تُرى هل ألهى الكاتب وحيد حامد الناس عن قضية فكرية أساسية ودَّ أن يطرحها من خلال هذا المقدار غير المألوف من التعري والعبارات والمواقف التي احتشد بها فيلم "سوق المتعة" لسمير سيف؟ خرج الناس من الصالات، وفي ذاكرتهم البصرية والسمعية، مجموعة من المشاهد لأحمد أبو المحاسن محمود عبدالعزيز وهو مستلب أمام جسد "العاهرة" أحلام إلهام شاهين، طالباً منها ان تكشف عن جسدها، بحسب القطع التي يود ان يراها، على رغم انها أشادت به قبل دقائق كرجل لم تعرف له مثيلاً. ومن المشاهد التي سيتذكرها الجمهور طويلاً التفاصيل الدقيقة للرجل وهو يتبول، ويشعر بلذة خارقة كأنه يمارس الجنس، وعبارات عن السجين الفحل الذي كان يصر على ممارسة الجنس مع كل سجين مستجد من أجل إذلاله، وجعله في حال خنوع وطاعة دائمة له خلال اقامته في السجن. الا ان كل هذه المشاهد تبددت من أذهان قلة من المتفرجين أمام خاتمة مفاجئة وسريعة دفعت الى السؤال عمن يكون ذلك الرجل الغامض فاروق الفيشاوي. ومن يكون الرجل الكبير حمدي أحمد اللذان يترأسان مؤسسة ضخمة مجهولة الهوية، وبالغة القوة، يمكنها ان تغير من مصائر الآخرين، وعليها ان تقدم عطاياها الى بعض البشر بلا حدود، شرط ألا يسألوا؟ فقط عليهم الطاعة، وأن يسيروا في الحياة مدهوشين، من دون ان يسألوا، حتى اذا فعلوا ذلك، ولو في شكل عابر جداً، وربما قابل للتراجع، انقلبت عليهم الموازين، واعتقلوا، وأعلنت نهايتهم الحتمية، بلا اي مبرر، وحوسبوا قبل ان يموتوا. وكما في النهاية، وأيضاً البداية الغامضة، يحتمل الفيلم عشرات التفسيرات، عن علاقة الانسان بالكون، وليس بعض التفصيلات في الشريط الا لجذب الجمهور للمشاهدة، اذ ان هناك بعض الجمل الخاصة التي يتبادلها الأشخاص، والتي تعكس ان الفيلم له مضمون خلقي. وكي يمكن التفسير في شكل مؤكد، فإن وحيد حامد في فيلمه "كشف المستور" لعاطف الطيب عام 1995، كان يناقش في شكل واضح علاقة جهاز استخبارات بعملائه، وهو من أجل التغلب على الممنوع تصرف في شكل طبيعي، واطلق اسم الاستخبارات على ما أطلق عليه "المؤسسة"، واستطاع المشاهد، في ذهنه، ان يبدل العبارتين كي يرى الفيلم من الزاوية التي يراها الكاتب. وفعل الكاتب الشيء نفسه هنا، فهو لا يريد ان يتحدث عن الكون، أو الحياة عموماً، لعدم إثارة الممنوعات من حوله. ولكن لماذا لا يطلق تسميات مختلفة من طراز "الرجل الغامض" و"الرجل الكبير". وهو في المقابل يدخل أحياناً الى الموضوع مباشرة، حين يتحدث عن خروج سيدنا آدم من الجنة عقب عصيانه، ويذكر انه يود دخول الحياة كسوق للمتعة، ويذكره بشجرة التفاح التي أكل منها آدم وزوجته. والغريب في الفيلم أن عبارات يتم تبادلها باعتبار أننا كلنا نعيش في سجون، سواء السجن المغلق الجدران، أو سجن الحياة المفتوح، مثلما ردد شوقي سعيد طرابيك حين قال: "كل واحد وله سجنه". الرجل الغامض ينتشل أحمد أبو المحاسن من مراجل متقدة، عاش فيها، واستسلم من دون مقاومة. فهو، كما أطلق عليه احد مسؤولي السجن السابقين، من عيّنه "عجين السجن"، أي أولئك الأشخاص الذين عليهم الطاعة، و"ينهرسون" داخل نسق الحبس من دون أي تمرد، أو رغبة في الخروج من المألوف. ويتحولون مع مرور الوقت عجينةً سهلة التشكيل، ويتلذذون بهذه الهوية الى درجة أنهم عندما يخروجون من بين الجدران، ينظرون الى الحياة بسلبية ويحاولون استعادة سجنهم بكل ما