} أميركا المعزولة بين محيطين ليست خارج العالم. الانفجارات الاخيرة حملت الحرب الى قلبها. لكن الاميركيين خبروا الحرب من قبل وها هم اليوم في حرب جديدة. كيف تحضرالحرب في الادب الاميركي وفي ادب العالم الثالث؟. هناك موقف عابر، ولكن غنيّ الدلالة، في رواية غور فيدال "واشنطن دي سي": يدنو السيناتور بردن داي من احد المتظاهرين ضد قرار الولاياتالمتحدة دخول الحرب العالمية، محاولاً ان يقدم له نفسه باعتباره هو ايضاً معارضاً للتدخل، وداعية للعزلة، غير انه يُفاجأ بالمتظاهر يصرخ في وجهه: "إنه انتم ابناء الزنا اليهود من تريدون هذه الحرب!" وتصدر اهمية هذا الموقف عبر تلخيصه التهكّمي لمحنة دعاة العزلة من معارضي السياسة الخارجية الاميركية عموماً. فليس من أمل كبير لمثل هذه الطائفة في بلد استوت سياستها الخارجية على اساس دعامتين ايديولوجيتين: الاولى، واقعية وبراغماتية، تنصّ على ان المصلحة القومية تقضي بلعب دور كبير في السياسة الدولية. اما الثانية فدينية المصدر، كالفينية نسبة الى كالفن، توصي بأن للاميركيين مهمة خلاصيّة في العالم. استعادة همنغواي ودوس باسوس وعلى رغم ان رواية "واشنطن دي سي" صدرت عام 1967، الاّ ان شخصية داي، تبدو، كإحدى شخصيات روايات الحرب العالمية الاولى الشهيرة نظير "وداعاً ايها السلاح" لإرنست همنغواي، و"ثلاثة جنود" و"مبادرة رجل ما" لجون دوس باسوس، و"الغرفة الهائلة" لكمنغز، و"هذا الجانب من الفردوس" لسكوت فتزجيرالد، و"جزاء الجندي" لوليم فوكنر. فما يقوله داي بالنسبة الى خبرة الحرب يأتي صدى لما يقوله هنري، بطل، او من الاصح القول، البطل المضاد في "وداعاً ايها السلاح": "لم أرَ شيئاً مقدساً، والاشياء التي كانت مجيدة لم يعد عندها مجد بعد...". لغة سرد أخرى الاحساس بحقيقة الحرب ينبع من الخبرة الملموسة للجندي وليس من اية تصوّرات مجيدة مسبقة. "وداعاً ايها السلاح" لا تروي عمليّة اكتشاف الظاهرة من خلال ما تصوّر فقط - هذا على رغم ان تصويرها انسحاب الجنود في إيطاليا هو من المشاهد الخالدة في ادب الحرب- وإنما من خلال اللغة التي تتوسل: "تسجيل ما حدث في الفعل كتعاقب حركة وحقيقة تُحدث الانفعال" على حد تعبير همنغواي، او بكلمات اخرى، تطهير لغة السرد من بلاغة القيم المجردة وصور البطولات المجيدة. "ثلاثة جنود" وقد تمضي رواية اكتشاف الظاهرة ظاهرة الحرب الى حدّ استخلاص نتائج او مبادىء عامة، كما ينجلي عنه السرد في رواية "ثلاثة جنود". فهذه الرواية لا تكتفي بتصوير الحرب ظاهرة مادية ملموسة، ولا الاثر الذي تخلفه في نفوس المنضوين فيها، وإنما تعمل على تصوير العملية التي تؤدي الى تدمير نفوس الافراد، ومن ثم، طمس فرديتهم. وهكذا نجد ان اندروز، احد ابطال الرواية، أتى الى اوروبا ليعزز القيم الجمالية التي لم تكن عنده حتى ذلك الوقت سوى أطر شكليّة مجردة. غير انه سرعان ما يلفى نفسه في خضم عملية تفضي الى نسف هذه القيم بالتحديد. فالحرب ليست هي الوسيلة لحماية القيم الموقرة وانما هي عملية تدمير للافراد ولكل ما يحرصون عليه. التزام العزلة... والتمرد ولا تنأى رواية "الغرفة الهائلة"، وإن في القسم الاول منها، بعيداً عن محور اهتمام روايتي دوس باسوس