} ادوارد سعيد فاز يوم الخميس الفائت بجائزة لانان الاميركية 200 الف دولار عن "انجاز العمر". في سيرته الذاتية "خارج المكان" صدرت بالانكليزية عن دار نوبف في نيويورك عام 1998، وترجمت الى العربية عام 2000 وصدرت عن دار الآداب في بيروت كتب ادوارد سعيد بالكلمات وبالصور الفوتوغرافية تاريخه الشخصي "لعالم مفقود او منسي". كتب قصة حياته، وكتب عن امكنة الطفولة والشباب، وكتب عن هوية عابرة للقارات. فلسطيني ينشأ في القاهرة، ويعرف بيروت والجبل اللبناني صيفاً، وتنتهي به الدروب وراء الاطلسي بحر الظلمات، في اميركا البعيدة. منتقلاً من قارة الى اخرى، ومن العربية الى الانكليزية، من دون ان يقطع جذوراً او يتخلى عن التزام سياسي، يكتشف انه يرى الى نفسه "كتلة من التيارات المتدفقة"، وانه يؤثر هذه الفكرة عن نفسه "على فكرة الذات الصلدة، وهي الهوية التي يعلق عليها الكثيرون اهمية كبيرة". هذه الهوية ومفارقاتها يجري تشريحها في كتاب الباحثين الاستراليين بيل اشكروفت وبال اهلوواليا "ادوارد سعيد:مفارقة الهوية" في محاولة لاظهار اثر المنفى وفلسطين المفقودة في تشكيل ادوارد سعيد ناقداً: Bill Ashcroft, Pal Ahluwalia. Edward Said: .the Paradox of Identity Routledge, 1999, Second edition: 2001. عادة ما تركز الدراسات المكتوبة عن انجاز ادوارد سعيد الفكري والنقدي على اسهامه في تعرية الخطاب الاستشراقي والكشف عن التمثيلات العرقية، والمركزية الغربية، التي تتحكم في هذا الخطاب ونسله من حقول البحث التي تعنى بدراسة الشرق والعالم الثالث. ولم تلتفت معظم الكتب التي صدرت عن ادوارد سعيد الى اسهامه الاساسي في حقل النظرية الأدبية، أو كتابته الغزيرة في الصحافة حول فلسطين ومركزيتها في تجربته الثقافية ومنجزه المعرفي. كتاب الباحثين الاستراليين بيل آشكروفت وبال أهلوواليا "ادوارد سعيد: مفارقة الهوية" يملأ الفراغ الذي تركته الأبحاث والدراسات التي تناولت سيرة سعيد وفكره النقدي لافتاً الانتباه الى مسألة تشكيل الهوية، وتأثيراتها الشديدة الأهمية على عمل ادوارد سعيد. تشكل فلسطين محوراً يدور حوله معظم انجاز ادوارد سعيد المعرفي، وكما يشير آشكروفت وأهلوواليا فإن احساس المفكر الفلسطيني بالفقدان الذي يولده المنفى يصنع تلك المسافة الخلاقة التي يفترض ان توجد بين المثقف الجماهيري وموضوع بحثه، ان الاقتلاع يجعل الصوت أكثر صفاء وحدّة ويحرره. لقد أنجز سعيد عدداً كبيراً من الدراسات والأبحاث والمقالات حول فلسطين. "المسألة الفلسطينية" 1979، "بعد السماء الأخيرة" 1986، "لوم الضحايا" 1988، "سياسات السلب" 1994. وفلسطين تبدو في الخلفية من مشروعه حول "الاستشراق" تلهمه وتدفعه الى الكشف عن أشكال تمثيل الغرب والاسلام. وما يصدق على العرب والمسلمين في الفكر الغربي يصدق تماماً على الفلسطينيين لكونهم جزءاً من هذين العالمين، ولأن سعيد مؤمن أن "تمثيلات الاسلام هي جزء مهم من المسألة الفلسطينية إذ ان هذه التمثيلات تستخدم