حين سألت "الحياة" طبيباً لبنانياً يقيم في مدينة يوتيكا في ولاية نيويورك في الولاياتالمتحدة، لماذا لا تعود الى لبنان؟ أجاب "ماذا أفعل هناك حيث لا توجد صفحات صفر!". والطبيب الذي تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت في العام 1986 متخصصاً في "تحاليل الانسجة"، تغرورق عيناه حنيناً عندما يتحدث عن أهله في لبنان. وهو لم تبقه منذ هاجر في تلك الفترة، في أميركا إلا صحفات صفر. وهي دليل هاتف يوزع مجاناً على المواطنين. وهذا - يوجد مثله في لبنان - يكاد لا يحتاج الأميركي الى شيء غيره اذ يمكنه الاتصال بكل مَنْ في الولاية وصولاً الى أعلى المستويات، من دون وساطة. ويمكن المواطن ان يحل كل المشكلات التي تصادفه من خلال الهاتف، بحسب الطبيب الذي راح يكيل الشتائم والسباب للحال في لبنان خصوصاً ان "مساوئ" الادارة اللبنانية وفسادها صبت في كل معاملة أراد انجازها من هناك. فبدءاً بتسجيل ابنه في دائرة النفوس بعدما اجرى المعاملة في السفارة وأرسلها الى الخارجية اللبنانية التي أحالتها بدورها على دائرة النفوس التابعة لوزارة الداخلية منذ العام 1993، وحتى الآن لم تصل وتالياً لم يسجل الولد ولم ينل هوية لبنانية. ولدى استفساره عن المعاملة قيل له ان "كل البريد الذي ارسل في هذا التاريخ الى الداخلية ضاع". وأعطي في الخارجية ورقة صغيرة سجل عليها: "رقم الأحالة: 10589، بتاريخ: 14/8/93، بالبريد المضمون:588". وطلب مرة إخراج قيد عائلياً فأرسل له واحد سجل فيه تاريخ ميلاد زوجته 1992 وتاريخ ميلاد ابنته 1996، ويسأل "هل يحترم مأمور النفوس الذي وقع بيان القيد هذا توقيعه؟ ألم يلاحظ ان الأم أكبر من طفلتها بأربع سنوات؟". وحين جاء زائراً أهله قبل أشهر اصطدم ليلاً بمكعب اسمنت "لا يُرى اذ لا اشارات ضوئية أو فوسفورية عليه"، وضع فاصلاً في وسط الطريق بسبب أشغال الاوتوستراد الجديد. فقصد بعدما نقل والديه العجوزين اللذين اصيبا من جراء الحادث الى المستشفى، مخفراً للدرك ليرفع دعوى على "المسبب" المتعهد فما كان من رئيس المخفر الا ان قال له: "أتظن نفسك في أميركا يا حكيم؟". ويقول عاتباً "بماذا يمتاز عنّا الأميركيون! فهم ليسوا الا أناساً جاؤوا من كل انحاء العالم ولا يجمعهم في هذا البلد أميركا سوى القانون واحترامه". وفي تلك الفترة قبل نحو ثلاثة أشهر دعا رئيس الجمهورية اللبنانية اميل لحود في تصريح له المغتربين ليعودوا الى لبنان، وسأل الطبيب "كيف نعود الى دولة لا تحترم مواطنيها؟ الى دولة لا قانون فيها ولا نظام؟ وعلى أي اساس يطلب منّا المسؤولون العودة وماذا نفعل هناك وكيف نعيش؟". واسئلة الطبيب هذه لا تبعد عن آراء لبنانين كثر التقتهم "الحياة" في ولاية ميشيغان، ويقدر عدد اللبنانين هناك بأكثر من مئة ألف. وهذه الولاية شهدت هجرتين لبنانيتين تفصلهما عقود طويلة، وكانت كلتاهما من المسلمين والمسيحيين. ففي العام 1890 وصلها أول مهاجر لبناني وكان مسيحياً وأقام شرق وسط مدينة ديترويت، وكبرت الجالية في عقدين لتبنى أول كنيسة مارونية في المدينة في العام 1915. أما هجرة المسلمين الى تلك الولاية فبدأت في العام 1910 وأقام المهاجرون في "هيغلاند بارك" وبني أول مسجد في العام 1919. لكن الهجرة الجديدة كانت في مطلع السبعينات، وأقام المهاجرون الجدد في ديربورن فاستحدثت مناطق لبنانية وشوارع معظم لافتات محالها بالعربية. فشارع "وارن" سماه اللبنانيون شارع "بنت جبيل" تيمناً بالمدينةاللبنانية الجنوبية التي يقيم من أبنائها في ديربورن أكثر من 35 ألفاً، اضافة الى كثر من بقية القرى الجنوبية التي كانت محتلة من اسرائيل طول 22 عاماً. وهذه المنطقة تكاد تكون أكثر أمناً من سواها من مناطق المدينة التي يجلس عمال محطات الوقود فيها خلف زجاج ضدّ الرصاص تحسباً لعمليات السطو، وكذلك سائقو سيارات الأجرة تفصلهم عن راكبي سياراتهم ألواح زجاج ضدّ الرصاص فيها ثقب لدفع الأجرة. وبعض الأحياء في المدينة تقفر عند حلول المساء وخصوصاً وسط المدينة التي يبلغ 90 في المئة من سكانها من "الأميركيين - الأفريقيين" السود في حين يسكن البيض في الضواحي الراقية. ودخلت "الحياة" ليلاً مع شاب لبناني في سيارته، بعض شوارع تلك المنطقة التي بدت مخيفة فعلاً ما حدا بسائق السيارة الى اقفال ابوابها من الداخل تحسباً لأن يفتح ساطٍ بابها لدى وقوفها على الإشارة التي يكاد لا يضيء سواها. فبعض المنازل لا كهرباء فيه، وبعض الطرق فيه حفر وغير نظيف خلافاً لما يعتقد كثر لم يزوروا أميركا. واذ اقتصر عمل معظم المهاجرين الأوائل على البيع وفي مصنع "فورد" للسيارات، فان المهاجرين الجدد لم يدعوا مجال عمل الا انخرطوا فيه. فزائر المدينة يكاد لا يحتاج الى تكلم الانكليزية اذ يطالعه لبنانيون اينما جال في شوارعها، وبينهم أناس لا يتكلمون الانكليزية أصلاً ربما لأنهم لم يحتاجوا اليها. وكثر أىضاً من متكلمي الانكليزية لا يجيدون أكثر من العامية الأميركية إضافة الى تعريبهم أفعالاً كثيرة على الطريقة اللبنانية، يستخدمها بعضهم مع بعض حيث يعملون في معظم المحال وبخاصة محطات الوقود وكذلك المطاعم اللبنانية التي لا تخلو جدران واحد منها من صور لمواقع تراثية لبنانية وما الى ذلك. والطعام اللبناني لا يقدم للبنانين فحسب بل لمعظم قاطني المدينة عرباً وأميركيين. وكثافة وجود اللبنانين هناك دفعت بسيدة لبنانية تقيم في ولاية واشنطن، أي على بعد أربع ساعات سفراً، تقول لابنتها سالي التي ولدت هناك حين تأمن لها عمل في ديترويت: "اذهبي الى هناك تزوجي لبنانياً". وسالي لا تشبه اللبنانيين الا في جمالها وكلامها اللبناني الذي تجيده بمفردات بعضها قديم تعلمته من أمها التي هاجرت قبل عقود، مع قليل من ثقل اللسان. وهي تتماهى مع لبنانيتها ولا تقبل أن يقال انها غير لبنانية. وترى الى كل ما جاء من لبنان جميلاً، فهي ملأت سيارتها شرائط غناء لبناني وكذلك منزلها جعلت فيه كثيراً من الاشياء اللبنانية. وكذلك يحاول