دخلت تركيا العام 2000 وبيدها صك قبول ترشيحها لعضوية الاتحاد الأوروبي وبحوزتها كذلك وعود كثيرة من صندوق النقد والبنك الدولي بدعم خطتها الاقتصادية للقضاء على وحش التضخم الذي امتص دم الاقتصاد التركي على مدى ربع قرن. وبدا عندها ان الغرب يقدم ما في وسعه لمساعدة تركيا لتأخذ مكانها داخل الاتحاد الأوروبي، فشهدت العلاقات بين انقرة والاتحاد الأوروبي ومؤسسات المال الدولية انتعاشاً، انعكس على مستوى أداء بورصة اسطنبول التي سجلت في كانون الثاني يناير الماضي، رقماً قياسياً تجاوز العشرين نقطة بقليل. ودفع ذلك رئيس الوزراء التركي بولند اجاويد الى تأكيد أن بلاده ستبدأ محادثاتها مع الاتحاد الأوروبي عام 2001 وستحظى بالعضوية الكاملة عام 2004. وتوّج أجواء التفاؤل، فوز فريق كرة القدم "غلطة سراي" بكأس الاتحاد الأوروبي في أيار مايو الماضي، ليكون أول فريق تركي يحرز هذا اللقب. وانعكست تلك الأجواء تحسناً ملحوظاً في علاقات تركيا بجيرانها: اليونان وسورية والعراق، ليشهد مطلع العام الفين زيارة أول وزير خارجية يوناني لأنقرة بعد قطيعة دامت 39 عاماً، وتشكيل ست لجان مشتركة بحثت في سبل تعزيز وتقوية العلاقات بين البلدين اللذين تنافسا في تبادل المجاملات السياسية على لسان وزيري خارجيتهما اسماعيل جم وجورج بابندريو. وعلى الحدود السورية، تشابكت أيدي مسؤولي البلدين أثناء رقصهم الدبكة في قرية جيلان بينار التركية، معلنين فتح صفحة جديدة من العلاقات توجت بزيارة نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام لأنقرة. واستغلت انقرة اقدام الكونغرس الأميركي على مناقشة مشروع قانون يعترف بتعرض الارمن لمجازر جماعية، لتبدأ تنفيذ خطتها الرامية الى تحسين علاقاتها مع بغداد. وأرسلت عدداً من نوابها ووزرائها ورجال أعمالها تباعاً الى بغداد، لاجراء محادثات رسمية والمشاركة في معارض تجارية والبحث في فتح معبر حدودي جديد بين البلدين وتسيير خط سكة حديد من الموصل مروراً بحلب ومنه الى تركيا، تحت شعار تطوير التجارة والعلاقات الاقتصادية بين بغدادوأنقرة. وتابعت الطائرات التركية الخاصة رحلاتها الجوية الى العراق اعتباراً من تشرين الأول أكتوبر الماضي ولكن بشكل غير منتظم. كما توصلت أنقرة الى اتفاق مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني العراقي، للقتال ضد حزب العمّال الكردستاني في شمال العراق. وبذلك كسبت تركيا كلا الحزبين الكرديين هناك الى جانبها، وهما: حزب الاتحاد الوطني والحزب الديموقراطي مع استمرار الخلاف بين الحزبين. وكان للأجواء الإيجابية مع الاتحاد الأوروبي أثرها أيضاً على الصعيد الداخلي في تركيا. إذ شهد العام ألفين انتخاب خلف للرئيس سليمان ديمريل. فتعرفت تركيا الى رئيس جديد من نوع خاص يقدس القانون وهو رئيس المحكمة الدستورية العليا السابق أحمد نجدت سيزر الذي أخذ على عاتقه اعادة ترتيب أوضاع البيت من جديد واعادة هيكلة علاقة رئاسة الجمهورية مع الجيش، وطرح مبدأ مساواة الجميع أمام القانون وضرورة التزام مؤسسات الدولة أولاً القوانين وعدم استثناء أحد من ذلك، كمدخل لاحتواء المؤسسة العسكرية تحت جناح السيطرة وانهاء امتيازات الجيش. وأدى ذلك الى وقوع أكثر من مواجهة غير مباشرة بين سيزر والعسكر، انتهت جميعها لمصلحة الاخير ليحصد بذلك ثقة الشعب ويصبح أول رئيس تركي يحظى بتأييد شعبي يفوق التأييد الممنوح للجيش. وشهدت المؤسسة العسكرية أيضاً تطورات وأحداثاً مهمة خلال العام الماضي، كان أبرزها اجتماع مجلس الشورى العسكري الذي عقد في آب أغسطس وشهد تصفية لوبي القيادات المتحمسة لتوطيد العلاقات عسكرياً مع اسرائيل، ورتب الاجتماع أوضاع الجيش الداخلية لعشر سنوات مقبلة، ما جعل كثيرين يراهنون على تغيّر محتمل في وضع الجيش في تركيا بعد هذه السنوات وبعد تعاقب جيلين اثنين على رئاسة الأركان. كما ترددت أنباء كثيرة عن استعدادات الجيش لاعادة هيكلة نفسه والتحول الى جيش محترفين مع تقليص عدد أفراده وتعديل نظامه الداخلي بما يشبه النظام المتبع في الولاياتالمتحدة. كذلك تقرر خلال العام الماضي، نقل مقر قيادة الجيش من سواحل البحر الأسود الى مقر جديد على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وذلك نتيجة طبيعية لانهاء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي وتحول الاهتمام الى منطقة شرق البحر المتوسط، فيما ألغت قيادات الجيش التركي عدداً من زياراتها المقررة لتل أبيب بعد بداية الانتفاضة الفلسطينية، في ما اعتبر عملية اعادة نظر في مستوى علاقات أنقرة العسكرية مع تل أبيب. كذلك شهد العام ألفين تطورات مهمة على صعيد الملف الكردي، إذ وافق زعماء الائتلاف الحاكم على تجميد تنفيذ حكم الاعدام بحق عبدالله أوجلان وانتظار قرار محكمة حقوق الإنسان الأوروبية التي وافقت من جانبها على النظر في التظلم الذي تقدم به محامو الاخير. ومر عيد النيروز رأس السنة الكردية بسلام ومن دون احداث شغب، للمرة الاولى منذ عشرين عاماً ضمن بادرة حسبت في اطار خطة السلام التي دعا اليها أوجلان وبعض الجماعات والأحزاب الكردية والتي دفعت بعض مسؤولي حزب العمال الكردستاني وجماعات من مقاتليه الى تسليم أنفسهم الى السلطات التركية كبادرة حسن نية. لكن مجلس الأمن القومي وامتثالاً لمطالب الجيش، رفض هذه الخطة وعرض أجاويد خطة بديلة لاعادة اعمار مناطق جنوب شرقي تركيا ودعمها اقتصادياً. وبقيت هذه الخطة حبراً على ورق كسابقاتها، فيما بادر الجيش الى تنفيذ مشروعه لاعادة اسكان أهالي المنطقة في قرى جديدة أكثر أمناً ورفع حال الطوارئ عن ثلاث محافظات هناك، من دون أن يحل ذلك المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لأهالي المنطقة. وأعلن الجيش أيضاً القضاء تماماً على خطر حزب العمال الكردستاني داخل تركيا. واستوجب ذلك تصفية بقية الأحزاب التي شاركت في الحرب مع أو ضد حزب العمال الكردستاني، فبدأت مع بداية العام عمليات دهم مقرات ما يسمى بحزب الله التركي الذي ثبت انه كان يقاتل ضد الانفصاليين الأكراد وبدعم غير مباشر من الحكومة، لكنه خرج عن السيناريو المحدد له وبدأ بالعمل لحسابه. وشهد العام الماضي، أيضاً تصفية الكثير من زعامات المافيا والجماعات القومية واليسارية المسلحة، وأول نقاش حقيقي وساخن حول حقوق الأكراد الثقافية. وجاءت عملية تصفية الحسابات هذه ومحاولة اغلاق الملفات القديمة دعماً للمسار الأوروبي الذي وضعت أنقرة نفسها في اطاره، إلاّ ان هذه العمليات شملت أيضاً قطاع الاقتصاد الذي كان يعاني كثيراً التجاوزات والمخالفات، فشهدت تركيا في خريف العام ألفين أكبر عملية لتصفية بنوك افلست منذ زمن لكنها بقيت قائمة بسبب دعم بعض السياسيين لها. واسدل الستار على تسعة بنوك، ما ادى الى فقدان المستثمر الأجنبي الثقة في السوق التركية، وخسرت تركيا على أثر ذلك، سبعة بلايين دولار من الاستثمارات الأجنبية في شهر واحد. وعملت جماعات أسماها رئيس الوزراء ب"اعداء النجاح" على محاربة الخطة الاقتصادية، ما دفع أنقرة الى الاستغاثة مجدداً بصندوق النقد الذي وعد باقراض تركيا مبلغ عشرة بلايين دولار. وبدلاً من أن تسدد تركيا جزءاً من ديونها التي قاربت المئتي بليون دولار خلال العام الماضي، خرجت منه وقد زادت ديونها عشرة بلايين دولار أخرى، ما جعل البعض يقول ان انقرة استسلمت تماماً لشروط صندوق النقد الدولي وان العام 2001 يشهد حكم هذا الصندوق لتركيا. ومثلما انهارت آمال تركيا الاقتصادية قبل نهاية العام ألفين، شهدت علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي انتكاسة مشابهة أيضاً مع فشل تركيا واليونان في أول امتحان لعلاقاتهما وعودة التوتر والتحدي بين جيشي البلدين خلال مناورات حلف شمال الأطلسي في بحر ايجه. وكانت قبرص مثار خلاف جديد بين أنقرة والاتحاد الأوروبي حول وثيقة شروط عضوية تركيا للاتحاد. وانسحب على أثر هذا الخلاف الجانب التركي من محادثات السلام القبرصية التي ترعاها الأممالمتحدة، بعد خمس جولات وصفها زعيم القبارصة الأتراك بأنها كانت عقيمة. وعلى رغم اعادة الاتحاد صوغ وثيقة شروطه وقبول أنقرة للوثيقة الجديدة، إلاّ ان قرار الاتحاد تأجيل محادثات عضوية تركيا لعام 2010 وعرقلة أنقرة الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي والاطلسي الهادف الى انتفاع الجيش الأوروبي المزمع تشكيله من امكانات الحلف العسكرية، جعلا التوتر والاحباط يخيمان من جديد على علاقات تركيا بأوروبا. هكذا ودعت تركيا العام ألفين، وأحلامها بالتصالح مع أوروبا تحولت الى كوابيس تهدد بفشل خطتها الاقتصادية وتحولها الى تابع لصندوق النقد الدولي.