لاسكات الفلسطينيين، الذين يدين معظمهم بالاسلام". "الاستشراق" وكذلك "الثقافة والامبريالية" مصممان للكشف عن اشكال التغطية الغربية للشرق والعالم الثالث والعرب والاسلام، ومن ثمّ الفلسطينيين. يقول سعيد في تقديمه لطبعة بنغوين من كتاب "الاستشراق": "ان شبكة المشاعر العرقية، والصور النمطية والامبريالية والسياسية والايديولوجيا التي تحط من قدر الآخرين، التي تحيط بالعربي أو المسلم شديدة الاحكام والسيطرة. وبين حبال هذه الشبكة يعاين كل فلسطيني قدره المتفرد وعقابه المحتوم... ان علاقة المعرفة والسلطة التي تقوم بصناعة "الشرقي" وتعمل على حجبه ككائن بشري ليست، من ثمّ، مجرد مسألة اكاديمية خالصة بالنسبة إلي". الاستشراق، طبعة بنغوين، 1995. يعلق اشكروفت وأهلوواليا على كلام سعيد قائلين: "إن "الاستشراق"... و ثمرة قدر متفرد وعقاب محتوم خاص بسعيد. ففي هذا الكتاب يقوم عربي فلسطيني يعيش في اميركا باستخدام الاساليب والتقنيات التي يوفرها له موقعه المهني ليتفحص الطرق التي تسلكها الهيمنة الثقافية للحفاظ على استمرارها". من هنا يبدو عمل إدوارد سعيد، المتعدد المنشغل بقراءة حقول معرفية متباعدة، ملتماً حول بؤرة محددة هي فلسطين التي تدفعه الى الكشف عن التمثيلات السلبية للآخر السائد في الغرب لكي يستطيع في النهاية تحرير الصوت الفلسطيني من صمته والحصول على "إذن بالكلام" كما يشير عنوان مقالة نشرها في لندن ريفيو أوف بوكس عام 1984. كما أن احساسه العنيف بالاقتلاع، ومعرفته بما يولده المنفى من طاقة خلاقة فاعلة، وربطه الدائم بين النصية والعالم، تمثل اتجاهات اساسية في فكره النظري وتشرح الطبيعة الضدية التي تتخذها علاقة منجزه النقدي بتيارات ما بعد البنيوية. فعلى رغم كونه أول من قدم للجمهور الأكاديمي الاميركي تيارات ما بعد البنيوية الفرنسية في بداية السبعينات، في عدد من المقالات التي نشرها في ذلك الحين وفي كتابه "بدايات" 1975، إلا أن غياب أية نظرية اساسية، أو حتى رغبة في الفعل السياسي، في فكر ما بعد البنيويين جعلت سعيد يقف موقفاً ضدياً من تلك التيارات. يشير اشكروفت وأهلوواليا الى أن الأسباب الفعلية التي تقف وراء موقف سعيد من تيارات النظرية الأدبية المعاصرة السائدة متصلة بمركزية فلسطين في عمله، فهي "تدفعه... الى اعادة التفكير بنظريته الأدبية، وراهنية هذه النظرية، وواقعها المادي والسياسي، وموضعها من العالم، وقدرتها على تشكيل... هويته حيث تكون فلسطين على الدوام تذكيراً بموضع النصوص من العالم". ويرد الباحثان على الأصوات التي تشكك في هوية سعيد أن التزام المفكر الفلسطيني تجاه قضية شعبه هو نوع من الاختيار الذاتي بغض النظر عن موقع سعيد في المؤسسة الأكاديمية الاميركية أو كونه يحمل الجنسية الاميركي، أو حضوره البارز في الصحافة والاعلام الغربيين. ولعل تشديده على ان احساسه بالمنفى واقعي، أكثر من كونه مجازياً، نابعاً من شعوره الفعلي بالاقتلاع من الجغرافيا، مما ولّد لديه نوعاً