اللبنانيون التماهي مع الحياة الأميركية مضيفين عليها بعضاً من تفاخرهم بعضهم على بعض ولا يقودون الا سيارات غالية وكذلك لا يمشي واحد منهم من دون ان يتمنطق بهاتف نقال، على رغم انتفاء الحاجة اليه اذ تنتشر أجهزة الهاتف في كل مكان. والهجرة الى تلك الولاية لم تتوقف على صعوبة الحصول على اذن دخول فيزا أميركية هذه الأيام، لكن لبنانيين لا يتوانون عن الذهاب اليها على رغم ان الوصول اليها شاق ومكلف جداً. و دفع عليّ ليصل 22 ألف دولار في رحلة طويلة وشاقة استمرت أكثر من شهر عبر أميركا الجنوبية وما رافقها من قطع بلاد تهريباً ونوم في العراء والصقيع ودخول سجون وصولاً الى كندا فأميركا ليقيم عند صهره. واذ تحفظ علي على طريقة دخوله الولاياتالمتحدة وقطعه النهر الفاصل بين مدينتي ديترويت ووينزر الكندية حرصاً على عدم كشفها، قال انه كان يعمل في لبنان صور مع ابيه في البساتين ويملك منزلاً وسيارة ومحلاً لتوزيع الاقنية الفضائية. أما في اميركا التي يعيش فيها "بالأسود" على ما يوصف مَن لا أوراق رسمية لديه، فيعمل في مطعم يوناني يجلي الصحون ويرمي النفايات. لكن شباناً لبنانيين لا تختلف حالهم عن حال علي يلومونه ويعتبرون ما فعله "بطراً". أما هو على حيائية فلا يريد إظهار الندم الذي يكاد يفهم من ملامحه وكلاماته المبرهنة على ان "العيش في أميركا أفضل" على رغم خسارة المال وعدم تمكنه من استعادة نصف ما دفعه بعد نحو سنة من العمل "الشاق" ومن دون مصروف اذ يقيم عند صهره، ولا يتكلف بدفع ايجار المنزل والمأكل والمشرب. لكن وسام 30 عاماً الذي اطلق شعره وذقنه ووضع خواتم ألماساً في معظم اصابع يديه فلا يخفي حباً وحنياً للبنان، ولا يشجع أحداً على المجيء الى أميركا على رغم تفاخره بنفسه وتأكيده انه "ليس فاشلاً هنا". ويقول ان أول شعور بادره لدى دخوله أميركا "خيبة الأمل" اذا رأى انها "كذبة كبيرة". وهو صدق "الكذبة" وجاء من ألمانيا بجواز سفر ايطالي حصل عليه من زواج قبل سنوات، ويعيش أيضاً في أميركا ب"الأسود". ويقول: "حيثما يعمل الانسان في أي دولة من دول العالم ينتج مالاً أكثر مما ينتج في أميركا. فهنا يعمل 12 ساعة يومياً سبعة أيام لينتج 500 دولار اسبوعياً، يصرف أكثر من نصفها على المسكن والمأكل والملبس". واذ يشكك وسام في كل روايات الأوضاع الجيدة و"تحسين الأحوال" التي يتحدث عنها لبنانيون، يؤكد انه بعد نحو 5 سنوات لا يملك أكثر من 10 آلاف دولار، "واذا اردت اقتناء سيارة ادفعها". والفارق بين أميركا ولبنان، ان من يعيش فيها يمكنه شراء بيت وسيارة تقسيط اذا عمل، أما اذا لم يعمل فيصبح مشرداً وينام في الشارع "لأن لا أحد يحمل أحداً". ولا يمكن ان يحصل أي واحد على ثروة الا اذا حرم نفسه كل شيء وسكن مع كثر في ملجأ، أو اذا أحضر معه مالاً واسس عملاً خاصاً، بحسب وسام، أما اذا بقي يفكر في أهله وبلده وأراد العيش المريح، فستبقى حاله كما كانت ويعود بعد سنوات طويلة الى بلده خائباً لا ثمن