بدأ الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ولايته بإعارة الوضع الداخلي أهمية خاصة تنفيذاً لوعد قطعه على نفسه أثناء المعركة الانتخابية. ومع أنه سيرث اقتصاداً على وشك الانتهاء من دورة النمو المتصاعد، إلا أن الشعب الأميركي يفسر مرحلة الركود المنتظرة من خلال حالات سابقة أدت إلى خسارة والده الانتخابات التي جاءت بكلينتون. وهذا ما يدفعه إلى الحذر والتأني في تطبيق برنامجه الانتخابي القاضي بخفض العبء الضريبي على دخل الشركات والأفراد بمقدار 3.1 تريليون دولار على مدى عشر سنوات. وفي تصوره أن هذا الخفض سيؤدي إلى تقليص مديونية المواطنين وزيادة السيولة في الاقتصاد، الأمر الذي يقود إلى الانتعاش أكثر من تسديد الدين العام البالغ 4.3 تريليون دولار. ويقول خبراء الاقتصاد إن الرئيس الجديد يعيش في عقلية حزب تقليدي قضت ثورة التكنولوجيا على أفكاره القديمة، تماماً كما يحاول أفراد طاقم إدارته إحياء سياسة الحرب الباردة. وبسبب المخاوف التي نشرها الحزب الديموقراطي إثر إعلان فوز الجمهوريين، هبط مؤشر "ناسداك" الذي يقيس أداء أسهم التكنولوجيا، بنسبة 14 في المئة. كذلك سجلت أرقام استطلاع الرأي تراجعاً ملحوظاً لثقة المستهلكين الذين يعتقدون ان الاقتصاد الأميركي يتجه نحو تضخم يؤدي في النهاية إلى هبوط اضطراري يعقبه ركود عام. ومن المؤكد أن هذا التوجه الاقتصادي سيصطدم حتماً بمعارضة الديموقراطيين في مجلسي النواب والشيوخ، لأن الخفض الضريبي الضخم سيؤدي في مرحلة الركود إلى زيادة عجز الموازنة، وإلى تفاقم الصعوبات أمام عملية تسديد الدين الوطني العام. ولكن الجمهوريين الذين يؤيدون خفض الضرائب وتخفيف الانفاق الحكومي على الخدمات الاجتماعية، لا يقلقهم كثيراً عجز الموازنة ما دام التمويل يتم بالاقتراض عبر سندات الخزينة. والمعروف أن هناك فائضاً كبيراً في الموازنة بحيث أن التباطؤ الاقتصادي لن يؤدي إلى عجز تضطر معه الإدارة الاتحادية إلى الاقتراض خلال السنوات الثلاث الأولى. ويرى الرئيس الجديد ان صداقة وزير الخزانة بول اونيل ستعينه حتماً على تجاوز العثرات مع رئيس البنك المركزي ألن غرينسبان، الذي يتهمه بوش الوالد بوضع سياسة مالية ساهمت في اسقاطه خلال معركته الانتخابية ضد كلينتون. ومع ان غرينسبان يحاول دائماً الترفع عن أجواء الانحياز السياسي، إلا أن الجمهوريين يتهمونه دائماً بالتعاطف مع مواقف الحزب الديموقراطي، ويتخوفون من التوجيهات التي يضعها على برنامجهم الاقتصادي. ومثل هذه التوجيهات تؤثر بالتالي على الاقتصاد العالمي بسبب حجم الاقتصاد الأميركي الذي يشكل ثلث اقتصاد العالم. من هنا القول: "إذا عطست الولاياتالمتحدة، فإن العالم سيصاب بالزكام". وتفادياً للسقوط في متاهات تجاذب الحزبين، يسعى الرئيس بوش إلى بناء تحالفات حزبية مع الديموقراطيين كدليل على رغبته في معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، قبل الانصراف إلى التعامل مع النزاعات السياسية الحساسة التي يزيد عددها على 68، حسب دراسة أعدتها له "مؤسسة مجلس الدفاع القومي". وتُعتبر قضية الشرق الأوسط الأكثر خطورة نظراً لتداخلها العضوي مع نزاعات أخرى مرشحة للانفجار على حدود دول نفطية مثل العراق وإيران. الإدارة الأميركية الجديدة تنتظر نتائج الانتخابات الإسرائيلية قبل الدخول في عملية ترميم مشروع السلام المنهار، علماً بأن أرقام استطلاعات الرأي ترجح احتمال فوز ارييل شارون. ويتوقع وزير الخارجية كولن باول أن يعلن زعيم ليكود إلغاء اتفاق أوسلو وكل ما نتج عنه من التزامات تجاه واشنطن. أي الالتزامات التي ربط بواسطتها حزب العمل العلاقات مع كلينتون بحيث أصبح التقدم في المسيرة السلمية هو معيار التحالف. ويرى شارون ان باراك اعطى سورية ولبنان