تبين من خلال الانتفاضة الجديدة زيفُ مشروع السلام المعروض على الفلسطينيين وعلى العرب عموماً، منذ أوسلو حتى هذه اللحظة. وأصبح واضحاً ان اسرائيل حكومة وشعباً لم تتوصل بعد الى قناعة بمصالحة تاريخية، بل تصرّ على الاحتفاظ بمكاسبها وفرض هيمنتها. ولأن هذا الزيف تبيّن للكثير من العرب منذ اللحظات الأولى، أُطلقت في السابق دعوات عدة لإحياء الإنتفاضة. وها هي الانتفاضة الجديدة تنطلق تلقائياً وذاتياً من رحم اليأس العربي وستستمر متواصلة او متقطعة مهما جرّت من محاولات لاحتوائها وتهدئتها كما في الوقت الذي أكتب هذه المقالة الى ان تتوّفر الاجواء الحقيقية التي تضمن حصول سلم عادل. صحيح ان مَنْ يتعرّض لضرب العصي ليس كمن يعدّها وان مَنْ يفقدون أعز الناس اليهم وفي أوج طفولتهم وفتوتهم ليس كمَنْ يتكلم بعيداً عن ساحة المعركة. ولكن، من ناحية أخرى، يُسْتَدلّ من تصرف أُطفال فلسطين وشبابها انهم يدركون جيداً ما يفعلون ويعرفون مكامن الخطر وهم يخافون على حياتهم ومستقبلهم حين يختارون طريق الانتفاضة. سُئل صبيٌّ فلسطيني ممن يشاركون في معركة الحجارة من جانب صحافي أجنبي: "ألا تخاف على حياتك؟" فأجاب "طبعاً أخاف ولكن علينا ان نفعل ما يجب ان نفعل". ليس بمقدور الشعوب ان تستسلم أمام الظلم وتقبل بأن تعيش تحت الإحتلال من دون حرية وكرامة الى الأبد. ليس من حلّ في الاستسلام، ولا بدّ لها من سلوك طريق المقاومة حين تفشل الوسائل السلمية والديبلوماسية. ونسأل: متى يدرك العربي ان عليه أن يفعل ما يجب أن يفعل؟ ولهذا، منذ بدايات التاريخ الأولى، لم يكن الموت من أجل قضية كبرى بالضرورة نقيضاً للحياة. وكثيراً ما كان على الشعوب ان تضحّي بأثمن ما لديها كي تتحرّر من الهيمنة الخارجية على حياتها وتصنع حاضرها ومستقبلها. الانسان القديم كما الانسان الحديث اكتشف ان الموت قد يكون خبز الحياة وماءها. في الاساطير القديمة كان على عشتار ان تنزل الى عالم الأموات الذي لا رجعة منه. ومع هذا هبطت الى العالم السفلي حيث شربت ماء الحياة كي تدخل الى عالم النور فعاد الى الأرض رونقها والى الانسان الحب. وفي المسيحية كان الصلب ضرورياً للخلاص. ولا يمكن ان يُتهم العربي بأنه لا يقدّر قيمة حياة الانسان فإنه في الحلِّ الأخير وقبل كل شيء هو الغاية القصوى. ليس بين شعوب العالم مَنْ يستطيع ان يدعي انه أكثر من العرب حرصاً على حياة الانسان وطيلة العمر او انهم أقل من غيرهم حزناً على ضحاياهم. إن ضحاياهم هم المعين الأول للجهاد ومن أجلهم كما من أجل انسان المستقبل يتم الكفاح مهما ارتفع الثمن وغلت التضحيات ومهما بلغت العذابات والمآسي. كذلك، ليس من شعب يستطيع ان يدعي ان العرب أقل من غيرهم رغبة في السلام وهم ضحية من ضحايا الحروب. بل هم يكافحون انطلاقاً من طموحاتهم بتحقيق سلام عادل دائم ولا يطمحون الى ان يستولوا على غيرهم. تلك هي بعض مقومات الثقافة العربية في تاريخها القديم كما في تاريخها الحديث ولن تستطيع الصهيونية المدعومة أميركياً ان تشوّه هذه الحقيقة وان تستمر في الاستيلاء على حياة الفلسطينيين وغيرهم من العرب. أقول الصهيونية او اسرائيل المدعومة اميركياً لأنها بدون هذا الدعم الأميركي لا يمكنها ان