فيه من وسائل إذلال، كأنهم ساديون على طريقتهم. إذاً فالرجل الغامض، انتشل شخصاً، ليس عليه سوى الطاعة العمياء، لا يفكر كثيراً، ولا يمكنه ان يرفض،يقبل كل الظروف المحيطة به، وان لم تكن تليق به. فقد تحول من "عجين السجن"، الى عجين للحياة يتماشى معها، بمفهومها. فبعد خروجه من السجن، يقبل ان يعمل في مستوقد هو الجحيم الدنيوي، ليكون له مكان ينام فيه، ويعيش في ظروف حياتية أشد سوءاً مما كان في السجن. فالمستوقد مكان يقع في أعلى المدينة، يتم فيه طهو الفول المدمس، من طريق مواقد تعمل بمخلفات المدينة، واذا تعطل يوماً، على ما يقول صاحبه، لن يتناول أكثر من نصف سكان العاصمة افطارهم. وعليه، صار احمد ابو المحاسن عجيناً للحياة، مثلما كان عجيناً في السجن، ونحن لا نعرف له جذوراً بالمرة. لكن هناك عبارات يرددها نعرف من خلالها انه كان متفتحاً على الحياة، قبل عشرين عاماً، وأنه اتهم ظلماً في قضية تهريب كيس مخدرات، فحكم عليه بالمؤبد، وأنه على رغم حسن سلوكه، وهذا غريب، أمضى مدته كاملة، غير منقوصة، علماً ان هذا لا يحدث خصوصاً بأصحاب السلوك الحسن. وكان يعمل في مطبعة عاملاً بسيطاً، ولكن ليست هناك اشارة بالمرة الى جذوره، أهلاً أو أسرةً، سوى شوقي عامل المطبعة الذي كان يعمل معه، والذي اواه ليلة، ثم ذهب به الى المستوقد ليعمل فيه. وهذا الرجل كان يوماً ما عاملاً مثالياً، صار سجيناً مثالياً، على رغم أن المسجون الكبير سامي سرحان لم يتمكن من اغتصابه، لأنه تبول امامه، وهو في الحياة يتحول مواطناً مثالياً، يذهب الى القسم بين حين وآخر، لتسديد ما عليه من مراقبة، ويلمع وينظف دورات المياه في قسم الشرطة، على أحسن ما يكون، ليس لأنه كان سجيناً مثالياً، بل أيضاً لأنه كان أحسن من ينظف دورات المياه في السجن. وهو بعد خروجه يكون مثالياً في كل شيء، في علاقته بالمندوبين اللذين يمثلان المؤسسة العليا الغامضة، وأيضاً بالعاهرة التي التقاها، وبصديقه شوقي الذي أحسن استقباله. وستبقى جريمته الكبرى انه تجرأ، وسأل عمن يكون الرجل الكبير، حين طلب منه علاء الزيني ابراهيم صالح ان يقابل هذا الرجل. بعيداً من الدهشة نحن اذاً امام فيلم مليء بالتساؤل. قد نتصور أحياناً أنه فنتازيا، لكن بطله رجل يخلو تماماً من الدهشة. قد يتلقى خبراً عجيباً انه، وهو المعدم، صار يمتلك سبعة ملايين جنيه، عليه ان يتصرف بها كما يشاء، يستغرب بعض الوقت، وأمام جملة غير حافلة بأي منطق عن سبب هذه الثروة التي جاءته عبر رجل أطلق على نفسه صفة "مصباح علاء الدين" انه تابع لمؤسسة، كانت السبب في ادخاله السجن، من طريق تبديل حقيبة وهو عائد من السفر بحقيبة فيها هيرويين، للتمكن من تهريب حقيبة اخرى فيها الكثير من الأكياس. فادخرت الشركة ما يستحق من مكافأة عن هذا العمل، واستثمار المال في أعمال تجارية محظوظة، والآن صار لابن المحاسن سبعة ملايين جنيه مليونا دولار تقريباً. لم يُدهش أحمد أبو المحاسن كثيراً أمام هذا المنطق، ولا أمام هذه الصناديق المليئة بأوراق البنكنوت، التي جاءته من طريق المؤسسة، ومعها مندوبان هما الفتاة لورا وعلاء، لتسهيل أعماله في الحياة، ولاستجابة كل طلباته، من اجل ان يعيش راضياً، شرط الا ينطق بعبارة واحدة تنم عن تساؤل عن المؤسسة، أو ان يسعى الى لقاء الرجل الغامض الذي تأفف، وهو يراه للمرة الأولى في الحمام بملابس العمل في