في محل بيع المقتنيات الأثرية والكتب القديمة الذي توارثه أباً عن جد، في مسقط رأسه في جبل لبنان، يفاجأ بلدسّار، بطل رواية أمين معلوف الجديدة. ذات صباح، بزيارة كاهن روسي، يدعى إيفدوكيم. وهذا الكاهن قصده من موسكو، لسؤاله عن كتاب عربي نادر لمؤلف من بغداد، يدعى أبو ماهر المزندراني، وعنوانه "الإسم مئة" ويُعتقد أنه يضم اسماً خفياً، من أسماء الله الحسنى، يكفي النطق به لانقاذ البشرية من الفناء الذي يتهددها! يومذاك لم يعر بلدسّار كلام الكاهن الروسي كبير اهتمام. فهو، بحكم مهنته، كان سمع وقرأ الكثير عن ذلك الكتاب، لكن أحداً ممن تحدثوا أو كتبوا عنه، لم يجزم بأنه يمتلكه أو سبق أن قرأه، مما جعل بلدسّار، على غرار الكثيرين من الباحثين القدامى، يرجح ان الكتاب لم يوجد قط، بل كان مجرد اشاعة اطلقها بعض أصحاب الخيال والفضول العلمي، إذ انطلق هؤلاء من أسماء الله الحسنى التي هي في الإسلام تسعة وتسعون اسماً، وقالوا لا بد ان هنالك الى جانبها اسماً خفياً، هو "الاسم مئة"، أو "الاسم المطلق" الذي في امكانه أن يصنع المعجزات. ومن المعروف ان كتاب أبو ماهر المزندراني هذا، دار الحديق عنه بالفعل في التراث العربي القديم، بل تم أيضاً تداول أحاديث نبوية شريفة، منسوبة الى الرسول صلى الله عليه وسلم، بخصوص "الاسم مئة"، لكن علماء الفقه شككوا في صحة تلك الأحاديث. بعد زيارة الكاهن الروسي، توافد على بلدسّار عشرات الفضوليين وهواة اقتناء الكتب القديمة، من مختلف بقاع الأرض، سعياً وراء هذا الكتاب، خصوصاً مع تزايد النبوءات التي كانت تتوقع آنذاك، في صيف العام 1965، قرب حلول نهاية العالم، في نهاية السنة الموالية 1966، استناداً الى ما جاء في نبوءات القديس يوحنا، بخصوص "سنة الوحش" التي قال عنها: "على من يمتلك الذكاء ان يحسب مقدار سنة الوحش، فإن عددها انساني، ورقمها 666". وبالمصادفة تصل بلدسّار هدية من شيخ عجوز من جيرانه، فإذا بها كتاب المزندراني. لكنه، قبل ان يطلع على الكتاب، يضطر الى بيعه الى وسيط يبيعه بدوره الى مبعوث ملك فرنسا الفارس هوغ دي مار مونتيل، في مقابل مبلغ مالي طائل. ويفعل بطلنا ذلك مدفوعاً بالرغبة في التخفيف من الفاقة التي يعانيها جاره العجوز. لكنه حين يذهب لتسليمه المبلغ، يجده قد مات! فيتملكه الندم، لأنه باع هديّة كان يفترض به ألا يتخلى عنها لأي انسان، بحسب وصية الشيخ. وهكذا ينطلق بلدسّار في أثر المبعوث الفرنسي من جبل لبنان الى القسطنطينية، ومنها الى أوروبا، في رحلة طويلة شاقة تنتهي به الى استرجاع الكتاب، قبل أيام من موعد نهاية "سنة الوحش" التي كان الجميع يخشى ان تشهد نهاية العالم، في خضم "اشتعال الأفق بلهب نيران ضخمة تلتهم كل شيء". وكانت المخاوف تضاعفت حيال هذه النبوءة، بعد الحريق المهول الذي دمَّر مدينة لندن، في صيف تلك السنة راجع الصورة التاريخية للحريق المذكور على غلاف الرواية. لكن النبوءة لا تصدق، بالطبع. فيعود بلدسّار الى مسقط رأسه لينعم مجدداً بالحياة الوديعة التي درج عليها، وسط كتبه ومقتنياته الأثرية. وبين زيارة الكاهن الروسي في مطلع الرواية، وعودة بلدسّار أخيراً الى مسقط رأسه، يقودنا أمين معلوف على امتداد صفحات الرواية الى رحلة مشوِّقة، مفعمة بالأهوال والمفاجآت، في عالم استبدت به المخاوف والنبوءات الكارثية. لكن أهم ما في الرواية ليس تلك الرحلات الشاقة، البرية منها أو البحرية، ولا الحرائق أو الأهوال الخارجية التي كانت تصادف بلدسّار أينما حل. فرواية صاحب "ليون الأفريقي" الجديدة أقرب الى رحلة داخلية، مثل "رحلة أوليس"، ترصد أهوال عصر وتقلباته النفسية من خلال مشاهدات أو معاناة الشخصية المحورية. وعلى رغم أن أمين معلوف أراد لروايته هذه ان تكون بياناً ضد "سبات العقل" و"غواية الشعوذة"، الا انه لم يختر لذلك أسلوب الإدانة والتنديد بالحماقة الانسانية، بل انكب على سبر أغوار الذات الإنسانية، عبر تصوير تقلبات مزاج بلدسّار وأفكاره وهواجسه، على امتداد رحلاته ومغامراته، سعياً وراء "المفتاح السحري" الذي تخفيه مخطوطة كتاب المزندراني. ويكتشف بطلنا في النهاية، ان كل تلك المخاوف التي هيّجت العالم في "سنة الوحش" تلك، لم تكن نابعة من الخوف من الفناء ونهاية العالم، مقدار ما كانت تعبيراً عن "الألم الإنساني" وتطلعاً نحو الخلاص. ففي صباح اليوم الأول من كانون الثاني يناير 1967، بعدما انتهت "سنة الوحش" ولم تحل الكارثة المتوقعة، يتأمل بلدسّار شروق الشمس ويخاطبها قائلاً: هكذا، انك لم تنطفئي إذاً، ولا انطفأت الكواكب الأخرى؟ انني لم أرها ليلة البارحة لأن السماء كانت مغيَّمة. لكنني سأراها هذه الليلة من دون شك، لأنها لا تزال هنا... لم تنطفئ الكواكب، ولم تدمَّر المدن. وبات علينا ان نستمر في العيش، يوماً بعد آخر على هذه الأرض، تصحبنا آلامنا الإنسانية الصغيرة، ويلازمنا الطاعون وألم الرأس، وترافقنا الحروب والفضائيات، وتواكبنا حكايات عشقنا وجراحنا. ان أية كارثة إلهية، أو أي طوفان مقدَّس، لن يأتيا إذاً لتخليصنا من مخاوفنا ودسائسنا"! * صدرت الرواية عن دار غراسيه، باريس 2000.