تتجاهل الحقوق العربية بهذه الغطرسة والوقاحة. ان وسائل الاعلام الأميركية اعتادت ألا تذكر اسم "حزب الله" من دون ان تقرنه بتعبير المدعوم إيرانياً. ولهذا أقترح ان تبادر وسائل الاعلام العربية عند ذكر اسم اسرائيل الى ان تقرنه بالقول "اسرائيل المدعومة أميركياً" الى ان تقتنع الادارة الأميركية بأنها فعلاً وسيط غير حيادي في عملية التوصل الى حلّ عادل فتقرّر ان تمتنع عن دعم الاعتداء الصهيوني. في الثامن والعشرين من الشهر التاسع دخل السفاح ارييل شارون الحرم الشريف محاطاً بألف مسلح من قوات أمن اسرائيل وبعدسات آلات التصوير التلفزيونية وبموافقة باراك، متحدياً المصلين والمسلمين عموماً والبشر الشرفاء، فبدأ مسلسل العنف والقتل والجنازات. وتستيقظ ارواح شهداء قرية قبية وكان شارون قائد حملة تدميرها عام 1953، وأرواح شهداء مذبحة صبرا وشاتيلا التي أشرف عليها عام 1982في لبنان، وهو مهندس سياسة مشروع المستوطنات. وكان زعيم حزب "ميريتس" يوسي ساريد قد شبّه شارون بأنه نيرون يتمتع بنيران الحرائق، ومع هذا يقترح باراك الذي يدعي الاعتدال ان يتحالف معه في حكومة ائتلافية تجمع بين حزب العمل وحزب ليكود، وكان قد سمح له بأن يدخل مدججاً بالسلاح الى الحرم الشريف. لا بدّ ان أرواح شهداء هذا السفاح استيقظت من رقادها الأبدي لتزور كل منزل فلسطيني، وأقول منزل كل عربي. ويعزّز ذلك من إصرار الصهاينة متشددين ومعتدلين على ان يثبتوا سيادتهم حتى على الحرم الشريف كما على حياة الفلسطينيين باسم سلامهم المزيَّف. ولم يكن من الغريب ان ترتفع أصوات الشباب "الله أكبر" و"بالروح بالدم نفديك يا أقصى" مصحوبة بزعيق عربات الاسعاف. وكان أن طارد النواب العرب شارون في الكنيست الاسرائيلية: "أخرج، يا مجرم"، وقال عنه الدكتور أحمد طيبي: "هذا رجل دموي". وامتدت الاصطدامات من الحرم الشريف الى القدس القديمة وشارع صلاح الدين الذي حرّر القدس من الصليبيين في مثل هذه الأيام قبل 813 سنة، وتجاوبت أصداؤها في الوطن الكبير والعالم الاسلامي، وبين مَنْ يشكّلون حقاً الضمير الانساني. إننا أمام شعب ضعيف لا يملك سوى الحجارة وقد استولت على حياته حركة صهيونية مدعومة من حكام أميركا ومدجّجة بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً ودماراً. وأخطر من أسلحتها انها حضارة قتل. لقد وعى العرب هذه الحقائق قبل حكوماتهم، وها هي علامات الغضب في كل مكان، وها هو الغضب يصير حجراً. في اليوم الأول قتل اربعة فلسطينيين وجرح أكثر من مئتين منهم، وأماتت رصاصة دماغ رجل شاب فيما ظلّ قلبه حياً. وشهدت الأيام الثلاثة الأولى موتَ الطفل محمد جمال الدرة فهوى مثل طائر في حضن ابيه الذي أُصيب باربع رصاصات، وقتل سائق سيارة الإسعاف بسام البلبيسي الذي حاول ان ينقذهما، وقالت أمه أمل ان موت ابنها شهادة من أجل فلسطين. وكغيرها كانت أم محمد درة تتابع ألأخبار في التلفزيون وشاهدت رجلاً يحاول عبثاً ان يحمي ابنه من نيران القوات الاسرائيلية، ثم أدركت بعد وهلة ان الرجل والطفل هما زوجها وإبنها فأغمي عليها. وصعق العالم امام هذا الإستهتار والقسوة، وأهم من ذلك ان يدرك كل عربي أن من يموت قتلاً هو أخ وحبيب وعزيز وقطعة من الكبد، وموته