وهمنغواي. غير انها في هذا القسم تأخذ منحى مفارقاً. فخلافاً لرواية دوس باسوس، لا تعدم التبشير بإمكان حفاظ الفرد على فرديته على رغم النظام الآلي الذي يسحق الفرد. وخلافاً لهمنغواي، فإنها ترى أن الفرار والتزام العزلة كفيلان بضمان الحرية والخلاص. على ان ذروة التعبير عن التمرد على المصير القدريّ الذي تسلّم به كل من روايتي همنغواي ودوس باسوس، تتجلى في التقنية السردية التي تتبعانها. فلا يلتزم الراوي بالاسلوب الواقعي، او الطبيعي، الذي تتوسله الروايتان السابقتا الذكر، وانما نجده يميل الى إسلوب المخاطبة الإرتجاليّ والمباشر، مهملاً بذلك متطلبات السرد التي تملي تصويراً مكافئاً لصورة الطبيعة وإخباراً متسلسلاً يسلم بمنطق التعاقب الزمنيّ. فإذا تمرّد الراوي على منطق الظاهرة نفسها وعلى قوانين رعاتها، فإنه يتمرد ايضاً على اسلوب تصويرها. الحرب العالمية الأولى مهدت رواية الحرب العالمية الأولى السبيل الى ظهور روايات وثيقة الصلة بما اعقبها، سواء في تتبع مصير جيل الحرب في زمن السلم كما في رواية همنغواي "والشمس تشرق ايضاً" او رواية سكوت فتزجيرالد "غاتسبي الكبير"، ام في الاستناد الى إحدى الخلاصات المستمدة من تجربة الحرب في سبيل وعيّ ظاهرة الحياة المدنية الحديثة، كما في روايتيّ جون دوس باسوس "تحوّل مانهاتن" و"الولاياتالمتحدة الاميركية". ففي روايتي همنغواي وفتزجيرالد نتبيّن مغبة الحرب من خلال العوق الجسماني والروحيّ الذي اصاب بطليّ الروايتين بما يجعل حياتهما المدنية اشبه بمحاولة يائسة للعثور على المعنى. اما في روايتيّ دوس باسوس فإن الكاتب يبتكر سرداً يكافىء فكرة انتظام المجتمع الحديث وفق نظام الآلة. الى ذلك فإن هذه الروايات بمثابة إرهاص لما صدر لاحقاً من اعمال روائية تتناول الحرب الثانية. وروايات مثل "وليام" لغور فيدال، و"الغاليري" لهورن بارنز، و"الاسود الشابة" لاروين شو، و"العراة والموتى" لنورمان مايلر، و"من هنا حتى الابدية" لجيمس جونز وغيرها كثير، انما تبدو وكأنها تعاود اكتشاف ظاهرة الحرب، وإن على مستوى اعقد واشمل من روايات الحرب الاولى. فهي حتماً لا تنطلق من افتراض براءة المقبلين على الانخراط في الحرب، ولا تنتهي الى الإقرار بشيء نظير قدرية المصير الإنساني. من التجريد الى... تعامل همنغواي مع ظاهرة الحرب كمدار جحيمي، ميتافيزيقي، وفي غالب الاحوال مجرد، الاّ من العلامات والاسماء الطارئة. بينما نظر روائيو الحرب الثانية الى الامر من منظور علمانيّ يرد الظاهرة الى اعتبارات سياسية واجتماعية واقتصادية. ولا عجب ان تولي رواية "العراة والموتى"، اهتماماً استثنائياً، لحقيقة قدرة المجتمع الاميركيّ على استجماع قدرات هائلة وتنظيم قوة قابلة على خوض حرب بحجم الحرب الثانية. انضوى مايلر في الحرب لقاء اكتساب خبرة تخوّله كتابة عمل كبير. بل انه لهذا السبب بالذات اختار الذهاب الى ميدان المحيط الهادىء، ساعياً الى العثور على ميدان قصة مختلف عن اوروبا وهي ميدان الروايات السابقة. وعلى رغم ان الرواية التي نتجت عن مثل هذه الخبرة لم تفترق في اسلوب سردها عن روايات الحرب الأولى في تصوير ظاهرة الحرب كجملة حوادث ومعارك، الاّ انها بخلاف تلك الروايات، ما