يظن بعض النقاد ان اميركا، كأمة وثقافة، حديثة العهد ناقصة النمو، مقارنة مع بقية العالم، مما يجعل مصطلح "الأدب الاميركي" من قبيل التناقض. وفي حقيقة الأمر شهدت اميركا منذ ولادتها فيضاً غزيراً من الانتاج الفني. ومن غير اليسير تبين موقع الرواية في هذا الفيض. ومن الجلي ان ثمة عرضاً باهراً من الاساليب التي تميز الرواية الاميركية. وقد يسعد الولاياتالمتحدة الزعم بأنها جددت هذا الشكل الادبي، بيد ان الرواية نفسها تنحدر من قصة قديمة جداً ظهرت مع السرديات الشفوية في افريقيا وآسيا الوسطى وجنوب اميركا والشرق الأوسط، بالإضافة الى مناطق اخرى. وسنقصر بحثنا على الرواية الاميركية في القرن العشرين لا سيما النصف الأول منه. تشكل الأدب الاميركي، بل والهوية الثقافية نفسها، عبر تحولات دراماتيكية سياسية واقتصادية وتكنولوجية واجتماعية. شملت هذه التحولات، من ضمن ما شملت، التدفق الهائل للمهاجرين، دمار ما بين الحربين العالميتين، النكبة الاقتصادية في زمن "الكساد الكبير" تغير ابنية الهوية الجنسية والاثنية وازدهار الصناعات والتقنيات الجديدة. وليس من قبيل الغرابة ان الرواية المنتجة في أزمان عصيبة كهذه، استجابت من خلال سبل متنوعة الى عكس أو مخاطبة تجربة التحول هذه. وكان لعولمة الثقافة الاميركية ملابساتها الشديدة بالنسبة الى الكتاب الاميركيين. وفي كونها سرداً موسعاً عملت الرواية عمل التقرير الصحافي للتحولات النفسية والعاطفية والمادية. عند منعطف القرن، وقع الكتاب والفنانون الاميركيون في فتنة الثقافة الأوروبية الحديثة. لكن بعضهم مثل روبرت فروست وكارل ساندبرغ، آثر البقاء في الوطن وسعى الى العمل على ما يسمى "السجية الاميركية". ولكن فنانين شباناً آخرين، بعضهم مفعم بحس الفضول والمغامرة وبعضهم الآخر مأخوذ بلجة الحرب، مثل ارنست همنغواي وسكوت فيتزجيرالد، ارتحل عبر الاطلسي وانغمس في الانقلابات الثقافية هناك. وأمست باريس نقطة التقاء المغتربين الاميركيين الشبان الذين التفوا حول سلسلة من الصالونات والمراكز الادبية التي سيطرت عليها نساء اميركيات مدهشات. كانت غرترود شتاين مضيفة أحد أشهر النوادي الادبية. فقد كانت من أوائل المغتربين الاميركيين الذين استقروا في أوروبا مهيئة المسرح، إثر وصولها الى باريس عام 1903، نظراً الى انشغالهم بأسئلة تتعلق بالهوية الشخصية والقومية. ويأتي "نشوء الاميركيين" كتاب غرترود شتاين الهائل الذي بلغ ألف صفحة في علم الأصول الاميركية، شأنه شأن كتاباتها الشعرية والنثرية الاخرى، مثال الطليعية والتحدي. اذ ان هذا الضرب من الاختبار اللغوي التجريدي كان نموذجاً للاسلوب الأدبي المسمى "حداثة" وكان اخذ بمجامع الغرب. وتميز اسلوب شتاين بتلاعبه باللغة والفكر جلي التأثر باهتمامها بالرسامين التجريديين وما بعد الانطباعيين. وجربت شتاين تقنية الأدب التلقائي المسمى "تيار الوعي" قبل ان تشرع فرجينيا وولف وجيمس جويس في استكشاف احتمالاته. كانت غرترود شتاين رائدة اسلوب وشكل، بيد ان شهرتها تعرضت للكسوف بسبب روائيي الجيل الضائع الذين ساهمت في تعليمهم ودعمهم. وضمت هذه الحلقة ارنست همنغواي وشروود اندرسون وسكوت فيتزجيرالد. وكان همنغواي يكتب بأسلوب كلاسيكي منظم: صلابة وتركيب نثره كان بمثابة الرد على التفتت وفقدان القيمة والفوضى التي اسفرت عنها الحرب العالمية الأولى. وبينما كان يعمل مخبراً لدى صحيفة "كنساس سيتي ستار"، كان همنغواي يميل الى اعتبار الكتابة حرفة صارمة في انتاج الوضوح والبساطة وقوة التعبير. وقد انقطع هذا التمرين الصحافي المبكر بفعل قراره التطوع في خدمة الصليب الأحمر كسائق اسعاف للجنود الايطاليين صيف 1917 حينما انضم الاميركيون الى الحرب. وتعرقلت هذه التجربة نفسها إثر تعرضه