والسلطة الفلسطينية حق الفيتو على العلاقات الأميركية - الإسرائيلية عندما ربطها بموضوع تقدم التسوية السلمية. لهذا السبب تراجع كيلنتون عن وعده برفع مستوى العلاقات إلى مكانة "الحليف الاستراتيجي" لأن باراك خذله في المفاوضات. والثابت ان زعيم حزب العمل حاول خلال العام الماضي اقناع الرئيس الأميركي بضرورة الفصل بين السلام وبين مستوى العلاقات الاستراتيجية، إلا أن كلينتون رفض المس بهذه المعادلة حرصاً على ما وصفه بصدقية دور الوسيط النزيه. ويتوقع المراقبون في حال نجح حزب ليكود، أن يطالب شارون بالافراج عن رزمة المساعدات العسكرية التي أوقفها الكونغرس بعد اكتشاف صفقة بيع طائرة "فالكون" للصين يوم افتتاح قمة "كامب ديفيد" الثانية. وطلبت إدارة كلينتون من إسرائيل التوقيع على اتفاق يسمح برقابة أميركية على بيع الأسلحة لأربع دول تعتبرها مقلقة هي: الهند وباكستان وروسيا والصين. ورفضت حكومة باراك يومها التقيد بهذا الشرط، الأمر الذي يعزز الاعتقاد اليوم بأن شارون سيحذو حذوها، وان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد لن يفرج عن الصفقة. عندما أُعلن فوز جورج دبليو بوش بالرئاسة أعرب ايهود باراك عن ثقته باستمرار "العلاقة الخاصة"، وقال في رسالة التهنئة: "إن الرئيس المنتخب سيعزز العلاقات الأميركية - الإسرائيلية التي نمت في ظل القيم الواحدة والمصالح المشتركة"، بينما رحب ياسر عرفات ب"النبأ المفرح" مطالباً بوش الابن باقتفاء خطوات والده الذي دشن عملية السلام في مؤتمر مدريد، وكان أبو عمار يشير إلى مفاوضات عام 1991 التي أفضت إلى اتفاقات أوسلو عام 1993. ويرى العديد من المحللين أن إرغام اسحق شامير على الاشتراك في مؤتمر مدريد أدى إلى استنفار "اللوبي اليهودي" لاسقاط بوش الاب وتأمين الفوز لمنافسه كلينتون. ومع ان الأحزاب الإسرائيلية كانت تفضل نجاح آل غور ونائبه ليبرمان بسبب تعاطفهما السياسي مع رغبات الدولة العبرية... إلا أن فوز بوش لن يضعف الروابط العسكرية والعلاقات المميزة المعقودة بين الدولتين منذ نصف قرن. وربما يكون مصدر الاهتمام مختلفاً لأن سياسة بوش تجاه إسرائيل ستكون خاضعة للمصالح الاستراتيجية في الشرق الأوسط. وبما ان نفط الخليج وأمن المنطقة يمثلان ركيزة هذه المصالح، فإن التعاطي مع مشروع السلام سيكون خاضعاً لاعتبارات الربح والخسارة. من هنا كان التردد في اتخاذ أي خطوة يشتم منها أن ادارة الجمهوريين سترث دور الوسيط الديموقراطي وتكمل ما بدأه كلينتون، خصوصاً وأن تركيبة الادارة الجديدة جاءت مختلفة عن تركيبة الادارة السابقة التي نالت فيها اسرائيل حصة تزيد على حصة أميركا. ولقد أعربت الأحزاب الاسرائيلية عن خيبة أملها من التشكيلة الحكومية، بسبب استبعاد عناصر معينة من مركز القرار، وقالت صحيفة "هآرتس" ان بوش سيوقف الاتصالات الهاتفية الاسبوعية التي كان يجريها كلينتون مع باراك. كما سيوقف أيضاً الأوامر السياسية التي كانت تصدر باسم البيت الأبيض لمساعدة اسرائيل عبر "ممثليها" الكثر مثل وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت ومنسق عملية السلام دنيس روس. والتغيير الجديد لا يشمل طاقم الحكم فقط، وانما يشمل اسلوب التعاطي مع الأزمات الخارجية المنوطة بأربعة مسؤولين كلفهم الرئيس هندسة السياسة الخارجية، هم: وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وزير الخارجية الجنرال كولن باول، مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس ومدير وكالة الاستخبارات المركزية. وسيعمل الرئيس بوش كحكم وكمقرر بين توصيات الأربعة، الأمر الذي يضفي روح المشاركة على مختلف القرارات المهمة. والملاحظ انه روعي في تأليف الادارة موضوع التعويض عن عدم خبرة بوش في شؤون الحكم. ويمكن تلخيص