المستوقد، وطلب منه ان يستحم، ثم اخبره بحياته الجديدة، وبعد حوار طويل، ردد له: "اذا فكرت في يوم أنك تعرف أنا مين يبقى آخر يوم في حياتك، أنا باتشاف مرة واحدة بس". ويمكن النظر الى الفيلم باعتبار اننا أمام شخص غير طبيعي. فمعظم الناس ينبذون لحظات ماضيهم وراءهم، ولا يسترجعونها بتلذذ. لكن احمد ابو المحاسن الذي تلقى الدهشة الأولى بكثير من الاستخفاف، وصار عليه ان يتغير من ناحية الشكل والملبس، لم يأتلف في سهولة مع الحياة. فأول شيء طلبه هو أن يأتي له مدير أعماله الجديد علاء الزيني بأكبر مقدار ممكن من علب السجائر، هي العملة التبادلية الوحيدة، كما عاش في السجن، وهو في ما بعد سيمنح العاهرة "أحلام" بعضاً من علب السجائر، في مقابل تمضية ليلة معه ساعة واحدة فقط جمعتهما في فراش وثير. نحن أمام رجل يتلذذ بماضيه، ويحاول استرجاعه، والعيش فيه، وهو لا يألف العالم الوردي، النموذجي الذي يعيش فيه. بعد المستوقد، وقسوته الأشد من السجن، ها هو يعيش في فندق ضخم، على طريقة "شبيك لبيك"، لكنه لا يستعذب النوم فوق سريره بجناح كبير في الفندق، مقدار رغبته في أن يتمدد فوق الغطاء داخل الحمام. ينظر الى كل الذين كانوا هناك في السجن ذات يوم بإعجاب شديد، لما كانوا يمارسونه من قسوة شديدة، سواء المساجين، أو الضباط، أو الصولات. لذا، فإنه في نهاية أحداث الفيلم، يحاول استرجاع عالمه القديم، على طريقة التلذذ بالسادية، ويأتي بكل الذين جمع صورهم في اليوم، وبمظروف احتفظ به، لا اعادة بناء السجن مرة أخرى كي يعيش لحظات ممتعة بالنسبة اليه، وقاسية علينا كمتفرجين، وأيضاً على "أحلام" التي قررت، بعدما شاهدت كيف يتلذذ بعذاباته أن تنفصل عنه، وأن تعيد اليه أمواله. ولا يمكن النظر الى فيلم "سوق المتعة" لسمير سيف، باعتبار اننا أمام مشاهد جريئة وشخص غريب الأطوار، قياساً الى مشهد النهاية الذي يمثل "الصدمة". فليس هناك مبرر قوي كي يسأل احمد أبو المحاسن عن الرجل الكبير، اذ يقرر مدير أعماله، الموفد من المؤسسة الغامضة، إغلاق كل الملفات، والانسحاب من الساحة، ليصير على أبو المحاسن أن يتلقى مصيره. هذا المصير يتمثل في وصول رجال مدججين بالسلاح الى المزرعة التي أقام فيها السجين السابق، سجنه الحالي، والقبض عليه، ووضع عمامة سوداء على رأسه، على طريقة الاعتقال، والنزول به أمام مبنى ضخم في شارع طلعت حرب، ومثوله امام الرجل الكبير الذي يمثل مؤسسة لا نعرف هويتها والذي يردد بمساعدة الرجل الغامض: "اعطيناك كل شيء، على رغم هذا سألت". فيردد السجين السابق: "أنا خالفت التعليمات كي اراك وأسألك ليه ستختفي؟". والمسخ المقصود به هنا استمر أكثر من عشرين عاماً، تتبعت فيه المؤسسة الغامضة شاباً كان مقبلاً على الحياة، مليئاً بالحيوية، حصل على "دبلوم صنايع"، وهو يعمل في مطبعة، وعرف الترحال والعمل في دول مجاورة، ووجد نفسه متهماً في قضية لم يرتكبها، وعاش في السجن عشرين عاماً. هذه المؤسسة لم تعمل في التهريب فقط، لكنها غامضة خيرية، تتبع من ظلمتهم، خصوصاً بعد خروجهم من السجن، لتمنحهم فرص العودة الى الحياة، والتآلف معها بكل قوة. ولعل احمد ابو المحاسن واحد من رجال كثر دخلوا السجن ظلماً، ولم يتمردوا، مثلما حدث في المؤسسة الغامضة في فيلم "ثوان" لجون فرانكهايمر عام 1967، اذ قررت ان تعيد تشكيل الناس، فإذا تمرد واحد منهم، وسأل يكون مصيره