هل درس باحث عربي موضوع السجون؟ او كتب عنه أحد كقضية مجتمعية؟ قرأنا الكثير مما كتبه حزبيون معارضون عن السجن كمسألة سياسية بطولية، ولكن، لماذا لم يكتب احد عن مجتمع السجون، ويقدم وصفاً وتحليلاً لما يجري ويدور، ويناقش جدوى عقوبة السجون، ويطلعنا على ما يناله السجين من حقوق أو مدى الاهانة التي تلحق به، ويعرفنا هل تصلح السجون الناس او تعاقبهم بالفعل ام انها أداة سلطوية فقط لا علاقة لها بالثواب والعقاب؟ ربما تكون منى فياض أول أو من أوائل من تناول السجن كموضوع للبحث العلمي والدراسة المنهجية "السجن مجتمع بري": دار النهار، بيروت، 1999 وكانت المفارقة الاخرى ان الذي درس الموضوع امرأة وليس رجلاً على رغم ان "السجن للرجال" كما في الثقافة العربية. تشير مراجع الكتاب العربية الى ان احدا لم يتناول السجن كموضوع للدراسة العلمية قبل منى فياض سوى ندوة علمية عقدها المركز العربي للدراسات الامنية والتدريب في الرياض عام 1984 او قبل ذلك وعنوانها "السجون ومزاياها وعيوبها من وجهة النظر الاصلاحية". وثمة مخطوطة كتاب لم ينشر بعد "مجتمع السجون" اطلعني عليها المؤلف عكرمة غرايبة، وهو شاب مهندس اعتقل عام 1996 بتهمة التخطيط لقتل الاسرائيليين وحكم عليه بالسجن المؤبد وأفرج عنه عام 1999 في عفو عام اصدره الملك عبدالله. والكتاب الثاني وصف ومحاولة لفهم مجتمع السجون بشقيه: النزلاء والشرطة او الادارة، وقد تكون قيمة هذا الكتاب في مخزون الملاحظات والافكار والرؤى التي جمعها الكاتب مستعيناً بثقافته الواسعة وامكاناته المتفوقة "قبل ان يسجن" في التأمل والوصف والتحليل، فقدم ملاحظات ومعلومات اولية غزيرة تصلح ان تكون مصدراً لفهم السجون، وربما فهم الدولة الحديثة. هل كان السجن فكرة ضرورية اخترعها اداري او قائد مصلح؟ ام انه فكرة مرضية ابتدعها ديكتاتور اراد ارهاب الناس وفرض سلطته اكثر مما اراد معاقبة المخطئين؟ كانت العقوبة الجسدية هي السائدة لدى العرب، ويرى روزنثال في كتابه "مفهوم الحرية في الاسلام" ان السبب في ذلك يعود الى البيئة البدوية حيث يعد السجن عقوبة على من ينفذها اكثر منه عقوبة بحق السجين. وكانت سجون الحجاج بن يوسف شبه خالية، ويرى الباحثون الغربيون ان السجن عقوبة مطورة عن العقوبات الجسدية وأكثر عدالة وملاءمة للانسان، وإن كان بعض السجناء الذين سألتهم منى فياض فضل العقاب الجسدي على السجن. اصبح التعذيب منذ منتصف القرن التاسع عشر يتناقض مع العدالة، او علامة على عنف العدالة، وصار يكفي حرمان الشخص من حريته المعتبرة حقاً وملكية خاصة، واعتبر السجن منذ تلك الفترة مؤسسة اصلاحية تهدف الى شفاء الشخص وإعادة تأهيله، وهكذا تكتب لافتات على السجون "مركز اصلاح وتأهيل" وهو الاسم الرسمي لها لدى المؤسسات الحكومية، وليس سراً انها تسمية تبعث على السخرية والاستهزاء، فلم يكن السجن في يوم كذلك في أرقى البلدان وفي غيرها بالطبع، ويميل مفكرون الى ان العقوبة لا تصلح المخطئ، وان قيمة السجن وأهميته لحماية المجتمع من تهديد بعض الناس دون ان تكون مصلحة السجناء هي الهدف المعتبر. الدراسة العلمية والاستطلاعات التي اجرتها منى فياض