هو موتنا. في تلك الأيام الأولى، اتصل عرفات بباراك يعزّيه بموت ثلاثة جنود اسرائيليين إذ قبل أيام قلائل كان ضيفاً في منزله وكسرا الخبز معاً وتبادلا النكات. وفي اليوم الرابع بلغ عدد القتلى 28 قتيلاً، فنشرت وسائل الإعلام صورة لشاب شجاع يواجه مصفحتين اسرائيليتين بمقلاع بدائي، وهي صورة تشبه الى حد بعيد صورة شاب صيني يواجه دبابة تكرّر وسائل الاعلام الأميركي نشرها، ولن تكرّر نشر صورة الشاب الفلسطيني. ولم يكن غريباً ان تمتد الصدامات الى الناصرة وأم الفحم وعكا وحيفا ويافا وسخنين ومجد الكروم وصفد ودير الأسد وشفاعمرو وتمرة وطيبة في المثلث، والى الحدود اللبنانية حيث أيضاً كان للموت حصاده. لم يعد للفلسطينيين من خيار غير ان يقذفوا بأجسادهم ضد آلة الدمار الاسرائيلية، وها هو باراك يعلن ان ملف السلام وضع على رفّ المهملات. تتوالى الأيام ويتزايد سقوط الضحايا فلا يخاف الفلسطيني. على العكس يؤكد أن الانتفاضة ستستمر وان موته خلاصه، وقد تأتي لحظات في تاريخ الشعوب يضطرون فيها الى سلوك طريق موتهم ليستعيدوا حريتهم وكرامتهم وانسانيتهم. الجنازات الفلسطينية تفجّر مزيداً من الغضب وتتوالد جنازات أخرى تتدفق مواكبها في الأودية والتلال والسفوح ومن مقبرة الى مقبرة في المدن والقرى. خلال إحدى هذه الجنازات صرخ فلسطيني ان شعبه مستعد للشهادة، وقُتل بعدها نزار محمود عيدي الذي كان يكرّر انه يريد ان يكون شهيداً وان الشهادة مصيره وتوقّع دائماً انه سيدفن موشّحاً بالعَلَم الفلسطيني. هناك جيل جديد من الضحايا، فإلى متى يولد الطفل الفلسطيني ليموت باكراً؟ كم تمنى لو كان طفلاً يعيش في مناخ عادي من الحرية بدلاً من هذا الاحتلال المفروض على شعبه. ارتفع عدد القتلى في الأيام التالية الى 58 قتيلاً و1300 جريحاً والى 65 قتيلاً في اليوم السادس فتدفقت أمواج الغضب، وللمرة الثانية خلال خمسة أيام يقتل طفل اسمه محمد ابو عاصي. كل فلسطيني مواجه بموته، وكل يوم يشهد مزيداً من القتال، مزيداً من الموت. ان ارواح الشهداء تحوّم فوق الرؤوس تدعو لاستمرار الانتفاضة، وبالدم يتوحّد الفلسطينيون بعدما فرقتهم أوهام سلم زائف. مرّ اسبوعان حين كنت أكتب هذه المقالة وكانت الأخبار تتساقط صواعق داخل النفس، فقد قتل ما يزيد على تسعين إنساناً. اتصل فلسطيني مقيم في أميركا بزوجته خولة وابنه فارس البالغ من العمر خمس سنوات في القدس وطلب اليهم العودة حالاً، لكن ابنه اخبره ان خاله خالد عاد الى البيت من الصلاة مصاباً برجله وثيابه مبللة بدم شهيد مات في المعركة. وناقش الأب والأم الوضع فأقنعته ان ما يحدث هو جزء من واقع الحياة الفلسطينية وانه ليس من الحكمة حماية الطفل من رؤية جراح شعبه والتعرف الى هويته بكل ما فيها من خطر ومآسٍ، وان ذلك افضل من أن يلعب الكرة في أميركا. ومما قاله فارس لأبيه انه سيبقى ليحمي جدته من الجيش الاسرائيلي. وتصلني رسالة تبلغني ان اميركية يهودية مهاجرة الى اسرائيل قالت لفلسطيني عرفته كزميل في الجامعة: "ما يزعجني ليس ما تقول او ما تفعل. ما يزعجني انك حقاً موجود". الوجود الفلسطيني هو الذي كان دائماً مشكلة الصهيونية فسعت بمختلف الوسائل الى القضاء عليه، ولا تزال. السؤال الأساسي هو هل يقبل الفلسطيني بأن يُمحى من التاريخ؟ ولا يبدو ان الصهيونية تخلّت عن هذه الأمنية حتى حين تبيّنت لها استحالة هذا الأمر. لهذا استمرت قناعتها بضرورة الهيمنة على الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وتدمير منازلهم واقامة مستعمرات جديدة حتى في مرحلة ما بعد السلم. وكي تأمن وجود الفلسطيني، ترى ان علىه ان يختار بين الموت أو الرضوخ والتعاون صاغراً مستسلماً. ليس هذا ما يمكن ان يقبله الفلسطيني ولن يقبله، وستستمر الانتفاضة الى ان تتخلى الصهيونية عن قناعتها بضرورة التحكم بالحياة الفلسطينية. ويزيد الضحايا عن 120 قتيلاً. إنها انتفاضة تولد من عمق اليأس الفلسطيني، وكل فلسطيني اليوم يكتشف غضباً دفيناً في نفسه لم يعد قادراً على احتوائه وكبته. انه يتفجّر من الداخل تلقائياً ليكون موته سبيل حياته. لم تُحدث الاتفاقات تغيّراً في أوضاع الفلسطينيين فهم لا يزالون تحت الاحتلال دون أية ضمانات او استقلال ذاتي، وقد ازداد عدد المستوطنين منذ عام 1994خمسين ألف مستوطن جديد ولا تزال سياسات تدمير المنازل والاستيلاء على الأراضي قائمة، كما ارتفعت معدلات البطالة ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل اوسلو وانخفض الدخل الفلسطيني السنوي الاجمالي 21 في المئة. انهم لا يملكون مواردهم وحدودهم كما لا يملكون حياتهم وحرية التحرك. انهم مهددون بالسجون فما ان يطلق سراح أحدهم حتى يُستعاض عنه بآخر. بل انهم صُعقوا حين اكتشفوا انه لا يُراد لهم حتى ان تكون لهم سيادة على الحرم الشريف، وان اسرائيل احتفظت لنفسها بحق اعادة الإحتلال وقتلهم. ان صيغة اوسلو ليست صيغة للسلم، بل لتثبيت الاحتلال والعيش الذليل من دون حرية وكرامة. ان الاسرائيليين لا يزالون يستولون على حياة الفلسطينيين وليس في الامكان الاعتماد على حسن نياتهم فهم لم يتوصلوا بعد الى اقتناع بمصالحة تاريخية تضمن للفلسطينيين الحرية والكرامة، فليس من حقهم حتى التنقل من غزة الى الضفة من دون إذن مسبق من اسرائيل. ان اسرائيل آلة عسكرية مجردة من أي مضمون أخلاقي، والمجتمع الاسرائيلي مجتمع عسكري وترسانة لأسلحة الدمار الشامل. وهذا الشعب الاسرائيلي لم يعد قادراً على الاعتراف بذنوبه إلا في حالات نادرة، لأنه حين يفعل ذلك ينهار تاريخه من الداخل. هذا هو الواقع الذي يتم التعامل معه، فهل يُرجى منه سلام؟ كم تعدّدت سنوات الغضب والى متى؟ وهل كان عرفات دخل بوابة السلام لو عرف ان اسرائيل تصر على حقها بالسيادة حتى على الحرم الشريف وحياة الفلسطينيين عامة؟ هذه وغيرها اسئلة يطرحها العرب على انفسهم ولا تطرحها اسرائيل او أميركا فيستمر الموت. وقد اعترفت فتاة يهودية صديقة لشاب فلسطيني قتل في المعارك الحالية بأن موت الفلسطينيين مجرد أعداد، وان موت الاسرائيليين مآسٍ بشرية. على العرب ان يعتقدوا انه في امكانهم الانتصار. ان اسرائيل تخترع تاريخها، ويكون على الفلسطينيين ان يخترعوا انتفاضتهم الدائمة الى ان يعود الى الأرض رونقها والى الانسان الحب والحرية والكرامة. هل هناك أشد حزناً من أن يكون الطفل الفلسطيني مجبراً أن يسلك طريق الموت في سبيل الحياة؟ * كاتب واستاذ في جامعة جورجتاون - واشنطن