الموت. وعندما يمثل أبو المحاسن أمام الرجل الكبير، لا يكون امامه أي خيار، فهو سيموت حتماً، وكل ما عليه ان يتمنى شيئاً. فيطلب سيجاراً، من الذي يتناوله الرجل الكبير، وهو الذي يتلذذ عادة بتدخين اعقاب السجائر، مثلما كان يفعل في السجن، ولو كانت أمامه "قاروصات" السجائر من كل صنف. وفي مشهد سريع مفاجئ مليء بالصدمة، يقرر ابو المحاسن ان يتحول من عجين حياة السجون، الى سجين متوحش متمرد، يواجه الرجل الكبير، فيهاجمه، ويلف سلك الهاتف على رقبته، ويققز من النافذة كي يموت الاثنان معاً. أكثر من عجين واحد والغريب في الفيلم أيضاً ان أبو المحاسن ليس هو عجين الحياة وحده بل هناك أيضاً علاء الزيني والفتاة اللذان أوفدتهما المؤسسة لرعايته الأول يمارس حياته عبر كومبيوتر متقدم. فهما يطيعان وينفذان الأوامر، على غرابتها، تبعاً لما تسير عليه المؤسسة، ونحن لا نعرف اي حياة أخرى لهما. هما منفذان جيدان، لا يُدهشان، ولا يتسم أي منهما بأبعاد انسانية. كأنهما الروبوتات الصماء التي تجيد التنفيذ من خلال برمجة خاصة. فما ان يسمع علاء من ابو المحاسن رغبته في لقاء الرجل الكبير حتى تتحرك برمجته للرفض، وعدم التواصل، كي تتحرك الاحداث في ما بعد. وعلى النقيض، فإن شخصية "أحلام"، المرسومة جيداً، تمتلئ بالحياة، وهي نموذج لم نر مثيلاً له في السينما المصرية، وربما في السينما العالمية. هي موظفة آلة كاتبة، تكتب ثلاثين كلمة في الدقيقة - متوسطة بحسب الأداء المتعارف عليه - تبدو منكوشة الشعر، غير مهتمة بأنوثتها، تأخرت في الزواج على رغم جمالها، لكنها تذهب بين وقت وآخر لتمضية أوقات محددة في فراش بعض الرجال، ليس من أجل المال وحده، ولكن أيضاً بحثاً عن متعة، وتدقق في من تختار. فهي لا تود لشريك الفراش، ولو ساعة واحدة، ان يكون منفراً، يرتدي الدشداشة، أو أجنبياً لزج الجلد. تفضله ابن بلد يفهمها، وقريباً من بيئتها، وتحدد الوقت، وتطلب مبلغاً عالياً. و"أحلام" هذه تردد، وهي ترتمي في احضان الرجل الذي ترقد في فراشه، انها تود ان تتعرف اليه كي تصبح الممارسة انسانية، لا مجرد تلاقي جسدين ينشدان الشهوة. وهي تصدم عندما تشاهد خطيبها يمارس لعبة ركوب الهواء بالتلذذ بالتعذيب، وحين يقابلها وتعلن له فسخ خطبتهما، على رغم حبها له، تقول انها مارست الجنس مع الحياة، باعتبار أن الحياة والجنس استكشاف للكون، وانها تكون سعيدة وهي تنوح في جنازة، وحين تطلق زغرودة في فرح: "أنا مستعدة أعيش عمري كله، زي ما أنا عايشه دلوقتي". و"أحلام" نموذج لعشرات البنات اللواتي يعملن معها في صالة كبيرة، تأخرن في الزواج، وتخفي كل منهن عن زميلتها حياتها الخاصة، وتشبع نفسها جنسياً ومالياً بطريقتها. ومثلما أبو المحاسن نموذج لعشرات المساجين العجين، فإن "أحلام" نموذج للكثيرات من البنات عجين الحياة، وهي امرأة صاحبة موقف، عجنتها الدنيا، لكنها لم تمتثل اليها. تطلب المال من أجل ان نشتري شقة لتتمكن من الزواج، بعدما تأخرت على رغم جمالها الملحوظ. وإذا كان أبو المحاسن يمثل رجلاً غير مفهوم، غير ممنطق، يعيش من خلال المعكوس، فإن المرأة "تنهرس" داخل عجينة الحياة، ولها هويتها، وقد بدا هذا واضحاً في لقائها الأول بالرجل، حين تطلب ان تتعرف اليه فتحكي له عن نفسها، كي تتحد معه جسدياً، ولو لوقت عابر. فهي ليست قطعة من الشهوة، وتدهش جداً من قيام الرجل حين تؤدي امامه حركات