هرمية الادارة بثلاث دوائر محيطة بالرئيس: الدائرة الأولى تتألف من شخصيات ذات خبرة سابقة انتقاها الرئيس من مجموعة خدمت مع والده ومع الرئيس فورد، بينها: ديك تشيني نائب رئيس عمل كرئيس موظفي البيت الأبيض في عهد فورد، وكوزير للدفاع في عهد بوش الأب. ثم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الذي خدم كوزير للدفاع ايضاً في ادارة فورد 1974، وكان يومها أصغر وزير دفاع عرفته الادارات الأميركية. ثم وزير الخزانة بول اونيل. هذه الدائرة تتألف من شخصيات يصح فيها وصف اعضاء مجلس ادارة شركة اشتهرت بالتسويق وتقديم الخدمات. ذلك ان نائب الرئيس تشيني يدير شركة لخدمات النفط تسمى "شركة هاليبرتون"... وزميله وزير الخزانة اونيل استقدم من رئاسة مجلس ادارة شركة "الكوا" للالومنيوم... ووزير الدفاع رامسفيلد جيء به من شركة "سيريل" لصناعة الأدوية. وكل ما يعرف عن هؤلاء الثلاثة انهم يمثلون التيار المحافظ جداً داخل الحزب الجمهوري. وهو تيار متنام يقف عند حدود دائرته الثانية وزير الخارجية الجنرال كولن باول، ومستشارة الأمن القومي رايس. والطريف ان هذا الفريق لا يرى حلولاً للأزمات إلا من الزاوية العسكرية الأمنية، على اعتبار ان الخمسة خدموا في البنتاغون، وتعاطوا مع أزمات كبرى - بينها أزمة حرب الخليج - من موقع المحافظة على سلامة المصالح الوطنية. لهذا السبب تعاونوا على احياء مشروع "حرب النجوم" الذي أقلق الصين وروسيا بسبب التكاليف الباهظة التي ستخصصها الدولتان لسباق التسلح. الدائرة الثانية تضم شخصيات ناجحة سبق لها ان تعاطت بالشأن العام ان كان داخل الكونغرس أم خارجه، مثل وزير الصحة تومي طومسون وريث دونا شلالا ووزير الطاقة سبنسر ابراهام من أصل لبناني ووزير العدل جون اشكروفت ووزيرالداخلية غيل نورتون. ويتبين من مراجعة سجلات اعضاء طاقم الادارة ان الرئيس بوش انتقى من المحافظين أصحاب الخبرة لأنه سيدير عملية الحكم بواسطتهم، بعد ان يحدد لهم الأهداف والمهمات. وقد يكون لهذا الاسلوب حسناته وفوائده على المستوى الاداري، ولكنه اسلوب خطر إذا ما تعرض لمواجهة الأزمات الصعبة. والسبب انه يعزز حجم الخلاف بين الاقطاب المتساوين في الفهم والنضوج والتجربة والقدرة. عندئذ يضطر الرئيس لأن يلقي بثقله في سبيل تدارك الخلاف بين متساوين يشعر كل منهم ان خياره أفضل من خيار الآخر. يبقى سؤال أخير: هل يتأثر الرئيس الابن بمواقف والده واسلوبه، خصوصاً أن ادارته تضم أهم الذين خدموا في الادارة الجمهورية السابقة مثل ديك تشيني وكولن باول؟! من الصعب الاجابة عن هذا السؤال قبل مرور فترة مئة يوم تعتبر فترة الاختبار والتقويم. لكن المسؤول في الغالب يبقى أسير الماضي حتى لو بدّل موقعه وغيّر أداءه. وربما تكون أوزار حرب تحرير الكويت وما تركته من تداعيات على الساحتين الاقليمية والدولية، هي المؤشر لنمط تعامل الادارة الجديدة مع أزمات مشابهة. وينتظر المراقبون الخطاب الذي سيلقيه وزير الخارجية كولن باول في احتفالات الكويت يوم 25 شباط فبراير المقبل، بغرض استكشاف موقف الادارة حيال النظام العراقي، خصوصاً أن الجنرال باول سيحضر الاحتفالات ممثلاً للرئيس بوش الابن، وذلك بحضور رئيسه السابق بوش الأب ومارغريت ثاتشر رئيسة الحكومة البريطانية السابقة. وقد يكون لهذا الحضور دلالات سياسية معينة كأن الخلف سيكمل مهمة السلف. أو كأن التعاطي مع الأزمات الخارجية سيتم بالأسلوب الذي يعتمده وزير الدفاع رامسفيلد، وهو أسلوب قال رامسفيلد انه نقله عن آل كابوني، زعيم "المافيا" التي روعت سكان مدينة "شيكاغو". يقول آل كابوني: يمكنك الحصول على الكثير إذا أنت استخدمت الكلمة الهادئة مرفقة بالمسدس... أكثر بكثير مما تحصل عليه بواسطة الكلمة المجردة فقط! * كاتب وصحافي لبناني.