من الايمان بأن المنفى يجعل المرء قادراً على تطوير موقفه السياسي والثقافي المعارض. وهو ما يقوده الى اختيار وظيفة المثقف العام، الراغب في الوصول الى أوسع شريحة من القراء والمشاهدين، عبر نبذ الطابع التخصصي للعمل الثقافي والتصرف كهاوٍ قادر على اعلان "رفضه الآراء المتصلبة، ورطانة" المثقفين المتخصصين ومن ثم الاقدام على تمزيق العلاقة الشريرة بين المعرفة والسلطة. ثمة فكرة مركزية في عمل إدوارد سعيد تتصل بعلاقة النصوص بشروطها المكانية والزمانية، وهي متصلة في الآن نفسه بتصوره لعمل المثقف ووظيفة النقد نفسه. ويصك صاحب "الاستشراق" اصطلاحاً يقترحه لوصف هذه العلاقة وهو "الدنيوية" Worldiness، وبحسب سعيد فإن على الناقد أن يحرر نفسه من مصيدة التخصص ويركز في نقده على رؤية حركة النص ضمن شروطه الزمانية وشبكة علاقاته السياسية - الاجتماعية المعقدة، وهو يرى أن المنجز الأساسي لدراسات ما بعد الاستعمار يتمثل في تشديدها على العناصر "المحلية، والاقليمية، والعارض غير المتوقع" معاً، أي على المحلي والكوني في آن. ويمكن ربط هذا الالتفات الى حقل من الدراسات كان سعيد أحد الملهمين الأساسيين له بطبيعة تصوره لمعنى القراءة النقدية إذ أن ترداده الوسواسي لهذه الكلمة الدنيوية يقوده على الدوام الى التمييز بين ما يسميه "النقد الدنيوي" و"النقد الديني" وهما نمطان من القراءة النقدية يركز الأول منهما على الواقع السياسي للمجتمع الذي تنتج فيه النصوص وعلى علاقة النقد بالعالم، بكل ما يتضمنه هذا العالم من عناصر انتساب غير أدبية تتجاوز التقاليد والنصوص الأدبية المكرسة، فيما يرهن النمط الثاني من القراءة نفسه للآفاق الضيقة للتخصص واليقين المفرط والرؤية التقليدية المتصلبة. يستنتج آشكروفت وأهلوواليا، في ضوء ما سبق، أن "عمل سعيد يمثل بصورة مفارقة عمل الناقد الهاوي، إذ ان مجال عمله النقدي يضم كل شيء: النظرية الأدبية والنقد النصي، والتاريخ، وتحليل الخطاب، وعلم الاجتماع، ونقد الموسيقى، والانثروبولوجيا". لكن الشيء المستغرب هو أن ينجز ناقد هاوٍ عملاً بحثياً مؤثراً بضخامة "الاستشراق". لقد وصف المستشرق الشهير برنارد لويس أطروحة كتاب "الاستشراق" بأنها "زائفة" وأن زيفها يصل حدود "العبث"، وقال ان كتاب سعيد "يفتقد أي شكل من أشكال المعرفة التي يقدمها الباحثون والمتخصصون في عملهم". إن ما يفصل عمل سعيد عما يقترحه برنارد لويس، وغيره من الباحثين الأكاديميين الغارقين في تخصصاتهم، هو، كما يشير الكاتبان، رغبة سعيد في الانعتاق من أسوار التخصص، والانطلاق في مهمات بحثية يحقق من خلالها انتسابه للعالم وشروطه الدنيوية الملموسة. وهو ما يعكس انشغاله العميق بدور المثقف ووظيفته في المجتمع، وينسجم تماماً مع ما يقدمه من تحليل ثقافي للظواهر التي يدرسها والتي تشمل علاقة المعرفة بالسلطة، والنص وعلاقته بسياقه، والتاريخين الثقافي والسياسي، وعلاقة الطاقة الخلاقة للأفراد بالأنماط الثقافية التي تؤثر في عملهم.