أنا من قراء جريدة "نيويورك تايمز"، وهي إحدى أهم الصحف الأميركية على الاطلاق، ويتجاوز توزيعها اليومي المليوني نسخة، وهي إحدى ثلاث صحف إلى جانب "وول ستريت جورنال" و"يو اس اي توداي" تطبع وتوزع على مستوى الولاياتالمتحدة كلها. ويكفيها تأثيراً في الحياة السياسية الأميركية أنها كانت السبب في إطاحة الرئيس ريتشارد نيكسون من خلال كشف اثنان من صحافييها عن الفضيحة التي عرفت في ما بعد ب"فضيحة ووترغيت" وأدت في النهاية إلى استقالته. خلال متابعتي أحداث انتفاضة الأقصى، لفتني - بالإضافة إلى انحياز الصحيفة إلى إسرائيل بشكل مفضوح - إعلانان نشرتهما الصحيفة على مدى يومين، ملآ صفحة كاملة: الأول إعلان من منظمة المرأة الصهيونية الأميركية تلقي باللوم على الدول العربية التي ما فتئت تهاجم إسرائيل بين الفترة والأخرى كذا يقول الإعلان وتدعو الأميركيين إلى الوقوف بقوة إلى جانب إسرائيل. والإعلان الثاني نشرته منظمة التحالف ضد تشويه السمعة ADL وهي منظمة يهودية تعنى بالدفاع عن اليهود، يحمل عنواناً بارزاً: "إسرائيل... نحن نقف معك" يلقي باللوم على عرفات، ويدعو إلى الوقوف بجانب إسرائيل. كذلك وجدت زاوية القراء في الجريدة ذاتها مشحونة برسائل كتب معظمها يهود تندد بالفلسطينيين وتحملهم نتائج المجازر الأخيرة، وتساند إسرائيل. اتصلت بصديق ناشط في الجالية المسلمة وطرحت عليه فكرة وضع إعلان في الجريدة نفسها مساند للشعب الفلسطيني، فأخبرني أنه اتصل بها وأخبر أن كلفة الإعلان تصل إلى تسعين ألف دولار، وهو مبلغ يبدو كبيراً جداً يُصدم القارئ لسماعه، ولكن... ترى هل هؤلاء اليهود أغبياء، أو مبذرون للمال وهم ينفقونه من أجل إعلان واحد يغطي صفحة كاملة؟ كلا... إنهم يعلمون أن ما يجنونه من مثل هذا الإعلان أكثر بكثير مما يخسرونه... إن ما يجنونه هو تحديداً الرأي العام الأميركي، وهم يكسبون 250 مليون مواطن يحملهم تأثرهم بمثل هذه الدعاية المضللة على مساندة موقف حكومتهم الممالئ بشكل أعمى لإسرائيل. وكدليل بسيط على جدوى ما ينفقه الصهاينة من مال في الإعلام الأميركي لكسب ود المشاهد والقارئ الأميركيين، أجرت مجلة "تايم" استطلاعاً بتاريخ 12/10/2000 يوجد صورة عنه في موقع "التايم" على الشبكة الدولية، وفيه السؤال الآتي: على من تقع مسؤولية الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط؟ فكان الجواب كالآتي: 28 في المئة من الذين تم استطلاع آرائهم قالوا إنهم الإسرائيليون، و70 في المئة قالوا إنهم الفلسطينيون. ولعل القارئ العربي يصعق لمثل ذلك، ولكنني شخصياً قبل أن أقرأ نتائج الاستبيان كنت أتصور ان نسبة من سيلقون اللوم على الفلسطينيين ستكون أكبر من 70 في المئة وذلك لما أشاهده وألمسه من مهارة اللوبي الإسرائيلي في خلق جو عام تعيشه أميركا كلها، ويفرض نفسه حتى على كبار السياسيين، يساند إسرائيل بشكل مطلق، حتى ان أحداً بالكاد يجرؤ على نقدها أو إلقاء شيء من اللوم عليها. تساءلت مع نفسي: ترى كيف نستطيع نحن العرب والمسلمين أن نواجه هذه الحملة المنظمة والمتواصلة، الإعلامية والنفسية؟ لعل القارئ يدرك معي الآن اننا لو بذلنا شيئاً من المال العربي على الإعلام الأميركي لكسبنا الكثير ولاستقطبنا إلى حد كبير الرأي العام الأميركي إلى جانبنا، خصوصاً أن الدول العربية الخليجية قادرة على توظيف شيء بسيط من رساميلها واستثماراتها في هذا الحقل. فقد ذكرت مجلة "الوسط" عدد 22 آب/ اغسطس المنصرم ان الدول النفطية الخليجية تمتلك من الودائع والاستثمارات في الدول الغربية ما يزيد على 650 بليون دولار بعدما كانت بلغت 700 بليون دولار أوائل التسعينات، لكن قيمة الاستثمارات انخفضت نتيجة النفقات التي تكبدتها تلك الدول بسبب حرب الخليج الثانية، وكذلك بسبب انخفاض عوائد النفط. المعروف أن المساعدات الأميركية لإسرائيل