في 20 كانون الثاني يناير الجاري غادر الرئيس بيل كلينتون البيت الابيض بعد ثماني سنوات من توليه سدة الحكم في اقوى وأغنى دولة في العالم، اثبت خلالها انه يملك طاقات كبيرة ومتنوعة، وحقق انجازات داخلية وخارجية يقدرها له شعبه، وقام بأعمال شخصية مثيرة ستبقى لفترة طويلة راسخة في ذاكرة رجال السياسة في معظم انحاء العالم. وبشأن النزاعات الدولية، يسجل للرئيس الاميركي السابق نجاحه في تكريس الولاياتالمتحدة باعتبارها الدولة الوحيدة التي لها حق التدخل في جميع هذه النزاعات من دون اذن احد، وهي وحدها التي تحدد ادوار القوى العظمى والصغرى في حلها. وبشأن النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي يسجل لكلينتون انه بذل جهوداً كبيرة لحله لم يبذلها رئيس اميركي قبله: زار منطقة الشرق الاوسط ست مرات وأجرى 175 اتصالاً مع رؤساء دول لحل هذا النزاع، واستقبل رئيس منظمة التحرير الفلسطينيةمرات كثيرة حتى اصبح أبو عمار اكثر زعيم اجنبي زار البيت الابيض، واشنطن بوست 13/1/2001. وأصبح كلينتون خبيراً في شؤون النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، وصار بإمكانه رسم خارطة الضفة الغربية وقطاع غزة بدهاليزهما التفصيلية المتشعبة وهو مغمض العينين، وختم فترة رئاسته بطرح أفكار غير مسبوقة بشأن معالجة هذا النزاع. وعلى رغم ذلك كله، غادر كلينتون البيت الابيض قبل حل هذا النزاع المزمن، ومن دون تحقيق ما يجعله مرشحاً قوياً لنيل جائرة نوبل لصنع السلام في الشرق الاوسط كما كان يطمح. صحيح انه طرح في آخر ايامه افكاراً اميركية جديدة جريئة لحل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، أكد فيها ان لا حل له من دون قيام دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وعاصمتها القدس ولها حدود واضحة ومحروسة بقوات دولية. كما قدم اقتراحات عملية لمعالجة مشكلتي القدس واللاجئين متقدمة على كل ما طرح اميركياً من قبل. ومع ان افكار كلينتون واقتراحاته لا تزال موضع بحث ونقاش، الا ان مجريات حياة اهل المنطقة تؤكد ان ليس في الافق غيوم سلام تبشر بامكان التوصل الى اتفاق سلام جديد شامل او جزئي قريباً. لقد بيّنت الوقائع للفلسطينيين لدى البحث في افكاره واقتراحاته، في غزةوالقدس وعند حاجز اريتز وقبلها في واشنطن، انها افكار واقتراحات اسرائيلية في الاساس، لم يسجل المفاوضون الاسرائيليون، بن عامي وآمنون شاحاك وجلعاد شير، أي ملاحظة عليها، وغلفت باتقان بأوراق اميركية لتمويهها وبيعها للفلسطينيين بأسعار عالية، وبالدولار بدلاً من الشاقل. إلا ان مفاوضيهم رفضوا شراءها، وأكدوا لاصحابها الاصليين ما قالوه لمن تبنوها، من ان بعضها ذو قيمة كبيرة، لكنها بالاجمال ناقصة وبعيدة عن قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي ولا تقدم علاجاً جذرياً ودائماً له، وفيها انحياز صارخ لمواقف اسرائيل ومصالحها الاستراتيجية واجحاف بحق الفلسطينيين، كما ان بعضها خطير جداً على مصالحهم وحقوقهم الوطنية وبخاصة نسفها قرارات الاممالمتحدة 194و 242 و 338 والحلول مكانها. وبصرف النظر عن النوايا، فإن الافكار الجديدة للرئيس كلينتون، التي لخص فيها مواقف الطرفين، لم تساهم في تهدئة الصراع الجاري على الارض بل عقدته وأججته، تماماً كما فعلت مواقفه وافكاره "الخلاقة" التي طرحها في تموز يوليو الماضي في قمة كامب دافيد الثلاثية، وأزّمت العلاقات الفلسطينية -الاميركية، وعجلت في انفجار الانتفاضة، ودفعت الفلسطينيين والاسرائيليين الى خنادق القتال، وجعلت الفلسطينيين يبتهلون، في تلك الايام، الى السماء ان يرحل كلينتون بأسرع وقت ممكن من دون طرح بيان رئاسي يتضمن