جاءت متطابقة مع افكار عكرمة السجين المثقف الذي كان يتكئ على جدار السجن ويفكر لساعات طويلة في عملية تمرين ذهني ونفسي، محاولاً انقاذ نفسه مما يراه دوامة اختزال وانتاج للمجرمين والمنحرفين لو لم يسجنوا لكانوا احسن حالاً. ثمة مجتمع متكامل تعيش فيه قبيلتان هما الشرطة والنزلاء ويحدث بينهما كل ما يحدث بين القبائل من صراع وتعاون وثأر. ماذا يحدث لشاب امي لا يملك ثراء داخلياً يطور دفاعاته النفسية امام ما يواجهه من تدمير لنفسه ويستنزف بقايا التحصين التي اكتسبها او ولدت معه؟ وعندما يتجمع هؤلاء الشباب في ظروف من الحرمان والزحام الشديد غير المعقول تتكون عصابات وقيادات وفئات ضعيفة تقدم خدمة للأقوياء للحصول على المال والحماية. وتنزع الخصوصية الشخصية، فيحلق شعره، ويعطى لباساً ازرق موحداً، وهو مجرد رقم يعرف به اكثر من اسمه، ويفقد ثراء الزمن ومفاجآته، فكل شيء رتيب ومحدد تماماً بقوانين وإجراءات ومسارات لا يمكن الخروج عنها، كالطعام، والزيارة، والنوم، والتحقيق، والفسحة، والمكان ثابت لا يتحرك فيه شيء، وصمم لاعتبارات امنية فقط، وتتماثل فيه الغرف وقطع الأثاث، والرائحة الوحيدة المتاحة هي رائحة الجهد البشري في اجواء ساكنة مليئة بالدخان والرطوبة. كل شيء مسطح تحت مراقبة الادارة والنزلاء، فليس ثمة سر او خصوصية، فيتحول التفكير والشعور والهواجس الى سلوك علني ايضاً، فقد قلب عالم الانسان من داخلي الى خارجي، ماذا يحدث للذاكرة، والمشاعر، والتقويم؟ وتختزل ملكية الانسان للأشياء في حدها الادنى، امتلاك الاشياء المادية او المعنوية، وكل شيء يمكن ان يصادر، ويمكن ان يتعرض للتفتيش والشتم والاهانة في أية لحظة ومن دون سبب. يجري تفتيش السجين في كل اجزاء جسمه حتى فتحة الشرج، وتقتحم السجن دورياً قوات من الشرطة تقوم بضرب جميع السجناء بفرح ظاهر ومتعة غريبة. هذا الشعور الدائم بالتهديد الذي رافق السجين يجعله هشاً ونزقاً وعرضة للانهيار النفسي والعصبي. وتروج في السجون تجارة المخدرات والممنوعات وتهرب اليها جميع السلع عبر عصابات وحلقات متعددة غامضة لكنها تنجح في النهاية. وتدير السجن مجموعات من السجناء انفسهم بتعاون في بعض الاحيان مع الادارة، وقد تكون هذه الادارة الذاتية اكثر خطورة وتهديداً من الشرطة، وقد يصل تهديدها وابتزازها الى رجال الأمن. وتحل جميع المشكلات بالعنف سواء بين الادارة والنزلاء او بين السجناء انفسهم، وقد يصلح هذا المشهد لفهم المجتمع نفسه عندما يحكم بالعنف والقهر والتجسس ألا يتحول ايضاً الى مجتمع هش متآكل؟ ماذا يحدث لرجال الشرطة الذين يعايشون السجناء طوال الوقت؟ انهم في الغالب شبان من الريف او البادية يقضون معظم اوقاتهم مع السجناء، ويقتصر عملهم على الحراسة والمراقبة، اي انهم يعيشون رتابة السجن ومحدوديته وفراغه ويخضعون هم ايضاً للاتهام والتفتيش والمعاقبة خوفاً من ان يتورطوا في شراكة مع السجناء، فهم يواجهون باستمرار اغراءات تمنحهم اضعاف دخلهم المحدود الذي لا يفي بمتطلبات الحياة فضلاً عن التطلعات الاخرى المحبطة والضاغطة. ينجو الشرطي غالباً من الاستدراج لكنه غالباً ما يكتسب عادات وصفات