءت تثبت انتصارها... كثر من الزوّار في معتقل الخيام ينظرون الى غرفه وأركانه بشعور عارم من الانتصار، يتجوّلون داخل المعتقل كأنهم يحتفلون بغياب العملاء عنه، العملاء فقط وليس السجناء السابقين. يكتبون على الجدران شتى أنواع الشعارات من بينها تحيات الى من كانوا معتقلين وشتائم للعملاء، ثم شعارات من تلك التي يكتبها طلاب المدارس على طاولاتهم حين يخرج الأستاذ من القاعة كما خرج العملاء من المعتقل: "أنا مررت من هنا، مع اسم المار والتاريخ". وهم بذلك يتابعون حربهم مع العدو، الحرب التي باتت معاركها أسهل عليهم بعد التحرير. بات كل دليل على عذاب الأسرى السابقين، بلا فائدة. سجن الخيام هو كمعركة انهزم فيها اللبنانيون يوماً بعد يوم، خلال فترة الحرب الطويلة، ثم ربحوها مرّة واحدة يوم التحرير. والمعتقل ما عاد يصلح ليكون متحفاً أو معرضاً لما حصل فيه خلال سنوات الحرب. فأغاني المقاومة الوطنية المرتفعة الصوت، تمنع الزوّار من الشعور بالصمت الذي كان سائداً حين كان المكان سجناً، ذلك الصمت الذي تركه السجناء عميقاً وراءهم. فشعور الزائر أنه في مهرجان يغلب على شعوره أنه في متحف كان معتقلاً. والكتابات الكثيرة على الجدران تكسر تلك الصورة الصادقة التي يبحث عنها الزائر حين يأتي ليبقى دقائق في المكان نفسه الذي بقي فيه السجناء سنوات. المكان هذا ما عاد نفسه. والفرق كبير بين معتقل الخيام كما تركه العملاء، والمعتقل كما هو الآن، بعد أن دخلت إليه القوات المحرِّرة. في ساعات الليل الأولى بدأ أصحاب الدكاكين المتنقلة والبسطات التي تبيع صوراً وكتباً وأغانٍ وطنية وخطابات للمقاومة، باغلاق سوقهم والاختفاء... فهم لا يوجهون موسيقاهم وسلعهم إلاّ للأعداد الكبيرة. فساد صمت اعتاد عليه السجن أكثر، وأصبح جزءاً منه. والظلام جعلنا ننتبه الى عدم توافر الإضاءة داخل الزنازين، ربما كانت طريقة أخرى لإنهاء المهرجان... فمن دون البسطات والموسيقى والجماهير، لا يعود السجن قابلاً للزيارة. غير أننا اكتشفنا أن العكس هو الصحيح، فالصمت وعدم توافر الإضاءة، جعلنا نرى الجدران سوداء، من دون الكتابات، والغرف المظلمة أصبحت أقرب الى غرف السجون... الممرات الطويلة تتناقض مع ضيق الغرف، وقلة الزوّار جعلت وجودنا في إحدى الغرف أو الممرات جائزاً... بعد أن هممنا بالخروج قرأت على إحدى الأبواب التي تؤدي الى مجموعة غرفة: "غرف نوم العملاء... الآن حمامات للاستعمال". ألا تشبه هذه العبارة فكرة أو صورة من يطعن عدواً أو يركله، بعد أن وقع هذا العدو أرضاً وما عاد يحارب، أو عدوّ ذهب، فانفردنا بظله وأكملنا الحرب معه.