شقة في جيبه. وأكبر همّ لدى المهاجرين اللبنانيين، الجدد خصوصاً، تأمين الاوراق الرسمية والاقامة الشرعية التي لا سبيل اليها الا بالزواج من أميركية التي لا يكون معظمها موفقاً على رغم ان "اتمام هذا الزواج لا يمكن الا بدفع الاموال للعروس المفترضة خفية". والعيش من دون أوراق رسمية في الولاياتالمتحدة ممكن اذ يعرف اللبنانيون ان لا حق للشرطي ان يسأل أي واحد عن اقامته بل يكتفي اذا ضبط أحداً في مخالفة سير بتنظيم محضر ضبط بناء على رخصة القيادة التي يسهل على سماسرة الحصول عليها لمقيمين غير شرعين في مقابل نحو 1500 دولار وهي تستعمل هوية في كل الولاياتالمتحدة. وهذا ما فعله غسان 28 عاماً الذي ما ان دخل أميركا حتى راح يفكر بتأمين الاوراق على رغم انه دخل بفيزا سياحية حصل عليها من ألمانيا. فغسان لم يكن مصدقاً انه سيطأ الأرض الأميركية. لكن البهجة امتكلته مذ كان في الطائرة فرحاً برؤية الأضواء منها الى حين هبوطها ودخوله الولاياتالمتحدة من مطار شيكاغو حيث كان أخوه وصديقه ينتظران وصوله آتياً من ألمانيا حيث أمضى أربع سنوات. وكان غسان ذهب الى ألمانيا في مطلع التسعينات طالباً ليدرس الكهرباء بعدما حل أول في مدرسته في لبنان وكان الفارق بينه وبين الثاني مئتي علامة، فأعطي منحة ليتابع تخصصه في الأردن. وبعد أشهر سافر ليجد ان الجامعة لا تستقبل طلاباً مهنيين. وبعدما عاد الى لبنان خائباً استحصل على فيزا طالب ذهب بها الى ألمانيا حيث راح يدرس على نفقته، ويعمل لتأمين مصاريف الاقامة والتعلم، أولاً في مطعم من الثالثة بعد الظهر الى منتصف الليل. ولما كان لا يحق للطالب العمل أكثر من ثلاثة أشهرفي السنة كان يعمل مستعيراً أوراق رفاق له، ثم عمل عتالاً وفي التنظيفات وكذلك في البناء ما حال دون اتمام دراسته اذ كان يعمل من التاسعة ليلاً الى السادسة صباحاً وهو في سنته الجامعية الثالثة. ولم تكن القهوة، التي كان يشربها لتساعده على التيقظ خلال المحاضرات، تنفعه كثيراً بل كان يغفو خلالها ما اثر في دراسته سلباً وأدى الى سقوطه. وبهدف وضع حد لهذه الظروف سعى غسان الى الحصول على إقامة في ألمانيا تمكنه من العمل ومتابعة الدراسة، فتزوج فتاة أوكرانية تزوجت هي بدورها عجوزاً ألمانياً مصاباً بسرطان العظم على الورق لتحصل على الاقامة. دفعه الىأس الى التقدم بطلب فيزا الى السفارة الأميركية فنالها غير مصدق وقصدها فوراً ليقيم في مدينة توليدو في ولاية أوهايو نحو أربع سنوات ويعمل عند قريب له في "سوبر ماركت" من الحادية عشرة صباحاً الى منتصف الليل في مقابل 6 دولارات أجراً على الساعة. ويقول: "حتى قريبي كان يستغل وضعي ولا يدفع لي أجراً إسوة ببقية العمال أي 7 دولارات أو 8 في الساعة". وهّم الأوراق والاقامة الشرعية كانا يراودانه دائماً ما دفعه الى الزواج من فتاة أميركية عمرها 23 عاماً على الورق قبل عامين في مقابل 4000 دولار على ان يطلقها بعد سنة. أعطي إقامة مدتها ستة أشهر أولاً فأخذت