حلّ الغضب محلّ الحزن فظلّت أميركا بعد أسابيع من الهجوم عليها غير قادرة على التساؤل هل إسرائيل هي العبء والسبب الرئيسي وراء ما حدث. منذ ما يزيد على نصف قرن والفكر الصهيوني يعمل على تشويه صورة العرب والمسلمين، فليس من الغريب أن يتأصل العداء لهم على صعيد رسمي كما على صعيد شعبي. طبعاً العرب مسؤولون إلى حدّ بعيد عن تشويه صورتهم ولم يبادروا جدياً لتغيير هذه الصورة، ولكن ليس من الصحيح أن المفكرين العرب لم يمارسوا النقد الذاتي وفضلّوا أن يضعوا كل اللوم على الخارج وخصوصاً على أميركا واسرائيل بالذات، كما يدعي الصهاينة وحتى بعض المثقفين العرب في الوقت الحاضر في وسائل الإعلام الأميركي. وكان أن تعمّد عدد من المفكرين الصهاينة والمنظمات اليهودية والسفير الإسرائيلي بالذات استباق الأمور فأوعزوا لجماعاتهم بأن ينفوا أن للصراع الإسرائيلي -الفلسطيني أي علاقة بالهجوم على أميرك . ورافقتْ هذا حملةٌ منسقة في أجواء الغضب للتحريض على العرب والمسلمين الأميركيين أو المقيمين فيها. ما أن إنتشر خبر الهجوم على أميركا وبثت أقنية التلفزيون صور الحدث المرعب حتى بدأ العرب المقيمون هنا يتصلون ببعضهم بعضاً متمنين ألا يكون الفاعل منهم. تخوّفوا منذ اللحظات الأولى وأعدّوا أنفسهم لاحتمالات التعرّض للمضايقات لمجرد الاشتباه بهم. ومن مظاهر القلق العربي والاسلامي أن بعضهم إتصل بقياداته ومؤسساته يسأل هل من الممكن أن تضعه أميركا في معسكرات إعتقال كما فعلت مع مواطنيها من أصول يابانية أثناء الحرب العالمية الثانية. وكانت النصيحة ان يلجأوا للعقل لا للعواطف ويعبروّا عن استنكارهم للحدث الرهيب وعن تضامنهم مع الشعب الأميركي في فجيعته القاسية والتي هي أضخم مما يتصوّره العقل حتى عندما تتبيّن الحقائق جلية. وكان على القيادات العربية والمسلمة أن تنبّه المسؤولين والشعب الأميركي لمخاطر التسرع في توجيه الاتهامات واتخاذ الإجراءات ضدهم. وفي الأزمات والأوقات العصيبة ليس من الغريب أن يحدث مثل ذلك في مرحلة الغضب، فهناك حاجة نفسية لمعرفة حقيقة ما حدث مما جعل بعض الأميركيين يتصرفون بدوافع الانتقام وليس بالتعقل والانتظار ريثما تتبين الحقائق ويتم التأكد من هوية المعتدين. وما تخوّف منه العرب والمسلمون بدأ يحدث بسرعة فتعرضّوا شخصياً كما تعرّضت مؤسساتهم بما فيها المساجد والمحلات التجارية للتهديد والاعتداء، وبين هذه التهديدات ما أُقتبس من الإسرائيليين فارتفع النداء "الموت للعرب، الموت للعرب". حدث هذا مع أن العرب والمسلمين في أميركا أعلنوا منذ اللحظات الأولى للهجوم عن تضامنهم مع الشعب الأميركي وأصدروا بيانات تستنكر ما حدث وتبرعوا بالدم في نجدة الضحايا كما أوضحوا أنه ليس من الإسلام قتل الناس الأبرياء. بل قيل أن ما حدث خروجٌ عن الإسلام وتشويه لقيمه السامية ومنها السلام والرحمة والتأكيد على القيم الانسانية. وبين ما إستجلب الانظار في المراحل الأولى مقالة نشرتها "الواشنطن بوست" بتاريخ 13/9/01 للسيدة رشما ميمون يعقوب التي تقطن في ضاحية واشنطن، قالت فيها: "إنني غاضبة كجميع الأميركيين، وأريد العدالة. لكنني أعاني ليس كبقية الأميركيين من خوف من نوع آخر. أشعر بما يشعر به ستة ملايين مسلم ومسلمة من أمثالي، وأخاف ان نُتهم نحن أيضاً بالذنب في نظر أميركا إذا ما تبيّن أن الإرهابيين مسلمون. إنه من المخيف أن أجد نفسي في هذه الزاوية... إنني خائفة من أن أن