عدة يتشربها لاشعورياً، فهو يفقد التعاطف الانساني لشعوره المتواصل بأنه يتعامل مع مجرمين فينسحب ذلك على الناس الآخرين، ويتعامل بعنف حتى مع اهله والناس الآخرين المحيطين به، ولا يثق بالناس، انهم يتحولون عملياً الى سجناء. يعرض كل من فياض وعكرمة تجارب ومشاهدات بطريقته، ففي حين تسجل منى فياض مقابلات وتقدمها على نحو اكاديمي امين، يتحدث عكرمة بجرأة عن حالات يصعب كثيراً الحديث عنها، لكنها تحدث بالفعل. يسجن شاب في الثامنة عشرة من عمره، ويوضع في ظروف من الزحام الشديد الى درجة استحالة النوم الا على جنبه، ولا تصل المياه الى السجن لمدة اسبوع، ويشعر بألم شديد وعطش وضيق نفسي وعصبي، ثم يموت وكل من حوله يتفرج عليه، ويطلب من والدته ان تذهب الى المستشفى لتتسلمه فقد افرج عنه، وهي تذهب الى هناك من دون ان تعرف انه مات. ماذا عن الجلاد الذي ينفذ عقوبة الاعدام؟ هل من فرق بينه وبين القاتل؟ ماذا يحدث لمشاعره وعلاقته بالآخرين ومن حوله؟ يفترض انه لا يعرف الذين يقتلهم ولا يحمل تجاههم مشاعر من العداوة او الثأر، فهل يحدث لهذا السجان مثلما يحدث للقاتل الذي يكرر القتل ويدمنه؟ ثلاثة من النزلاء الاحداث "دون الثامنة عشرة" حاولوا الانتحار، ومات احدهم، وبقي اثنان في حالة سيئة جداً، يبرر احدهما محاولة الانتحار كي ينتقل الى المستشفى ويزوره اهله. احد رجال الامن اتهم بتهريب المخدرات الى النزلاء، وأثبتت المحكمة انه بريء ولكن، بعد وفاته في ظروف بالغة القسوة فقد اصيب بجلطة ربما بسبب شعوره بالقسوة والظلم، خصوصاً انه امضى حوالى خمسة عشر عاماً في الخدمة وينتظر الاحالة على التقاعد بعد شهور قليلة وهو مريض، ابتداء بالسكري. طلب الطبيب تحويله الى المستشفى على نحو عاجل بسبب خطورة وضعه الصحي، ونقل في سيارة مصفحة تتحول في الصيف الى فرن ملتهب، عدا انها مليئة بالمساجين المقيدين من ايديهم الى الخلف، ولم يكن لهذا المسكين مقعد يجلس عليه في السيارة بسبب الزحام فمدد على ارضية السيارة، وفي السجن لم يكن له مكان ايضاً، فظل ملقى على أرض السجن والناس تمر من فوقه وهي غادية رائحة من دون ان يحاول احد التعامل مع هذا الرجل الذي يحتضر. وعندما نقل الى العيادة التي لم تكن اكثر من غرفة تقدم مسكنات للألم توفي، وأظهرت المحكمة في ما بعد براءته!! السجن هو احد الاشكال الاساسية لردود الافعال الاجتماعية، وهو يسبب العدوى بين الاشقياء في داخله، ويقدم مناسبة لتشكيل جنح اكثر مهنية، ويثير مشكلة العودة مجدداً اليه، وهذا يؤدي بدوره الى ايجاد اسباب جديدة للجريمة، في المقابل يؤدي التعلق المتصاعد على المستوى الاجتماعي الى مضاعفة القوانين الجزائية، وهذه بدورها تزيد من سياق خرقها، وهكذا... الدراسات تجمع على ان السجن يخرج من الجانحين اكثر مما يستقبل، وانه يضر بالمجتمع اكثر مما يفيد. وربما يراجع الناس تجربتهم هذه التي اخترعوها كما راجعوا العقوبات الجسدية، وقد تتحدث عنه كتب التاريخ بعد مئة سنة كشيء فظيع ارتكبته الانسانية بحق نفسها، كما نتحدث الآن عن العقوبات والتعذيب التي كانت تمارس بأسلوب رسمي مقنن على انها عقوبة وعلاج للمذنبين. * كاتب أردني.