تمثال "لينين" في مدينة "سياتل"؟ كيف تسلل هذا الثوري العتيق القائم على ولائه لأفكار كارل ماركس في القرن التاسع عشر، الى المدينة التي تكاد ان تصلح نموذجاً لمدن رأسمالية القرن الحادي والعشرين؟ هل جاء ليشرب القهوة في أحد المقاهي الأربعمئة التي تملكها "ستار باكس"، سلسلة المقاهي التي انطلقت من "سياتل" لتملأ مدن العالم كرمز دخول العولمة الى الحياة اليومية فيها؟ سياتل، تحتضن مقار كبريات الشركات وتصنع ايقاع اللحظة في العولمة استقبلت "معرض تجارة العالم" في 1962، ببناء برج عال يعلوه صحن طائر، باعتبار ان خيال الفضاء، في حينه، هيمن على صورة مستقبل البشرية. فكيف تصالح تمثال ماضي الشيوعية الذي أفل، مع مدينة الرأسمالية المعولمة التي تدأب على التطلع الى المستقبل بقوة؟ لم تكن طريق لينين الى سياتل سهلة، والارجح انها انقذته من الذهاب الى "مزبلة التاريخ" التي دأب على توقع رمي الرأسمالية فيها! فعندما أطيحت النظم الشيوعية في العالم، تهاوت تماثيله في غير عاصمة ومدينة من العالم. وقصد يساري انكليزي تشيكوسلوفاكيا السابقة، ليجد التمثال مرمياً في مكب نفايات إحدى مدنها. عرض الانكليزي شراء التمثال، ووافقوا على البيع فوراً، ونقل التمثال الى باحة منزله في بريطانيا. وظل التمثال في الحديقة الى أن قضى المشتري في حادث سيارة، فنشرت عائلته إعلاناً في الجرائد تعرض فيه بيع التمثال لمن يرغب، ضمن مهلة تقوم بعدها برمي التمثال في النفايات مجدداً. ومن كل مدن العالم وضواحيه، لم تستجب سوى ضاحية "فيرمونت" في سياتل، اذ اشترت التمثال وأفردت له مكاناً بارزاً في إحدى ساحاتها. إذاً، إنها ضاحية "فيرمونت"... على أية حال! لو أنت قلت هذه العبارة الى أيٍّ من قاطني المدينة لفهم فوراً الغمز واللمز في كلماتها. فيرمونت ليست مجرد ضاحية من حوالى سبع ضواحٍ مماثلة تتألف منها المدينة، ذلك أن البعض لا يتردد في اعتبارها صداع رأس لا شفاء منه، أو شيئاً من ايكزوتيكية لا تخلو منها مشهدية الحياة في الولاياتالمتحدة. ففي الانتخابات الرئاسية الاخيرة، صوّت 75 في المئة من قاطني سياتل الى جانب مرشح الحزب الديموقراطي آل غور، بينما أعطت ضاحية "فيرمونت"75 في المئة من أصواتها الى مرشح اليسار من أصل عربي، رالف نادر. وتشاء المصادفة ان يحمل الاوتوستراد الرئيس الذي يصل الى فيرمونت من شرقها، اسم "أورورا"، وهي كلمة فرنسية معناها "الفجر"، لكنها أيضاً اسم قارب الحرب الذي أطلق النار على قصر آل رومانوف في مدينة بطرسبرغ في العام 1917، مدشناً ثورة لينين ضد القياصرة. ولاحقا ً صار اسم القارب "أورورا"، من رموز الشيوعية في العالم. والداخل الى ضاحية فيرمونت، يلفته فوراً شيوع ملابس الهيبيز والجينز والشعور المصبوغة بكل الالوان والاوشام التي تبرز على أجساد الرجال والنساء. إنها ضاحية من خاضوا في تمرد شباب جيل الستينات وثقافته التي تجمع أشياء مثل روح السلام ومناهضة الحرب، والتمرد على يمين أميركا المحافظ بكل اشكاله، والهيبية والبوهيمية والتحرر الجنسي الى اقصى الحدود، وتأييد تدخين الماريجوانا والحشيش، وكراهية العسكر والكنيسة، ورفض التمييز العنصري واحتضان قضايا الاقليات العرقية وما الى ذلك. وترى الناس في الضاحية بملابسهم الرثة، خصوصاً اذا كانت الزيارة في يوم العطلة الاسبوعية الاحد. وتدهش للعدد الكبير من سيارات الفولسفاكن القديمة امام البيوت. لكن، عليك الحذر وعدم القفز الى النتائج. فسكان الضاحية شديدو الثراء ايضاً، على رغم تصميمهم على الولاء لماضيهم المتمرد. وتلك السيارات القديمة تساوي ثروة، فهي كانت رائجة في الستينات، ومن لم يحتفظ بسيارة من ذلك الزمن فإنه يشتري واحدة، حتى لو كلفته مبالغ طائلة. ويسكن متمردو الامس في فيلات لا يقل ثمن أرخصها عن نصف مليون دولار، وهذا ثمن بخس في معايير فيلات سياتل عموماً. أما الملابس التي تبدو رثة فكلها من الماركات "السينييه" الاغلى ثمناً بين أنواع الملابس.