المبلغ كاملاً "تحت التهديد بالطلاق" ثم راحت تبتزه كل شهر وتأخذ منه مبالغ تتفاوت بين 300 و400 دولار. ويقول: "لم أكن قادراً على مقاومتها أو رفض طلبها حتى مرت الأشهر الستة بطلوع الروح". بعدها جاء موعد المقابلة في دائرة الهجرة فطلبت مالاً اضافياً قيمته 650 دولاراً، دفعه ودفع لمحام رافقه ألفاً. وفي المقابلة الانفرادية التي كانا تحضرا لها، سئل كل منهما 25 سؤالاً تركزت على كل ما يحيط بزوجين مقيمين - هما ليسا كذلك - بعضهما مع بعض: عن التلفزيون ومكانه، وطريقة نوم كل منهما، وماذا فعلا في العيد الماضي، وعيد ميلاد الزوجة وتاريخه، والهدية التي قدمها اليها، وأين سهرا وأكلهما ويوم زفافهما وموضع الجوارب في أي جارور ونوع معجون الانسان ولون الفرشاة. أجاب الزوجان عن الاسئلة كلها الا موضع الجوارب فأخطأ في أي درج. وبعد نجاح غسان في التحقيق ارسلت اليه الاقامة الموقتة عامان بالبريد. وغسان الذي تنتهي مدة إقامته العام الجاري، اختلف مع زوجته المفترضة قبل نحو شهرين اذ لم يعد يطيق دفع الاموال لها خصوصاً بعدما ترك عمله في متجر المواد الغذائية، بعد ان واجه خلال عمله وإقامته هناك مشكلات عدة منها: صدم عمود كهرباء في حادث سير أدى الى انقطاع التيار الكهربائي عن نحو ألفي مواطن ما استدعى محاكمته بعد علاجه، وتعرضه لمعركة بالرصاص الحي مع عصابة سطو انتهت بمقتل زميل له وجرحه، وارساله ثلاثة أشهر الى مركز تأهيل بعدما باع فتاة دون الثامنة عشرة جعة بيرا على رغم تأكيده انه تحقق من هويتها، "لكن الهوية كانت مزورة، والشرطة لم تصدقني وهي أخفت الهوية". وأدّى الحادث هذا الى تنصل قريبه صاحب العمل منه وعدم مساعدته في المحكمة وتالياً تركه العمل والسعي بعد فترة التأهيل، الى تحسين أحواله بتعلم قيادة الشاحنات فانفق على ذلك نحو ثلاثة آلاف دولار ما عدا تكاليف الانتقال يومياً من أوهايو الى ديترويت في ولاية ميشيغان التي تبعد نحو ثلاث ساعات ذهاباً وإياباً، وفي هذه الاثناء راح يعمل ليلاً في فرن معجنات. لكن غسّان الذي كان يعمل طول هذه الساعات لا يوجد في جيبه سوى دولارات معدودة لأنه كان يعمل ليدفع ما يقبضه ابتزازاً، لذلك لم يستطع التحمل طويلاً فاختلف مع الزوجة التي كانت تطالبه دائماً باعطائها رقم حسابه في المصرف. لكنها في مقابل تمنعه فتحت حساباً باسمها وراحت تصدر شيكات من دون رصيد حتى بلغت ديونها 10 آلاف دولار وتلقت تهديدات كثيرة وصدر في حقها قرار توقيف لكنها فرّت والشرطة تبحث عنها. لم يعد غسان يطيق العيش في توليدو، ولا يعرف ماذا يفعل لكنه يحتفظ بمكاتيب الغرام وبطاقات المعايدة وصورهما معاً. ولا يريد العودة الى لبنان بعد نحو عشر سنوات من دون ان يحصل على الاقامة الدائمة لتسهل له العودة الى اميركا "لأن البسبور اللبناني لا يساوي شيئاً" بحسب ما وصفه. ويقول: "لو كان بلدنا محترماً لبقينا فيه. فتوضيب الحقائب أمر صعب جداً والرحيل من دون معرفة تاريخ العودة أكثر