نُجرَّد من إنسانيتنا بسبب لون جلدنا، أو ملامحنا، أو أزياء ملابسنا... كلما سمعت بعملية إرهابية، أقوم بصلاتين : صلاة أولاً للضحايا وعائلاتهم. وصلاة ثانية ألا يكون الفاعل مسلماً... إن إيماني الديني بمجمله متهم بالبربرية واللا-إنسانية. يا زملائي الأميركيين، أقف أمامكم منكسرة كما أنتم، لأقول لكم إننا لسنا كذلك. نُحبّ نحن المسلمين بلدنا ]وتقصد أميركا[ كما تحبونه أنتم، ونحن ننزف حزناً إلى جانبكم". رغم التوسلات والتحذيرات المتكررة تعرّض العرب والمسلمون في أميركا لمزيد من الاعتداءات من جانب المتشددين المتطرفين وخصوصاً في أجواء التشدّد الوطني والشكوك والتصريحات المتسرعة من جانب السياسيين ورجال الأمن والتحريض الصهيوني. إنما هنا لا بدّ أن نذكر ظاهرة إيجابية. على صعيد شعبي إتصل الكثير من الأميركيين بأصدقائهم ومعارفهم العرب والمسلمين يتفقدون أحوالهم ويطمئنون عنهم ويعبّرون عن مخاوفهم عليهم وعن استعدادهم لتقديم أي خدمات قد يحتاجونها. وعلى صعيد رسمي، زار الرئيس بوش المسجد الرئيسي في واشنطن حيث أنذر مَنْ يقومون بهذه الإعتداءات وشدّد على ان مثل هذا التصرف يتعارض مع قيم التسامح الأميركية، وأن الجالية العربية والإسلامية جزء مهم من المجتمع الأميركي. في هذه الأوقات الحرجة عمدت إسرائيل والصهيونية الأميركية إلى استغلال الوضع فكان أن كرّرت وسائل الإعلام بث صور لما قيل أنه إحتفاء فلسطيني بالنكبة الأميركية. وتردّدت تصريحات مفادها بأن الأميركيين يدركون الآن ما تتعرّض له إسرائيل من إعتداءات وصعوبات. قال الحاخام كوشنر Kushner في مقابلة تلفزيونية، "أصبحنا نحن الأميركيين جميعاً إسرائيليين" Now we are all Israelis. وكتب توماس فريدمان الذي يفتخر بأن لديه أصدقاء عرب في مختلف البلدان العربية يقول أنه في "العالم الإسلامي لا يشاركوننا قيمنا ويكرهون تأثير أميركا في حياتهم... ويلومون أميركا لفشل مجتمعاتهم في اتقان الحداثة... إنهم يكرهون وجودنا، وليس سياساتنا فحسب... وعلى سورية أن تختار بين أن يكون لديها سفارة حزب الله أو سفارة أميركية" "نيويورك تايمز" في 13/9/01. ثم قال في مقابلة تلفزيونية: "أن المفكرين العرب لم يتمكّنوا من ممارسة النقد الذاتي في تاريخهم الحديث وليس لهم ما يقدّمونه سوى وضع اللوم على أميركا وإسرائيل بدلاً من العمل على تغيير أوضاعهم وتحمّل مسؤولياتهم". من خلال هذا الكلام يظهر فريدمان جهله بتنوع الخطاب العربي الذي يكثر فيه النقد الذاتي، ويبدو على حقيقته كشخصية ضحلة يتظاهر بغير ما يضمر مختبئاً وراء حجاب التحضر التكنولوجي والدعوة للعولمة. بل أنه عاد مؤخراً ليقول: "إننا نريد أن نجعل العالم سالماً من أجل قيام الديموقراطية، أما هم فيريدون للعالم العربي أن يظلّ سالماً من الديموقراطية". وقال دنيس روس أن الهجوم لم يحدث بسبب إسرائيل بل بسبب الكره لثقافتنا. وفي هذه الأجواء قال رئيس وزراء إيطاليا بيرلسكوني أن الحضارة الغربية متفوقة على العالم الاسلامي، ويجب ان نعترف بتفوق قيمنا. ونشرت "الواشنطن بوست" في أجواء المحنة التي تعاني منها أميركا تقريراً ورد فيه أن الاسرائيليين ينصحون أميركا بالتعلم من التجربة الاسرائيلية باستعمال إجراءات أمنية قاسية منها التوقيف الإداري بحق الفلسطينيين لسنوات من دون تهم او محاكمات قانونية، وممارسة التحقيق مع ركاب الطائرات ضد من يشتبه بهم أنهم عرب، واللجوء إلى إغتيال من