مثيرة، كي يمارس عادته السرية، لكنه يردد انه سيتغير. هي امرأة صريحة، تفصح لرجل شرقي - غير منتمٍ بالمرة - ان رجالاً كثراً عاشوا في حياتها، وانها تتمنى لو تنجب لأبو المحاسن الابناء. وتقول بما يؤكد صدقها انها ستكون الأم الأفضل، والزوجة الأوفى. وهي تردد، حين تعلن فسخ خطوبتها، ان المئة ألف جنيه - مهرها - في انتظاره. وقد بدت الهام شاهين في احسن حالاتها، وهي تجسد الشخصية، خصوصاً حين تسند رأسها الى كتف الرجل، وهو يبكي، فيتغير موقفها، وتعلن له في ما بعد ان هذه اللحظة هي التي جمعتهما معاً، وجعلتها عاشقة له، وهي تردد لاحقاً "عايزة طعم الدنيا... مش طعم الجنس اللي كنت عايشه فيه". ايقاع تلفزيوني يمكن رؤية فيلم "سوق المتعة" من مناظير عدة، منها ايقاعه التلفزيوني. فالشريط الذي انتجه قطاع مدينة الانتاج الاعلامي للتلفزيون، سيؤول الى التلفزيون في النهاية، بعد عرضه السينمائي، وهذا النوع من الأفلام يعتمد في المقام الأول الحوار الممل الكثيف، باعتبار أن متفرج السينما يختلف عن متفرج التلفزيون. وبدت هذه السمة واضحة في عشرات الافلام التلفزيونية التي عرضت، بعض الوقت، على الشاشة، مثل "ناصر 56" و"امرأة تحت المراقبة، لذا يغلب الحوار على المشاهد، أكثر من لغة السينما، مثل المشهد الطويل الذي يلتقي فيه الرجل الغامض أول مرة أحمد أبو المحاسن، وأيضاً في المشهد الذي يتحدث فيه الأخير عن سمات الشخصيات التي يحتفظ بصورها في مظروفه. وهو حوار نسمعه من دون ان نرى مشاهد في الخلفية تعكس تمثيلياً ما كان يدور، مثل حديثه عن اللواء هو اسم شائع لسجين له مكانة اللواء جسده باقتدار سامي سرحان الذي يمارس العملية السوداء مع المساجين الجدد، ويفسر بتدقيق شديد ماذا تعني هذه العملية - اغتصاب المساجين الجدد - وكيف هرب ابو المحاسن منها بتبوله، وكان يمكن كسر حدة الحوار بتصوير لقطات سريعة. ولكن يبدو ان التخيل أفضل احياناً، مثلما حدث في فيلم "المغتصبون" لسعيد مرزوق عام 1985. وينعكس هذا أيضاً في تفاصيل الحوار الذي يدور في السيارة المتجهة الى المعادي. ولكن لا شك في ان وحيد حامد كاتب سينمائي في المقام الأول، وسمير سيف صناعته الأفلام. لذا نفذت هذه المشاهد الحوارية بما يكسر حدة الملل، ربما لأنها امتلأت بأمور غريبة تمثل الصدمة. والصدمة هي سمة غالبة في مواضيع وحيد حامد وحواراته، هو الذي صدمنا في نهاية فيلمي "الغول" و"البريء"، ومواضيع ضد المألوف في "اللعب مع الكبار". ولكن في "سوق المتعة" يبتعد وحيد حامد عن السياسة، ليخترق محظوراً مختلفاً، وان كان يحاول الحديث في شكل عابر عن أمور سياسية مثل الجملة التي يرددها أبو المحاسن: "الحكومة كل يوم بتتسرق، وكل هبرة أكبر من التانية". وأهمية الفيلم، في رأيي، أن وحيد حامد يجد في كل عمل جديد ما يشد الانتباه الى قضايانا الحياتية. فهو لم يفلس، وقد تصورنا يوماً حين اخترق الاجهزة الأمنية وتحدث عنها في أعمال متتالية، أنه لن يجد ما يثير شهوة المتفرج، أو الحوار الساخن، ولكن من الواضح انه هنا توغل في الجانب الآخر من موضوع شائك جداً، ودخل دائرة تستحق النقاش، وان كان غلفها بأشكال تلهي الناس كثيراً، خصوصاً الجنس. لكنه دفعهم، بلا شك، الى التفكير في هذه النهاية الغريبة. وكان السؤال هو: ماذا يقصد الفيلم بهذه المؤسسة، ومن هم هؤلاء الرجال الكبار ... والغامضون؟ * كاتب مصري.