لإصابة في الساق بنيران مدفع رشاش. وبعد انقضاء ما ينوف على عشرة أعوام على ذلك ظهرت القصة المتخيلة لهذه المغامرة المبكرة كرواية "وداعاً أيها السلاح". وهي قصة شاب اميركي يخدم في الجيش الايطالي سائق سيارة اسعاف، ومن ثم يفر من أهوال الحرب بصحبة ممرضة انكليزية الا ان أمنه المنشود لا يني ان يقوض بموتها في ساعة الانجاب. ومن الممكن تأويل رواية "وداعاً أيها السلاح" كتصوير للحرب في قالب رومانطيقي، لكن السرد الواضح الصارم ينزع الى استبعاد العاطفية. ذلك ان جمله الخبرية البسيطة مجردة من أي زخرف شعري الى حد ان الناقد ايهاب حسن يقول ان اسلوب همنغواي "مضاد للاسلوب". وكانت روايته الأولى، والاهم "سوف تشرق الشمس ايضاً" المنشورة عام 1926، ارست على نحو بينّ نبرة همنغواي في الحداثة غير الشخصية. واسترعى اسلوبه الانتباه لاستخدامه ما يسميه ت.س اليوت "التلازم الموضوعي"، اي بدلاً من نطق أو تسمية المشاعر فإنه يتم احالتها الى الصورة أو المشهد، اللاشخصي والموضوعي، الذي يثيرها. فجاك بارنز في رواية "سوف تشرق الشمس ايضاً" أعاقته الحرب إعاقة جسدية. ومن ثم فهو يجاهد في احتمال العقم والعدمية وفساد حداثة ما بعد الحرب من دون ان يغرق في المهاوي والأوهام. تصوّر الرواية بارنز وحلقة أصدقائه في البحث عن بديل ذي معنى للغواية المقتنصة واللذات العابرة لمشهد المقهى البارسي. ويبدو ان مصارعة الثيران الاسبانية وفرت احساساً أعمق وتجربة حياة أغنى دلالة. يقدم همنغواي في مشهد مصارعة الثيران التام رؤية للفن الحديث كسبيل للخلاص من العقم الحديث وكسبيل لتحويل العنف عبر نظام فني. بل ويمكن اعتبار تصوير همنغواي تكنيك مصارع الثيران بدرو ميرو في الرواية المذكورة بمثابة تصوير لحرفته هو نفسه ككاتب: "لم يكن روميرو يظهر اعوجاجاً. كان على الدوام مستقيماً وحراً وطبيعياً في الاسلوب... ولأنه كان يحافظ على النهج البالغ الصفاء في حركاته، فإن قتاله كان يمنح شعوراً حقيقياً... وبهدوء وتماسك كان يتيح للقرون ان تمر اكثر قرباً كل مرة". في مواجهة خلفية التحولات الاجتماعية والتطورات السياسية التي راحت تشهدها الولاياتالمتحدة في العشرينات، فإن "ايكزوتيكية" ميادين همنغواي الروائية والمحورية الذاتية لانشغالاته، جعلت قصصه تبدو على نحو تدريجي هروبية وذات نزوع الى تذكر اساطير رعاة البقر الذي اشتهر بها الغرب الاميركي. اما تسجيل البانوراما الاشمل والاعقد والأشد حيوية للحياة خلال ذلك الوقت فقد أُنيطت بروائيين اميركيين آخرين: وليم فوكنر، مبتكراً اشكالاً مسرفة في اختباريتها بغية تصوير المشاكل الاخلاقية للجنوب قيد الظهور. جون دوس باسوس الذي صاغ خبرة المهاجر الاميركي المدينية في سياق كولاج من اللغة الدارجة، وحيوات مكافحة واحداث تاريخية في رواية "تحول مانهاتن" وثلاثية USA. هذا بالاضافة الى كتّاب "نهضة هارلم" شأن لانغستون هيوز الذي عمد الى دمج الاصوات الثرية للغة الحوار الآفرو - اميركي وايقاعات سرد الحكايات الشعبية القديمة وأصوات "البلوز" الجديد، دمجها جميعاً في الشعر والنثر. اما سكوت فيتزجيرالد فهو مُسقط الخرافة عن الحلم الاميركي الحديث. ففيهما يتعلق ب"عصر الجاز" الذي استولى على المخيلة الثقافية في العشرينات، فإن سكوت فيتزجيرالد الذي يصور الجانب الواقعي على نحو اقل من تصويره للجانب الفانتازي منه. وأمدته تربيته المنعمة بعض الشيء بمادة روايته الأولى "هذا الجانب من الفردوس" المكتوبة باسلوب اكثر رمزية وأكثر عناية بالهموم الاجتماعية والايديولوجية من اي من الكتّاب الحديثين الآخرين. وكان فيتزجيرالد وصل الى اوروبا عام 1924 ونشر في هذه الفترة روايته "غاتسبي العظيم"، وهي الرواية التي ما زالت الى الآن "الرواية الاميركية العظمى". وفيها