تبلغ سنوياً أربعة بلايين دولار، ولكن ما يعرفه القلة من الناس أن 75 في المئة من هذه المساعدات أي ما يوازي ثلاثة بلايين دولار لا تذهب إلى الدولة العبرية، بل تنفقها إسرائيل في داخل الولاياتالمتحدة لكسب الأعوان وشراء الأصوات الانتخابية، وتشغيل الماكينة الدعائية الكبرى لمصلحة إسرائيل تقرير منظمة "ايباك" اليهودية لسنة 1996، يوجد على موقع المنظمة في الشبكة الدولية، وبالتالي كسب الشارع الأميركي والحكومة الأميركية إلى جانبها، وهو أمر نجحت إسرائيل ولا تزال في تحقيقه ايما نجاح. إذ أن إسرائيل تدرك تمام الإدراك دور الولاياتالمتحدة وقدرتها على تحريك الأمور وإدارتها بالشكل الذي تريد، خصوصاً بعدما أصبحت القوة العظمى الرئيسية في العالم، وأصبحت قادرة على دفع قوى عظمى كالاتحاد الأوروبي وروسيا - أحياناً - بالاتجاه الذي تريد. وهنا دعوني ادلل بمثال آخر من وحي انتفاضة الأقصى المباركة... فقد قام جنود الاحتلال بقتل الطفل محمد الدرّة بتلك الطريقة الوحشية المعروفة لدى الجميع، وقام مراسل القناة الفرنسية الثانية - لحسن الحظ - بتصوير المشهد الدرامي المثير لحظة مقتل الطفل ثم سقوطه مدمى في حضن والده، وهي صورة معبرة تفوق في تأثيرها آلاف الكلمات والخطب ورسائل الاحتجاج والتنديد، لو أحسنا استغلالها، وقد تجرأ بعض وسائل الإعلام الأميركية على بثها، كما قام ناشطون مسلمون بنشرها في صحيفة "واشنطن بوست" فكان لها مردودها الايجابي في تعالي بعض الصيحات الأميركية التي تندد بتلك الجريمة الشنعاء، ووقف حماة إسرائيل حائرين أمام ذلك المشهد لا يملكون ما يدافعون به عن إسرائيل، ولكن سرعان ما جاء ما كانوا يبحثون عنه بفارغ الصبر: صورة الجنديين الإسرائيليين وهما يُرميان من مبنى الشرطة في رام الله، ووراءهما شاب فلسطيني يلوح براحتيه الملطختين بدماء الجنديين. وهنا استغل الإعلام الموالي لإسرائيل الصورة وبثها، وبالملوّن، حتى تُرى صورة الدم على الراحتين، وتباكى عليها، ونجح في تحريض قطاع هائل من الرأي العام ضد الفلسطينيين بعدما كادت أصوات جديدة ترتفع لتندد بالظلم الإسرائيلي ضد الفلسطينيين العزل. نحن المسلمين والعرب في أميركا لم نحسن بعد اسلوب كسب الشارع الأميركي، ولا نزال نمارس اساليب يطغى عليها الطابع العربي والإسلامي المحلي ولا تصلح إلا للذهنية التي اعتدنا عليها في الشرق، ناسين أن المجتمع الأميركي ليس عربياً ولا مسلماً، ولكنه يتمتع بطيبة وحس عفوي ضد الظلم إذا عرف الحقيقة واطلع عليها. ففي مظاهرة كبرى قامت بها الجالية المسلمة هنا في ولاية ميتشغان تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني، لاحظت أن كثيراً من الشعارات فضلاً عن كونها عربية لا يكاد يفهمها المارون الأميركيون، كانت بعضها استفزازية عاطفية، منسجمة مع الالتهالب العاطفي الذي طغى على الجو العام أكثر منها هادفة تحاول استقطاب أصدقاء وكسب ود جيران تأثروا بالدعاية اليهودية، وجذبهم إلى صفوفنا... وقد بثت بالأمس قناة "الجزيرة" مشهداً لتظاهرتين تزامنتا في واشنطن أمام البيت الأبيض، الأولى إسلامية مؤيدة للشعب الفلسطيني امتزجت بالهتاف الحاد وبعضه بالعربية مرة أخرى! واقتصرت على العرب والمسلمين فقط، وأخرى يهودية شارك فيها كثير من أعضاء الكونغرس وشخصيات أميركية متعاطفة مع إسرائيل... وفي وقت تجري الاستعدادات للتحضير لتظاهرة كبرى يشارك فيها المسلمون من كل أنحاء أميركا أمام البيت الأبيض تأييداً للشعب الفلسطيني، اقترحت على بعض الأصدقاء المنظمين للمظاهرة ان ندعو أصدقاء أميركيين غير مسلمين ورجال دين، وهم كثيرون، للمشاركة معنا حتى لا نبدو بصورة من كتب رسالة ثم أخذ يقرأها لنفسه بصوت عالٍ، أو آخر كتب قصيدة ثم جعل يرددها لنفسه بكل حماسة ويستعيد مقاطعها واحداً واحداً! * مدير المركز الإسلامي في ديترويت.