صعوبة". وحين التقته "الحياة" لم يكن أمامه سوى الذهاب الى قريب له في تكساس وعده بعمل لديه. الحلم السياسي "اللبناني" الذي تحقق مضاعفاً لم يتمكن المهاجرون اللبنانيون في الولاياتالمتحدة، وخصوصاً في ولاية ميشيغان، من دخول الحياة السياسية الا بعد عقود طويلة على رغم انهم وصلوا اليها في بدايات القرن الماضي. فهم لم يلمّوا شملهم من خلال جمعيات وأندية الا في السنوات الأخيرة وتالياً لم يلتفت اليهم أحد من رؤساء الولاياتالمتحدة الا جورج بوش الابن الذي ادرك أهمية دورهم في حملته الانتخابية الأخيرة وقصدهم في الولاية ميشيغان واعداً بتحسين أحوالهم. ووعد بوش هذا حمله اللبنانيون هناك على محمل الجد ولم "يتدللوا" حين عرفوا مكانتهم ودورهم المفترض في نتائج الانتخابات، وراحوا يتحدثون عنها في منشوراتهم وهي صحف نصفها عربي ونصفها الآخر إنكليزي ولا تشبه الصحف الأميركية في ضخامتها. وبدءاً باليوم الانتخابي توزع اللبنانيون على المراكز الانتخابية حاملين لوائح مرشحيهم وعلى رأسها بوش الى الرئاسة واللبناني الأصل سبنسر ابراهام الى مجلس الشيوخ عن ولايتهم، متوحدين للمرة الأولى في تصويتهم للمرشح الجمهوري على رغم ان معظمهم ديموقراطيون. ومراكز الاقتراع كانت في المدارس التي لم توقف الدراسة وكان يوازي صياح الاولاد المتناهي من الصفوف، حماسة لبنانية في حين كان الأميركيون يأتون صامتين ويقفون في صفوف فيقترعون ويذهبون من دون ان يتحدث بعضهم الى بعض. أما اللبنانيون فدرسوا حالي المرشحين بوش وآل غور، وقرروا التصويت لبوش بحسب رئيس "اللجنة العربية للعمل السياسي" القاضي عبد الإله حمود. وقال "نحن نقترع لمن نراه مؤيداً للقضايا العربية وله مواقف ايجابية منها". وأهم قضية يواجهها العرب هي "الأدلة السرية" التي تمنح القوى الأمنية الحق في توقيف أي شخص على ملامحه العربية من دون الافصاح عن اسباب التوقيف. وبعدما كان اللبنانيون مستنفرين نهاراً وموزعين أمام مراكز الاقتراع، تنادى كثر منهم الى "نادي بنت جبيل" في ديربون، لمتابعة نتائج الفرز عبر شاشة كبيرة تحلقوا حولها. وعندما لم يفز ابراهام بمقعده ولم يفز بوش في الولاية، لم يكن أمام بعضهم الا ان يجبر خاطر الناخبين قائلاً "وان خسر بوش في ميشيغان، فهو نجح في مدينة ديربون. وهذا دليل على أهمية الصوت العربي". وعدم فوزهما يرده اللبنانيون الى قوة "الديموقراطيين" على صعيد الولاية، خصوصاً ان اتحادات العمال فيها تؤيد الحزب الديموقراطي وتالياً مرشحيه. وكانت مصانع السيارات، التي يعمل فيها لبنانيون، أعطت عمالها إجازة مدفوعة للمشاركة في العملية الانتخابية والاقتراع لآل غور. وفي أثناء متابعة عمليات الفرز في النادي اصيب معظم الحاضرين بالوجوم وكاد الحزن يسيطر عليهم على رغم "جبر الخواطر" لولا إعلان إعادة عدّ الاصوات في ولاية فلوريدا، فتعالت الاصوات وبدا أمل جديد... ليحقق مضاعفاً بعد نحو شهر بفوز بوش وتعيينه ابراهام وزيراً للطاقة الأميركية.