يسلط فيتزجيرالد الضوء على تكلفة التدمير الاخلاقي للثراء والمجتمع الراقي والاسراف. حيال الكساد والاصلاحات الاقتصادية المعروفة ب"نيوديل" ومشاريع الاصلاح الاخرى التي اعقبت يقظة انهيار سوق الاسهم عام 1929، تغيرت الحداثة خلال الثلاثينات. وعلى رغم ان عام 1929 قد شهد ظهور ملحمة وليم فوكنر الجنوبية "الصخب والعنف"، فإن تسيس الرواية الاميركية لدى كتّاب مثل دوس باسوس وريتشارد رايت وجون شتاينبك آذن بنهاية ذروة الحداثة الاميركية، وكاسلوبية اختبارية استخدمت كأداة لأدب احتجاجي وثوري يحال اليها في بعض الاحيان كونها الرواية "البروليتارية" الجديدة. وكانت رواية جون شتاينبك "عناقيد الغضب" من اشهر الروايات التي ظهرت في هذه الحقبة وتصور اميركا في حالة الكساد. اذ تروي قصة مزارعي اوكلاهوما المعدمين الذين يهجرون حقولهم البائرة بحثاً عن فرصة في كاليفورنيا. بين الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام تقع الحقبة الهادئة نسبياً لأميركا الخمسينات. واتسم جيل ما بعد الحرب بالعزلة والاستهلاكية وعدم المبالاة الاجتماعية. انها الحقبة التي يميل بعضهم الى تذكرها كحقبة قمعية وخافتة. ولعل اكثر ما يمثل النزعة المحافظة الجديدة لحقبة ما بعد الحرب هو انحدار السياسة الراديكالية واعادة ارساء التصنيف الجنسي مقياساً. فخلال مجمل النصف الأول من القرن العشرين، كان هناك تأييد قوي لصنوف متنوعة من الاشتراكية في اميركا. اما في الاربعينات والخمسينات فقد نشأ عداء متعاظم للحزب الشيوعي بلغ ذروته تحت تأثير السيناتور جوزيف ماكارثي وتحقيقات "لجنة مجلس الأنشطة المعادية لأميركا". وتمت مأسسة هذه الانعطافة نحو المحافظة في الميدان الاكاديمي من خلال مدرسة "النقد الجديد" التي اكدت على الفصل بين الاجتماعي والادبي. فجادل النقاد الجدد بأن الأدب ابديّ لذلك فمن المتوجب دراسته على نحو منفصل عن الثقافة، بل عن الشخصيات، التي انتجته. وواجه روائيو حقبة ما بعد الحرب ثقافة لم تكن مستعدة لأن تقبل الرواية كنتاج ظروف اجتماعية، وبدرجة اقل قبولها كأداة تغيير اجتماعية. وكان من نتيجة ذلك ان أدب تلك الحقبة عمد الى تصغير موقفه الاجتماعي عن قصد، نازعاً عوضاً عن ذلك الى "كونية لازمنية" مزعومة حظيت بثناء النقاد الجدد. بل وارغم حتى الكتّاب الذين رأوا الى انفسهم نقاداً اجتماعيين على مواجهة المفارقة الأساسية لفردية ما بعد الحرب، اي للنزاع بين المطالب الخاصة لتحقيق الذات والمطالب العامة لنشاط الجماعة. وعلى سبيل المثال فإن رواية هاربر لي، حاصدة الجوائز "ان تقتل طائراً يقلد الطيور الاخرى" تعالج عنصرية الجنوب من خلال رواية ناضجة ثرية السبك، ومع ذلك فإنها تجعل من مظالم الجهاز القانوني وشرور تحامل المجتمع مسائل ثانوية من حيث الأهمية لدى والد البطلة، وهو محام جسور. عرفت فكرة الأدب الاميركي تحولاً مشهوداً في الشطر اللاحق من هذا القرن. اذ ان اسئلة تدور حول المرجعية الادبية والحدود القومية والطبقية، والعرق والهوية الشخصية والجنس وطبيعة الكتابة راحت تتبلور في الرواية الاميركية المتكاثرة على مدى الأربعين عاماً الاخيرة. ولأن هذه الحقبة مفتوحة النهاية وشديدة الدينامية، فقد كان لهذه الطاقة أثرها البيّن في الكتابة. ويمكن رؤية الادب الاميركي في نهاية القرن فسيفساء ذات بنية مترامية الاطراف تنم عن تعقيد وحيوية. أما مسائل ما بعد الماركسية الفرنسية المتعلقة بالثقافة والاختلاف السياسي و"الآخرية" و"التبدلية" والهامشية فباتت قضايا مركزية بالنسبة الى الثقافة، وبالتالي رواية، ما بعد الحداثة الجديدة التي يبدو كأنها تغلغلت في الوعي الاميركي الشعبي. * روائية اميركية من اصل عربي وأستاذة الادب الاميركي في جامعة "بورتلاند ستيت"، اوريغون.