برحت تحمل راويها، او مؤلفها، من ساحة قتال اليابانيين الى المجتمع الاميركي. فحكايات الجنود، والمعارك التي يخوضونها لا تعود ذات قيمة تذكر، اذ ما انفكت الحرب تبيّن قدرة مجتمع مدنيّ سويّ القيم والادارة على تنظيم عسكري هائل ودقيق. فمثل هذه الحقيقة تبرهن على ان الامر ليس نتيجة استجابة لأداء واجب يقضي بحماية القيم الانسانية، او حتى المصلحة القومية، وانما على ان الاستعداد لخوض الحرب كامن في قلب قوى المجتمع المستكين الى "حكمة" التقنية الحديثة. "ان الحرب لا غرض خارجيّاً لها، او مبرراً، سوى حقيقة توافر امكان خوضها" هي إحدى الخلاصات التي تبدو "العراة والموتى" وكأنها تقودنا إليها. هي ايضاً الفرضية التي تستوي رواية جيمس جونز وفقها. بل ان رواية جونز هذه تبدو وكأنها ترمي الى تعميق مقولة رواية مايلر المنسوبة وتعزيزها. فشأن جلّ روايات الحرب الاخرى فإنها تصدر اساساً عن خبرة المؤلف في الحياة العسكرية. لذا يدور الشطر الاكبر منها في الحقبة السابقة على دخول الولاياتالمتحدة الحرب بما يدل على ان اكتشاف ظاهرة الحرب يفضي بها الى التوغل في قلب المؤسسة العسكرية. وهنا تظهر المؤسسة عارية من اية بلاغة خارجية تسبغ عليها آيات التوقير وتمنحها التبرير الاخلاقي الذي تحتاج. فهذه، على ما تخبر الرواية وتصوّر، مؤسسة لا مبرر لها سوى حقيقة وجودها: حقيقة ان صغار اعضائها الجنود هم من حثالة المجتمع الذين لم يحرزوا نجاحاً يذكر في الحياة المدنية فعمدوا الى التماس مهنة في الجيش. هي ايضاً حقيقة ان كبار أعضائها الضباط ما انفكوا يتحرقون لوقوع الحرب بما يعود عليهم من ترقيات وامتيازات لا يمكن الظفر بها في زمن السلم. وفي النهاية انها حقيقة ان المؤسسة نفسها تبرر وقوع الحرب لان هذا وحده ما يبرر وجودها ودوامها. رواية الحرب الجديدة وإذا سلكت رواية الحرب العالمية الثانية سبيل اكتشاف ظاهرة الحرب من خلال سبر أغوار النظام والمجتمع الاميركيين، فإنها أفضت، وربما من دون ان تدري، الى الإيذان بأن رواية الحرب قد استنفدت نفسها. صحيح أن روايات اميركية عدة ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين متوسلة سبيل تصوير خبرة الانخراط في الحرب، لا سيما حرب فيتنام، الاّ ان أياً منها لم تفلح في احتلال مرتبة تكافىء مرتبة روايات الحربين الاولى والثانية. فرواية مثل رواية "رسائل إخبارية" لمايكل هر، لم تظفر بشهرتها من خلال سوق خبرة الانضواء في حرب فيتنام وإنما من خلال اسلوبها التقريري وغير المهادن. اما روايات مثل "جيوش الليل" و"لماذا نحن في فيتنام؟" لنورمان مايلر، و"في الريف" لبوبي آن مايسون، و"جنود الكلب" لروبرت ستون، و"ديموقراطية" لجوان ديديون، و"احلام آلة" لجين آن فيلبس، فإنها تستأنف المسيرة التي بدأتها رواية الحرب الثانية متناولة ظاهرة الحرب من خلال اثرها على حياة الاميركيين العاديين او من خلال السياسة المعارِضة والانشقاقية التي اثارتها في صفوف الطلاب او عبر تكريس سياسة التدخل والتورط باعتبارها الوجه الابرز للسياسة الخارجية الاميركية. مثل هذه الروايات تبدو اوفق في التعامل مع ظاهرة الحرب في القبض على الوعي السياسي لها او في كيفيّة التعبير الفني عنها. ولكن لعل في روايات مثل "كاتش-22" لجوزف هيللر، و"المسلخ رقم خمسة" لكرت فونغيت، و"شبح هارلوت" لنورمان مايلر ايضاً، وربما كانت هذه ابرز ثلاث روايات حرب اميركية ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين، ما يرقى الى إجابة عملية على استنفاد رواية الحرب "التقليدية" نفسها. وعلى رغم ان روايتيّ هيللر وفونغيت تدوران خلال الحرب العالمية الثانية، الاّ ان في إلحاحهما على فكرة استحالة عقلنة ما يجري يشي بأن مدارهما الحقيقي هو الحرب المرتقبة، او "الحرب القادمة" على حد تعبير احد المعلقين. ولئن كان الهاجس المطبق، لا سيما في ذروة الحرب الباردة، باحتمال مواجهة بالاسلحة الذرية والنووية، لن تُبقي على من يخبر القصة، هو الذي يبرر التشبث بفكرة استحالة او عدم جدوى تصوير ما حدث، فلا شك أن الفظائع التي اقترفت في الحرب الثانية، خصوصاً فظائع مثل أوشفيتز ودرسدن وهيروشيما، تدل على ان ما جرى لم يصدر الاّ عن رغبة في التدمير تعصى على الفهم. ولا غرابة او غلو في الظن بأن ارادة الحرب ارادة منفصلة عن اي نظام او تقليد عقلانيّ إنساني. انه في ضوء افتراض كهذا ندخل عالم رواية "كاتش-22". عالم جنوني تؤدي كل شخصية فيه دورها بإخلاص لا يرقى اليه الشك، وبما يدل على ان الخلاص الوحيد في الإذعان لقاعدة الجنون السائدة. اما في رواية "المسلخ رخمسة"، فلا مناص من التسليم بما يحدث من دون كيف او لماذا. اما السعي الى التغيير فممتنع اصلاً لانه يفترض وجود ما لا يوجد ولا يحدث. وهذه هي الخلاصة التي يصل اليها بيلي بلغرام الذي شهد كل شيء في درسدن، المدينة الألمانية التي دمرها الاميركيون، وأدرك انه ليس هناك ما يدعو الى الفهم او التبرير. واذا ما توسلت هاتان الروايتان تبريراً فنياً لرؤيتهما ظاهرة الحرب - الاولى من خلال سرد لا يلتزم بشكل او عقدة، والثانية من خلال المزج ما بين الادب الواقعي وادب الخيال العلميّ- فإن رواية "شبح هارلوت" تكتفي باسلوب واقعي او طبيعي، وفق ما ارتأته مدرسة "الصحافة الجديدة" التي ازدهرت منذ الستينات، وبرز فيها مايلر كأحد روّادها. فما احتاجت رواية مايلر هذه الى تقنية راديكالية الشكل طالما انها تتناول حرباً من نوع آخر، وتدور في ميدان لم تدخله الرواية من قبل. ف"شبح هارلوت" هي رواية الحرب الباردة، وميدانها كواليس الاستخبارات. فهي تتقصى ظاهرة الحرب "القادمة" من قلب المؤسسة التي تديرها مستأنفة بذلك ما تناولته وخلصت إليه في "العراة والموتى" في ان الحرب ظاهرة منفصلة عن ارادة أفراد وإنما هي اعراب عن الارادة الصرفة لقوة اجتماعية او مؤسسة عسكرية وامنية، وفي النهاية إرادة التقنية الحديثة التي تنظم المجتمع الاميركي الحديث. والحق فإن روايات هيللر وفونغيت ومايلر هذه إنما تتمّ دائرة رواية الحرب الاميركية. فهي تعود الى نقطة البراءة التي انطلقت منها رواية الحرب العالمية الاولى. الفارق الوحيد ان البراءة المزعومة هنا ليست براءة المثاليّ والرومانطيقي وانما هي براءة الطائش والعاجز والمجنون وضيِّق الافق والمتكاسل والمستسلم. ولعل هذا ما يشي بأن رواية الحرب الاميركية، وعلى رغم انها رواية معادية للحرب، الاّ انها لا تبشر بأمل كبير لسياسة الحياد والعزلة.