يشتبهون بهم قبل أن يتمكنوا من تحقيق مخططاتهم الإرهابية. مرة أخرى تذكّرني أحداث الهجوم على أميركا بحرب الخامس من حزيران: الدهشة، الانصعاق، الغضب، الحزن، الحيرة، الاحباط، الاحساس بالعجز والشلل تجاه ضخامة الفجيعة، إختلاط الحقائق بالأوهام والأوهام بالحقائق في الرؤية، بل بالاستهجان أمام صور تعابير الفرح لدى البعض في مدن عربية. في هذا الخصوص استوقفتني رسالة مفتوحة للديبلوماسي الأميركي إدوارد ووكر لأصدقائه في العالم العربي يعبّر فيها عن مشاعر الأسى والحزن والغضب، ويضيف أن قلبه مثقل لصور مظاهر الابتهاج في مدن عربية، ويسأل أصدقاءه العرب: "هل نبتهج نحن الأميركيين في الشوارع عندما يُقتل فلسطينيون أو غيرهم من المدنيين العرب؟" ويجيب عن سؤاله ب "كلا". يجب أن يكون السيد ووكر قد نسي مظاهر الابتهاج في المدن الأميركية خصوصاً في مدينة نيويورك بالذات بالانتصار الاسرائيلي على العرب في حرب الخامس من حزيران عام 1967، بل نسي أيضاً ان أميركا قابلت الاعتداءات الاسرائيلية طوال السنة الأخيرة بالصمت، بل بتزويد إسرائيل السلاح الذي يمكّنها من الاستيلاء على حياة الفلسطينيين ومحاصرتهم وتجويعهم واغتيال قياداتهم. ويبدو أن ووكر يتجاهل أن وسائل الاعلام الأميركية التي تهيمن عليها الصهيونية كرّرت بث صور "إبتهاج فلسطيني" بمناسبة ومن دون مناسبة تحريضاً ضد العرب والمسلمين فيكون قد وقع في فخّ تحريضات العلاقات العامة التي تعمل لمصلحة إسرائيل فكتب رسالة مفتوحة لأصدقائه العرب ولم يكتب رسالة مشابهة لأصدقائه الاسرائيليين. إن الاقتصار على الإحساس بالفجيعة الذاتية في مختلف الحالات، عربية كانت أو أميركية، هي للأسف الشديد تغييب إنسانية الانسان. قلة تستطيع أن تضع نفسها في موقع الآخر خصوصاً إذا كان مختلفاً في دينه وثقافته وملامحه وأزيائه، ويكفي أن تفعل هذا قلةٌ لتبدو كأنها تمثّل الأكثرية. وهنا لا بد أن أذكرّ بأننا لا نتهم جميع الإسرائيليين، وأشعر بواجب إنساني أن أقدّر جرأة الكاتب آموس أوز في مقالته التي نشرتها "نيويوررك تايمز" في 14/9/1 بعنوان "الكفاح ضد التعصب"، اذ قال فيها بتصاعد التطرف الديني الشوفيني ليس في الإسلام فحسب بل في اليهودية والمسيحية، ويستنتج: "ليس من مبرّر بتاتاً لأن تحتل اسرائيل الفلسطينيين وتقمعهم. ليس من حقنا ان نجرّد الفلسطينيين من حقهم الطبيعي بتقرير مصيرهم. لم يتمكّن محيطان كبيران من حماية أميركا من الإرهاب. إن إحتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة لم يجعل إسرائيل آمنة. على العكس، إنه يجعل دفاعنا الذاتي أكثر صعوبة وتعقيداً. بأسرع ما ينتهي هذا الاحتلال، بأفضل ما يكون الأمر للفلسطينيين والاسرائيليين معاً". وأقدّر أيضاً قوله أنه في مثل هذه الأجواء يكون من السهل السقوط في مطبات إستعمال مفاهيم عنصرية كالقول ب "الذهنية الاسلامية" و"العقلية العربية" التي برعت الأدبيات الصهيونية لزمن طويل في استعمالها كسلاح في تشويه الحضارة العربية والحضارة الاسلامية. لقدأصبح من الضروري أن تعيد أميركا النظر في سياساتها فتدرك أن إسرائيل عبء عليها. ولكن لا يبدو أن أميركا مستعدة لاعادة النظر بسياسة الدعم الكلي والمطلق لها، ولأن تتعاون مع العرب في تأمين حقوقهم كما يتعاونون معها. هذا ما سنتعرّض له في الجزء الثالث من هذه المقالة. * كاتب عربي واستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن.