"واصلْ تدخينَك يُغريني/ رجلٌ في لحظة تدخين" حين كتب الشاعر الراحل نزار قباني القصيدة التي تبدأ بهذا البيت، لم يكن على بيّنة من أن حب التدخين رغبة مصنوعة. فكيف والسيجارة لها سحرها، وقد عاشت طويلا جزءاً من "الصورة" التي رُسمت للرجل، ثم للمرأة، وللشاعر والفنان. فحين قُرر في فرنسا، منع التدخين في المقاهي، رُفعت في وجه القرار صور سارتر وكامو وبعض أبرز المثقفين، ومن شفاههم سجائر مُتدلية. أما حين نُزعت السيجارة من صورة مالرو، فبدا ذلك من صنف نزع تروتسكي من الصور التي جمعته بلينين. والحال أن السيجارة لم تكفّ عن التحول منذ مطالع القرن الى شيء يكاد يكون طبيعياً. فانتشارها الأول بين الجنود الأميركان ابان حرب 1914 - 1918 بدت له وظيفة بريئة هي مساعدتهم على احتمال الموت في الخنادق. وبعد وقف القتال كان أول من نشرها في الولاياتالمتحدة جنود الحرب الأولى العائدين، فيما جعلت تنتشر بالتدريج في باقي العالم. وبالتدريج ذاته كسبت لنفسها وظائف عدة حتى غدت المتناقضات لا تلتقي الا عندها. فهي، عند المدخن، صالحة للفم حين ينشف صلاحَها له بعد أن يشرب. ومطلوبة قبل النوم كما عند اليقظة. مع الشاي لا بأس بها، ومع القهوة هي شرط شارط. ويمكنها أن تمهّد لأي نشاط كما يمكن لأي نشاط أن يجد تتويجه فيها. فانتظار الطعام تلزمه سيجارة وانتهاؤه تلزمه سيجارة. وإذا غضب المرء استل سيجارة، لكنه يستلها حين تطيب جلسته. والتدخين ليس وقفاً على مكان ولا على زمان. فهو لذيذ في الصباح لذته في السهرة، وملائم للمقهى ملاءمته للمكتب. الزمان والمكان يتكيفان والسيجارة ثابت. وشأن باقي الثوابت سريعاً ما تحضر الاستدراكات الطقسية عند الاقرار بعيب من عيوبه. فحين يقال ان السجائر تثقل على الصدر، لا بد من طرد الكفر: دعك من هذا، فهي شرط لخفّة الجلسة! فالتدخين الذي يثقل على الصدر ويخفف عن المصدور، مثله مثل العناصر الأولى التي تحيي وتميت. انه كالهواء، مقيم في الأزمنة والأمكنة جميعاً. وليس قليل الدلالة الرمزية ان الدخان اذ يُنفث في الهواء، يصير أشبه بتيارٍ منه انشق عنه وتمرد انشقاق الشيطان عن ملائكة الله. والمواضع، بل المواقف، التي غدت تتشكل على هدي السيجارة عززت "طبيعية" التدخين. ومثلما نشأ للطبيعة نظام سحري نشأ نظام للسيجارة يتوزع ما بين الغيوم التي تثيرها والرائحة التي تخلّفها. واذا كانت النظرات التأملية التي تطل من وراء سُحُُب السيجارة تضاعف الميل الى التلغيز، وتضفي على المتأمل معاني غامضة ومكسّرة، فالسيجارة بين أصابع سيدة جميلة الأصابع أشبه بمؤشّر على جمالها. وهي في يد رجلٍ تنبيهٌ الى العروق "الرجالية" النافرة والمتعبة. أما اصفرار الأصابع والأسنان، فأزهد أثمان ما تُحدثه الطبيعة. ولئن غنى الفرنسيون مع ايف مونتان "سيجارة بعد فعل الحب"، وجد اللبنانيون في رخص السجائر المتدفقة على بلادهم دليلاً على طبيعية الاجتماع من حول السيجارة، فغنوا لزائرهم "مش رح بتكلّفنا كتير، فنجان قهوي وسيجاره". وتوكيداً لهذه الطبيعية بنفيها، سرت دعابة برنارد شو: "أسهل الأشياء ترك التدخين. لقد تركته خمسين مرة". لكن برغم هذا كله يبقى الطبيعي مصنوعاً، كما يقول التاريخ الحديث للفائف، حيث تولت الدعايات رفع المبيع درامياً منذ منتصف القرن. فهنا أيضاً فعلت الصورة فعلها الفتّاك على ما تدلنا، مثلاً، تجربة "مارلبورو"، احدى أنجح سجائر أميركا والعالم. لقد أريد في العشرينات طرحها سلعةً مرتفعة الثمن، اريستوقراطية ترد الى الدوق مارلبورو وتخاطب الذوق النسائي. يومها كانت النسوة قد كسبن للتوّ حق التصويت، فشكل الانجاز مدخلاً الى تأكيد ذواتهن المستقلات عن الرجال، وكان استحضار السجائر بعض علامات الاستقلال. لكن في الخمسينات، ومع استقرار مبيعها، شاءت مارلبورو، مستفيدةً من اختراع الفيلتر، أن تخاطب الرجال. وبجهد مئات العلماء والتقنيين والفنانين خرجت على العالم باللونين الأحمر والأبيض المستوحيين من معلّبات حساء كامببل، واختارت رمزاً للذكورة الكاوبويَ الهامشي ذا الوجه المتعب إنما الجميل، والنظرات الشزراء السارحة تأملاً في أفق بعيد. كذلك اخترعت لنفسها عالماً خرافياً هو "بلاد مارلبورو" النظيفة والصحية التي لا تعرف التلوث. فلما استقرت المبيعات مجدداً في الستينات، جاء الانقاذ من السينما: ففي فيلم "الرائعون السبعة" الذي مثّله يول براينر وستة من المشاهير الآخرين، ظهرت المارلبورو بين أصابع الأبطال الذين أنقذوا فلاحي المكسيك البؤساء، فارتفع المبيع مؤدياً الى تجاوزها سائر الأصناف المنافسة. بيد أن السنوات الأخيرة بصعود الثقافة الصحية للطبقات الوسطى، وتنامي الوعي البيئي، بعد ظهور الدفاع عن المستهلك، خلقت ما يشبه الاجماع على أن التدخين لعنة، فراحت تتهدّم العناصر المُشكّلة لصورة السيجارة. وتم الاستناد الى بعض ما اكتشفه الطب، وأهمه ما حصل في الولاياتالمتحدة في 1953 حين جُرّبت السجائر على الفئران فتبين أنها تتسبب حكماً في سرطان الرئة. وما أن انضاف القلب الى لائحة الضحايا المحتملين حتى نزلت المدارس الى الساحة. وفي بعض البيوت تحول الأبناء مدفوعين بتحذيرات معلميهم، الى رقباء مزعجين على تلذذ أهلهم بالسيجارة. أما المثقف القديم الذي كانت تنفتح أمام عبوسه أبواب الجامعات ومراكز البحث كلما مجّ سيجارةً وتأمل، فغدت أبواب المؤسسات، لا بل الدكاكين، تُغلق في وجهه اذا ما ضُبط متلبّساً بسيجارة. لكن في غضون هذه الحملة، وآخرها ما دار قبل ايام في مجلس الشيوخ الأميركي، ظهرت حقيقة خطيرة: إن 90 في المئة ممن يدخنون تعلموا "المهنة" قبل بلوغهم العشرين، وتحديداً ما بين ال12 وال18. أما الذين بدأوها في سن أكبر ف90 في المئة منهم تركوها بعد حين. وهذا يعني ان دعاية السجائر الصانعة للصور غدت تتوجه أساساً الى الصغار كأنصار مضمونين وزبائن مستقرين، فضلاً عن كونهم السوق التي يتم بها التعويض عمن يتخلى ومن يموت. وللسبب هذا بذلت المدارس ما بذلته، لكنْ للسبب اياه جهدت شركات التدخين في اقناع الموزعين بأن يُنشّطوا مبيعاتهم في أقرب النقاط الى المدارس والكليات وأماكن السكن العائلي. وما زاد "الاهتمام" بالصغار أن استشراء الثقافة الصحية زوّد الكبار بمناعة ضد الصورة المحببة للتدخين، بينما لم تعد المرأة متشوّقة الى توكيد استقلالها وخصوصية شخصيتها مما حققت معظمه الحركات النسوية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد: فمخاطبة الصغار فيما تتقلص الفوارق الوظيفية بين الجنسين، يعني مخاطبة للجنسين معاً. فالبنات اليوم يلبسن كالصبيان ويحرزن نتائج مدرسية أفضل منهم، لكنهن أيضاً يدخنّ مثلهم. وفي أعمار أكبر، ولتشابه ظروف العمل، بدأت الأمراض التي كانت من قبل "رجالية" كالانهيار العصبي والجلطة القلبية، تصبح نسائية كذلك. وقد بدأ الاعلان بالتحول نحو الصغار أواسط السبعينات حين نجح التلفزيون البريطاني للمرة الأولى في تحدي صناعة التدخين، فعرض برنامجه المُعنْوَن "الموت في الغرب" ونجح في خفض استهلاك العائلات الغربية، ما خلا العمالي والملوّن منها. واكتسب هذا المستجد معناه من ان السجائر كانت تقليدياً مادة خصبة للاعلانات في المجلات والصحف. ولا زلنا نتذكر الصفحات الاربع الملونة في "تايم" و"نيوزويك" اللتين تحاشتا كل نقد للتدخين وشركاته. ذاك أن عائدات الاعلان كانت أكبر من أن يتجاهلها الاعلام، وبلغ الأمر بالشركات أن ذهبت بعيداً في الوقاحة، فكان مثلاً الشعار الاعلاني ل L & M "ما أمر به الطبيب بالضبط". وفي الستينات لم يتردد بعضها في انشاء مختبرات واستجلاب علماء للبرهنة على أن التدخين لا يؤذي. ووصل البعض الى تزوير معلومات واخفاء أخرى. وبدورهم عمل عدد من النجوم على تعزيز الصورة الزائفة باضافة صورهم هم اليها، فوافق سيلفستر ستالوني، بين من وافقوا، على أن يدخن سيجارة B & W في خمسة من أفلامه مقابل 500 ألف دولار. ولاظهار التدخين صحيا، تم اللجوء الى رياضيين يكونون أبطالاً لاعلاناته! و"الاهتمام" بالصغار بديلاً، لا يكتم بُعداً سيكولوجياً صريحاً. فنظرية "الثمرة المحرّمة" تعمل هنا بنشاط: فإذا صح أن متعة التدخين بعضها متعة اخفاء عن عيون الأهل، أصبحت السيجارة رمز النزوع البَنَوي للاستقلال، هي التي يتواضع الآباء والأمهات على تحريمها عن أنجالهم. ولما كانت سن المراهقة سنَ الميل الى تمايز صاحبها، استغلت اعلانات السجائر هذه الحاجة موفّرةً للصغار طريقة تدميرية في التمرد، بديلاً عن احتمالات ايجابية قد تشكلها الرياضة أو الموسيقى أو السياسة. فحين انكشف في 1994 أن التبغ يفضي الى الادمان، وان "الحاجة" مصنوعة الى حد بعيد، تأكد كم أن تلك الاعلانات الموجهة الى هؤلاء هي من صنف الحبائل التي أريد ايقاعهم بها والتغلغل الخبيث تالياً في دواخل أجسامهم. لكن هذا بدوره ظل قابلاً للتطويق. فالتنبيه الى مخاطر التدخين على علب السجائر لم يعمل في اتجاه واحد. ذاك أن صورة الموت والمرض يمكن ان تغري شبيبة قلقة ومضطربة، بقدر ما يمكنها ان تخاطب غرائز فعلية كغريزة الموت ونوازع حقيقية كالمازوشية. ألا يمكن، مثلاً، رصد بعض معالم هذا الميل في اعتماد الشبيبة لجيمس دين أيقونة لهم، هو "المتمرد بلا قضية" والذي قضى في ريعان شبابه بحادث سيارة شهير؟ أو في غرز الجلد بالحلقات المعدنية؟ هكذا ظهرت علب دخان صريحة التوجه الى الشبيبة وجدت في الجمجمة والعظمتين المتصالبتين شعاراً لها! وما طُرح في أيار مايو الماضي على مجلس الشيوخ هو أن تموّل صناعةُ التدخين الحملات والاعلانات المضادة للسجائر، وتدفع لمحامي المصابين بعد خفض قيمة تقاضيهم، فضلاً عن التعويضات للمرضى. فاذا أضفنا الزيادةَ المقترحة على أسعار التبغ وعلبه، ارتفعت المبالغ المترتبة على الشركات الى 516 بليون دولار على مدى خمس سنوات. والاقتراح هذا المعروف باسم "لائحة السناتور ماكاين"، لم تُعدم الشركات ومناصروها حججهم المضادة له: فالمبلغ الكبير ذاك انما هو، عندهم، ضريبة سوف يتحملها ذوو الدخل المتواضع، لكنه أيضاً سبب لظهور سوق سوداء للسجائر، ومبعث على نشأة بيروقراطية موازية جديدة هي أكثر ما يكرهه الأميركان. بيد أن الصراع الذي دار كان ثقافياً في أحد أوجهه. فالحلف الذي وقف في مواجهة كلينتون يتشكل من طرفين أقصيين: اليمين الجمهوري واليسار الليبرالي اذا صحت العبارة. الطرف الأول وثيق الارتباط بمصالح الشركات، لكن الثاني تقوده براليته القصوى الى رفض اي اجراء قسري يكاد يكون الغائياً، حيال كل نشاط أو كلام غير عنفيين. فإذا صح ان التدخين مضرّ، فما لا يجوز هو اتباع سياسة استئصال حياله وحيال صورته عبر الاعلان، هو المقيم في مكان عميق من النفس والحياة. ولئن تراجعت مفاعيل صورة التدخين بين الرجال والنساء من دون اللجوء الى المنع، فلماذا لا تتراجع الصورة ذاتها بين الصغار باجراءات أشد تركيزاً من دون الوقوع في "الانقلابية". ثم اذا كان من حق الفرد أن يقرر ما يشاؤه لحياته، بما فيه انهاؤها، فأي حق للآخرين في منعه من ذلك؟ وفي آخر المطاف فمثقفٌ أميركي هو الذي سبق له أن رأى في التنبيه الى مخاطر السجائر كما يُكتَب على العُلَب، حتى لو استخدمتها صناعة السجائر بطريقتها، رمزاً لكل ما يميز العقلية الديموقراطية عن تلك اللاديموقراطية. ففي عرف الأخيرة أن ما هو ضارٌ ينبغي منعه وكفى المؤمنين القتال. أما في نظر الأولى فالحياة وخياراتها أشد سيولةً وتعقيداً من ذلك "الصواب الرشيد". هذا ما يقوله عتاة الليبرالية. أما عتاة التدخين، وأنا منهم، فلسان حالهم دعابة ذاك المدخّن العظيم الذي قال مرةً: "لقد قرأت الكثير الكثير عن مضارّ التدخين، حتى اقتنعت بالتوقف عن... القراءة". × كاتب ومعلّق لبناني