كيف تكون الكتابة عن عمل يشبه قلقنا ويثير أسئلتنا ويطرح همومنا السياسية والحياتية؟ وكم يلزم الابتعاد عنه لنقده بتجرد كاف، ومناقشته على أنه امتحان لصاحبه للحكم على قدرته على رسم حيز خاص به في عالم السينما وهو تلميذ أستاذ كبير؟ تطرح هذه الأسئلة عند الخروج من فيلم "العاصفة" العمل الأول للمخرج خالد يوسف مساعد المخرج يوسف شاهين. بدأ يوسف جريئاً في اختيار الموضوع الرئيس ل"العاصفة". فهو تناول حرب الخليج الثانية، وما أحدثته من شرخ في الجسم العربي. وأعلن منذ المشهد الأول انتماءه القومي العربي، واهتمامه بالانتفاضة الفلسطينية. يدور الفيلم في فلك الأحداث التي عاشها العرب في المرحلة التي سبقت بداية هذه الحرب، ويروي تمزق الأمة من خلال اضطرار أخوين الى التقاتل. لكن "عاصفة الصحراء" لم تبدأ فقط في تلك المرحلة، على أن هذا التمزق بدأ قبلها، حين غادر والد هذين الشقيقين منزله تائهاً، غاضباً من زيارة الرئيس انور السادات لإسرائيل عام 1977، ورفع العلم الإسرائيلي على السفارة في القاهرة لاحقاً. بل إن قصة هذا التمزق مرتبطة بأكثر من نتيجة لسياسة المسؤولين العرب. من هنا جاء نجاح الفيلم في طروح أكثر من موضوع: هو حكى قصة الأب المقاوم، وتواطؤ رجال السياسة والمستفيدين من الانفتاح الاقتصادي ليعلنوا "الحب الممنوع"، وكانت جرأة المخرج - المؤلف في الحديث عن سياسة المسؤولين العرب الخاطئة، وعن غياب الحريات الإعلامية. وإذا كان غير مشهد في الفيلم عبر عن الحال السياسية العربية السيئة في نواحٍ عدة، يتوقف الإعلامي العربي ملياً، أمام مشهد منع عرض الاحتجاجات الطالبية في التلفزيون المصري، لتعرضها قناة "سي ان ان"، يتوقف ليضحك من سخرية الموقف، متألماً على حريته المنقوصة. ولا يغيب عن المخرج الذي يعبق فيلمه بالانتماء العربي بإدانة السياسة الأميركية، ومعاداة إسرائيل وبإدانة أمرين مهمين: احتلال الكويت، وتدمير العراق. وإذا كان موضوع الفيلم أعجبنا، إلا أنه أسفر عن بعض الظلم في حق الجانب الفني. ففي متابعة الحوادث التي أجريت مع يوسف، دارت كل الأسئلة على آرائه السياسية، ورسالة الفيلم السياسية، وما قد يثيره من تساؤلات ونقاش. فأغفل الكلام على أن الفيلم جميل على المستوى الفني أيضاً، فلغته سلسة وسهلة، لغة من الحوارات المصرية. وعلى رغم أنه سياسي من ألفه إلى يائه، لم يغرق في ديماغوجية الشعارات، إذا صح التعبير، ولم يسجن في أطرها، بل استخدمها وسيلة من وسائله التعبيرية، فأسقط الطنّان الفارغ منها، مكتفياً بالصادق الذي يؤمن به المشاهدون حقاً. من خصوصيات الفيلم الفنية اعتماده اللغة الإنسانية وتركيزه على إظهار الأحاسيس وعدم إطالته المشاهد والحوارات وتضمنه الأغاني الجميلة. وهنا لا بد من الإشارة الى أغنية "ده ده ايه" التي أداها هاني سلامة وحنان الترك والطابع المرح الذي أسبغته مع بعض أجزاء من الحوار، على الفيلم. ببساطة استفاد يوسف من عناصر صناعة الفن السابع ليغني بها فيلمه، والموسيقى التصويرية التي وضعها الملحن كمال الطويل كانت العنصر الأساسي في إضفاء لغة الحزن والحنين. لكن الفيلم على رغم جماله، عانى ضعفاً في تقديم الخدع السينمائية التي صارت التكنولوجيا الحديثة تسمح بتقديمها، كأنها صور واقعية من دون جهد يذكر، ولا تُغفر هذه الأخطاء على قلتها لفيلم متميز فنياً وبهذا المستوى الفكري والسياسي، أبدع ممثلوه في أداء أدوارهم، وخصوصاً الفنانة تيسير التي عَرفت كيف تنقل ألمها الى المشاهد. ومن الانطباعات المتعلقة بالجانب الفني للفيلم أنه يقترب من عالم يوسف شاهين، خصوصاً في فيلمي "المصير" و"الآخر" لكنه ليس نسخة عنه. واللافت أن خالد يوسف على رغم إهدائه الفيلم لشاهين، واستخدامه مشهداً من فيلم "الأرض"، وإعلانه في غير مقابلة ومؤتمر صحافي ولاءه المطلق للخبير يوسف شاهين، إلا أنه أكد ومنذ فيلمه الأول هذا شخصيته المستقلة، وجنى ثمرته الأولى انطلاقاً من زرعه هو القومي العربي، الذي كان ناشطاً في الحركة الطالبية المصرية، وضع فيلمه انطلاقاً من شعار ردده وزملاءه بحسب ما جاء في مقابلاته في التظاهرات احتجاجاً على حرب الخليج الثانية، وطرح أيضاً أسئلته هو. وإذا كان عالج أكثر من موضوع في الفيلم، فإنه استجمع أيضاً رموزاً تبدو رموز خطه السياسي: جمال عبدالناصر، أم كلثوم، وعبدالحليم حافظ... في "العاصفة" اضطر الشقيقان الى التقاتل في ساحة المعركة وبناء على سياسة المسؤولين، لكنهما لا يريدان هذا الاقتتال، كما لم ترده الشعوب العربية، وقد لفت خالد يوسف الذي يصر على أن الوحدة العربية هي خلاص هذه الأمة، الى بعض التهاون لدى شخصياته في معالجة بعض الأمور المصيرية، ثم عاد ليعلن حزمها في رفض التقاتل العربي، وفي رفض إسرائيل والسياسة الأميركية. افتتح خالد يوسف فيلمه احتفاء بحجارة الانتفاضة والمقاومة، وأنهاه ب"الأخ بيضرب أخوه بالنار" ... والأم تتظاهر على خلفية أغنية عبدالحليم حافظ "عدّى النهار". ترك خالد يوسف الاحتمالات مفتوحة فلم نر أياً من الأخوين مقتولاً، كأنه بذلك يقول إن الشرخ العربي موجود، لكنه ليس قدراً. قد يبدو خالد متفائلاً، على عكس دموع بعض الذين حضروا الفيلم.