عادت ركة النشر في العراق الى بعض نشاطها في العامين الفائتين، ودارت مطابع "دار الشؤون الثقافية العامة" التابعة لوزارة الثقافة ودفعت الى السوق العراقية المعروفة بنهم لا ينتهي للقراءة بعشرات العناوين في الأدب والتاريخ والسياسة والفكر والفن والتراث. وبرز منفذ جديد للنشر "الحكومي" تمثل في "بيت الحكمة" الذي تأسس قبل أربع سنوات، وباتت منشوراته تشكل اتجاهاً ناشطاً ثانياً بعد منشورات "دار الشؤون الثقافية العامة" في العراق، فيما على خجل يصدر "المجمع العلمي العراقي" أقدم مؤسسة اكاديمية عراقية كتاباً أو كتابين سنوياً. وتخضع المنشورات الحكومية في هذه المنافذ الى رقابة صارمة، بل هي صوت متناسق مع فكر حزب "البعث" الحاكم، ولا تجد الكتب التي تتضمن خطاباً مختلفاً مع الخطاب الحكومي السائد فرصة بين دور النشر العراقية أكانت حكومية أم خاصة، وهذه كانت انحسرت منذ "تأميم" الصحافة والثقافة، وغالبيتها تعثرت بين عمليات الرقابة في السبعينات والثمانينات وبين شحة الورق وغلاء أسعاره قياساً بمعدلات الدخل الواطئة في سنوات الحصار التي بدأت مع غزو الكويت عام 1990. ويكاد العراق من بين الدول القليلة في العالم التي تفتقر الى صحافة خاصة، ودور نشر أهلية تسهم في بناء مشهدها الثقافي. وتحولت "دار الأديب" أشهر دار نشر للأدب الحديث في العراق الى طبع وسائل الدعاية التجارية فيما نهجت النهج ذاته "مطبعة سلمى الفنية الحديثة" وتوقفت "منشورات مكتبة المثنى" و"منشورات مكتبة النهضة". دور النشر الخاصة في الثمانينات كانت تستفيد من اجراء حكومي يقضي بيعها الورق بأسعار "تشجيعية"، غير ان دخول بعضها في "صفقات تجارية" فتطبع أعداداً قليلة من الكتب لتوفر كميات من الورق تباع لاحقاً الى السوق التجارية، أفقدها الصدقية والموضوعية كما هي حال "دار المسار" و"دار الخريف". دور النشر الحكومية: "دار الشؤون الثقافية" ويديرها عادل ابراهيم و"بيت الحكمة" ويديره الشاعر المعروف حميد سعيد و"دار المأمون" والأخيرة تخصصت بنشر الكتب المترجمة، وعادت الى نشاطها بعد صمت طويل، لا تعتمد أسلوب تقديم كتبها الى الرقابة، وتكتفي بخبير أو اثنين يفحصان مادة الكتاب فنياً وسياسياً، ويصدران أمراً بالنشر أو بعدمه انطلاقاً من "حس رقابي" صارم. رقابة المطبوعات لها سطوتها على النشر الخاص، والكتب المطبوعة من خلال الدور الحكومية لا بد من ان تمر من خلال اجراءات رقابية صارمة، وعشرات العناوين تم رفض نشرها في الأدب والتاريخ المعاصر، كان يأمل أصحابها بعد حصولهم على المال اللازم لدفع تكاليف الطبع في أن تكون صوتاً خارج الانتظام الجماعي الذي تريده المؤسسات الحكومية للنشر. مصادر الورق المستخدم في نشر الكتب والصحف والمجلات في العراق متعددة. فهناك المستورد من أندونيسيا والأردن والبرازيل والصين. وهذا الورق يستخدم لطبع سلسلة "الأعمال الكاملة" للرئيس صدام حسين. كذلك هناك الورق العادي أمر رخيص الثمن المستخدم في طبع المجلات والكتب الأدبية والفكرية وكثير منه ينتج في العراق من خلال معمل انتاج الورق في جنوب البلاد، أو من مصادر اعادة انتاج، تقوم على جمع الورق المستخدم وتعيد تصنيعه ليصبح جاهزاً لاستخدامه ثانية. وخلال السنوات العشر الفائتة في العراق، ظهرت كتب انطلاقاً من تجارب شخصية في طبع نسخة واحدة أصلية ثم استنساخها وتصويرها بجهاز "الفوتوكوبي" مئات النسخ وبيعها في منابر خاصة تتوزع اكبر سوق لبيع الكتب في بغداد: "شارع المتنبي". ووفرت وسيلة "الاستنساخ" دار نشر هي الأكثر نشاطاً في العراق اليوم، وعبر هذه الوسيلة يمكن النسخة الوحيدة من كتاب عربي أو أجنبي مترجم ان تصبح مئات في يوم واحد، وهكذا "تسللت" كتب المثقفين العراقيين في الخارج والممنوعة التداول داخل البلاد، فيما تنبهت أجهزة الرقابة الى الأمر أخيراً وبدأت منع نشر الكتب عبر هذه الوسيلة التي لا تخلو من تحايل ولكنها تظل من صنع ظروف الحصار ووقائع الضنك والعزلة.