افكاراً اضافية تلحق بهم مصائب وعذابات جديدة. وتمنى الفلسطينيون على كلينتون ان ينفذ، قبل رحيله او بعده، مقولته الشهيرة في واي بلانتيشن: "هذه هي افكاري، اذا لم تُقبل فإنها لن تسحب عن الطاولة فحسب، وانما تذهب معي ايضاً عندما اترك منصبي". وفي كل الاحوال سيدوّن التاريخ في صفحاته ان كلينتون تسلم عملية صنع السلام من ادارة بوش - بيكر عام 1993، وهي في أوج قوتها وحيويتها وتمتع بثقة نسبة كبيرة من الفلسطينيين والاسرائيليين وشعوب المنطقة الاخرى. لكنه سلمها لادارة جورج بوش الابن في مطلع سنة 2001 وهي هابطة تركد في غرفة العناية الفائقة. وسيسجل ايضاً ان كلينتون قطف في بداية عهده، بسهولة، اتفاقي اوسلو ووادي عربة بين الاسرائيليين والفلسطينيين والاردنيين، اللذين ارسى اسسهما الثنائي بوش وبيكر، وأشاد هو في احتفالات توقيعهما بجهود بوش وبيكر واعترف بأنهما ثمرة جهودهما. لكنه سلم هذين الاتفاقين لمن خلفوه وهما في حال يرثى لها، ومصيرهما غامض ومجهول، ولم يحسن استثمارهما في تعزيز مكانة عملية السلام وصنع شرق اوسط جديد. ولا ابالغ اذا قلت ان مواقف كلينتون ومساعديه مادلين اولبرايت ودنيس روس خلال ثماني سنوات من المفاوضات كرّهت الفلسطينيين شعباً ومفاوضين، بمن فيهم انصار السلام، بكل ما يمت بصلة لرعاية اميركية لعملية السلام. ولن ينسى الفلسطينيون ان كلينتون واعوانه - حماة حقوق الانسان - لم يحاولوا قبل رحيلهم من البيت الابيض وضع حد لمواقف القيادة الاسرائيلية العنصرية وممارساتها الفاشية، وصمتوا على باراك وهو يمارس هواية قتل شباب فلسطين واطفالها ونسائها وشيوخها. وستبقى الشعوب العربية تتذكر كيف ضيّع كلينتون فرصة صنع السلام في المنطقة. غادر كلينتون البيت الابيض وهو متهم بزرع بذور حرب اقليمية جديدة، ويعرف هو واركانه انهم راحلون ومنطقة الشرق الاوسط تقف على حافة انفجار كبير. ولن يستطيع أبرع محاميه الذين نجحوا بتغطية فضيحة مونيكا لوينسكي تبرئته من هذه التهمة التاريخية، خصوصاً وان الادلة دامغة ووقائعها حية في شتى ارجاء المنطقة. فالغيوم الكثيفة السوداء التي تغطي سماء فلسطين بكاملها ومنطقة شبعا في جنوبلبنان ومرتفعات الجولان داكنة السواد، وتنذر بتغير دراماتيكي وهبوب عواصف قوية مدمرة واكثر دموية من التي عاشتها المنطقة خلال السنوات الاخيرة. ولا يستطيع الرئيس كلينتون تبرئة نفسه من تهمة المساهمة بفاعلية في توفير المناخ لصعود القوى اليمينية المتطرفة في اسرائيل، وتوفير ظروف مواتية جداً لفوز الارهابي ارييل شارون بعد أسبوع برئاسة الحكومة. الى ذلك كله، يبقى قدر الفلسطينيين بعد كل الذي فعله كلينتون وروس واولبرايت في عملية السلام ان يتمسكوا بحقوقهم الوطنية كما اقرتها الشرعية الدولية، وان يستعدوا من الآن لمواجهة "مرحلة شارون". واعتقد ان مواقف شارون العنصرية المعلنة المعادية للحقوق الفلسطينية، وأعماله الدموية المحفورة في ذاكرتهم، توفر لهم معرفة مسبقة لطبيعة هذه المرحلة. واذا كان لا خيار امام الفلسطينيين سوى المواجهة فسبيلهم الى الصمود هو العمل باتجاه تفعيل عمقهم العربي وتوسيع جبهة الاصدقاء في الاممالمتحدة وخارجها، مع الحرص الشديد على مواصلة انتفاضتهم السلمية ومأسستها وتخليصها من كل النواقص والشوائب التي قلصت حجم المشاركة الشعبية فيها. ولا شك في ان تفعيل دور المنظمات والاتحادات الشعبية، واعادة تنظيم اوضاع السلطة ومؤسساتها واجهزتها المدنية والامنية ضرورة وطنية ملحة لضمان صمود الانتفاضة في مواجهة الهجمة الشارونية التي ستتركز ضدها، وضمان استمرار حضورها الفاعل في كل الظروف والاحوال في كل مدينة وقرية ومخيم فلسطيني. * عضو المجلس الوطني الفلسطيني