عرض في مركز الثقافة السينمائية في القاهرة فيلمان جديدان للمخرج السوري محمد ملص، ومن المهم التوقف عند هذين الفيلمين لاعتبارات عدة: أهمها ان محمد ملص، يعاني من ظروف صعبة جعلته يتوقف عن تقديم الافلام الروائية، وهي محنة تلاحق الآن مخرجين عرباً كثيرين يتجهون الى الافلام القصيرة، او التلفزيونية ويحاولون العثور، بأي شكل، على مصادر تمويل لأفلامهم الجديدة، وحين يتعثرون، لا يتوقفون، بل انهم يجدون باباً خلفياً لتقديم أفلام تلفزيونية، او تسجيلية. صحيح ان هذا النوع من الافلام ليس جديداً على المخرج، وهو الذي بدأ به حياته العملية، لكنه عاد الى السينما الروائية بعدما وجد منتجين لتمويل أعماله، احدهما في تونس والآخر في أبو ظبي. ومن المعروف ان ملص حفر مكانته في السينما العربية من خلال فيلمين: "أحلام المدينة" 1983، و"الليل" 1992، وهذا الفيلم مأخوذ من رواية للكاتب باسم "اعلانات عن مدينة" اي اننا امام كاتب، وروائي، ومخرج، وصاحب تقنية متميزة. والفيلمان الجديدان يمثلان اتجاهين مختلفين: الاول "حلب مقامات المسرة"، والثاني "فوق الرمل تحت الشمس" ومن المهم التوقف عند الفيلم الثاني، لجرأته، فهو عمل لم يجرؤ مخرج عربي ان يقدمه بأي شكل من الأشكال، بالاضافة الى أهميته الفنية. لكن هذا لا يلغي ان نتحدث اولاً عن فيلم "حلب مقامات المسرة" فهو فيلم عن مطرب حلبي معاصر شهير، في الثالثة والثمانين الآن من العمر، هو صبري مدلل الذي يغني اهم الموشحات العربية القديمة، بالاضافة الى غنائه مع منشدين وراقصين دينيين يعرفون باسم "المولوية". ولصبري مدلل صوت قوي، خال من الحشرجة التي تصاحب عادة الاشخاص في مثل هذه السن، وهو "مخلوق غنائي"، بمعنى انه قابل للغناء في اي وقت، عندما يقرأ عليك قصيدة، فإنه يقرأها بالغناء، وهو رجل مرتبط بالمدينة. ولأننا امام فيلم "بورتريه" فإن محمد ملص سجل كل ما يتعلق ببطله في اماكن عدة، ومن خلال وجهة نظر المقربين اليه من التلاميذ، كما ان المخرج بنفسه طرح اسئلة عن طفولته، وعن امه من خارج الكادر، وبدا صبري مدلل خفيف الظل في حديثه، كأنه يقول ان امه كانت تطرب لصوته، وان الليلة التي لم يمكن يغني لها فيها كانت تحرمه من العشاء ما تعشيني. واختار ملص ان يقدم هذا البوتريه بهذا الشكل الخاص به، فلجأ الى المشاهد الطويلة، كأن ترى المطرب يسير في الشارع ليلاً، بخطى بطيئة، حتى يختفي عن الاعين، او ان يؤكد لنا المخرج ان بطله لا يزال قادراً على العمل في المحل، فيصعد سلماً، من اجل ان يحضر شيئاً لزيون. وبالطبع يمكن ان نتحدث طويلاً عن هذا الفيلم، لكن من المهم ان نفرد المساحة التي تليق للفيلم الثاني "فوق الرمل.. تحت الشمس"، وفي البداية نعرف ان هذا الاسم هو عنوان قصة قصيرة ألفها مخرج مسرحي اسمه غسان في ظروف صعبة للغاية في المعتقل، حيث راح المخرج نفسه هو البطل يشرح لنا كيف كان يتحايل على الظروف ليصنع الورق ويشذب القلم. ومزج المخرج بين المتخيل، والواقع، فراح يقدم نصاً مسرحياً عن المعتقل السياسي، باعتبار انه من مساجين الرأي، وبدأ الممثلون المساعدون في تجهيز القضبان، ثم راحوا ينشرون شاشة الظل، كي نرى من خلفها بعض المشاهد المهمة التي تحدث في السجن، مثل مشهد تناول الخبز، حيث يرتبط دوماً بالسياط التي تنهال على المساجين بقسوة بادية. ونرى الام وقد طرزت للابن الغائب ثلاث بيجامات، لا تعرف متى سيعود كي يلبسها، وتبدو وحيدة في منزلها: غرفة واسعة، ونوافذه مفتوحة، كأنما سيطل الابن السجين بين لحظة واخرى من احداها. ويصور الفيلم من خلال مشاهد عدة قسوة السجن، والسجانين، هؤلاء الذين يعز عليهم ان يسمعوا المساجين يتهدجون اثناء النوم، وهناك مشهد بالغ الاثارة: تحتشد ارضية الزنزانة بأجساد المساجين، وتنطلق منهم التهجدات، كأنه طنين الذباب، تعرب عن آلامهم النفسية، ومعاناة ما يلاقونه طوال ساعات النهار. ثم فجأة تنفتح كوة في اعلى الزنزانة، ويجيء صوت الحارس الخشن: "بس" ومن حوار الفيلم القليل، او من الحكي الذي نسمعه من الخارج، يتحدث السجين/ الكاتب الى الجدران التي حبسوه خلفها، فهو انتظرها طويلاً لكي تلين، وتذوب من كثرة الانتظار، لكنها لم تصدأ، وظلت متماسكة قوية، هناك مشهد تال لهذا المشهد الذي تحاور فيه السجين مع الاسوار والقضبان، يكشف مدى ما تتسم به جدران السجن من وحشية وقسوة، فهي مصنوعة من احجار سميكة، ثقيلة، والنوافذ مغلقة بالاسلاك الشائكة، وهي مسدودة كأنها ليست نوافذ، هي ليست مفتوحة على شيء ولا يمكن رؤية ما وراءها. والفيلم يمزج بين المتخيل والتمثيلي، والواقع، بين ما يدور في الزنزانة والمشهد الذي على المخرج ان يصور فيه مسرحيته الجديدة: كيف يتم ضرب المساجين بالسياط. وتعمد ملص ان يكون المشهد طويلاً، لكي يؤكد على أسماع المسجون ايقاعاً موسيقياً بغيضاً اعتادته الأذن، فليس الضرب هو المشكلة، بل ان المؤلم هو ايقاع السوط وهو يتحرك في الهواء وبذلك فإن أي سجين يمكنه ان يتألم ويتعذب لمجرد ان يسمع صوت السوط حتى ولو لم ينزل على جسده. وفي الفيلم مقطع متكرر، بين الأم وما يدور في السجن، وهناك مشهد تحكي فيه المرأة عن زيارة ابنها، حاملة معها الزاد، واشياء عدة، والسجن الذي تزوره قلعة عالية، وهي امرأة عجوز وبالتالي فإنها تصعد حاملة بعض ما أتت به، ثم تنزل كل هذه المسافة لكي تأتي بالجزء الثاني، ثم تصعد على طريقة سيزيف، وتنزل مرة اخرى. واختتم الفيلم وقائعه بمشهد من المسرحية، لكن أهم ما جاء فيه ايضاً هو تلك العبارات التي استعارها المخرج، من كتاب ليوسف ادريس عن التجربة نفسها. قال انه في السجن تصبح كل الايام يوماً واحداً، لا غروب هناك، ولا ليل ولا نهار، وتصير الحياة يوماً طويلاً لا ينتهي أبداً.