في اولى تجاربه السينمائية يقدم المخرج الشاب خالد يوسف فيلماً ينبئ عن موهبة اكيدة، وتجربة ناضجة، عرفت كيف توازن بين الموضوع والصورة بحرفية تندر عادة في الأعمال الاولى. ومن يعرف خالد يوسف عن قرب، يعرف أنه يغازل الصعب في ما يحب ويفعل. لذا كان اختياره موضوع حرب الخليج، في اول فيلم سينمائي يتناولها، من خلال حكاية عائلة مصرية بسيطة عصفت بأحلامها المتواضعة تلك المأساة وما نتج عنها من متغيرات. وحين تسأله عن بداياته يخبرك أن السينما كانت حلماً سرياً لم يستطع البوح به لنفسه، الى ان التقى المخرج يوسف شاهين في فيلم "القاهرة منورة بأهلها". قبل ذلك ما خطر له يوماً ان يكون واحداً من صناع الصورة، لأنه كان ايام الجامعة قائداً للحركة الطالبية وأحلامها القومية، وخطيباً مولعاً بنار الكلمة الشعرية، وعلاقته بالسينما كانت علاقة مشاهد لا اكثر. لكن يوسف شاهين سرقه من المنابر، ومن كرسي المشاهد لأنه توسم فيه موهبة كتابة السيناريو من خلال حواراتهما، وأحس أن هذا الشاب يعرف كيف يطوع الكلام ويحوله حكاية مرئية، فقرر تبني هذه الموهبة ورعايتها. لم يكن خالد يوسف مؤمناً حينها بأن السينما قدره، لكن اصرار المخرج المعلم دفعه الى التعلم، بالكتابة والممارسة، في ما بعد. وهنا ينتهز خالد الفرصة ليؤكد ان يوسف شاهين استاذ كبير في مادة تعليم كتابة السيناريو، على رغم ان النقاد كانوا يتوقفون دائماً عند نقطة الضعف في افلامه... وهي السيناريو. "الحياة" التقت خالد يوسف، وسألته اولاً عن تجربة معايشته تصوير فيلم "القاهرة منورة بأهلها" التي سحرته فنال، "عايشت هذا الشريط، وهو فكرة في وجدان المخرج ومن ثم ككلمة مكتوبة، وبعد ذلك دبت الروح في الكلمات، وتحولت الشخصيات من ورق الى بشر لهم مشاعر واحاسيس. عالم بأكمله يحاكي الحياة. ووجدت ان المخرج يملك القدرة على الخلق، والتحكم بمصائر ابطاله واقدارهم فهو يحييهم ويميتهم ويعذبهم. "لحظتها قررت ان اكون مخرجاً. ولكن كيف وانا لا أمتلك الأدوات التي تسمح لي بذلك فلم افصح عن رغبتي لأحد". و"حين استعان بي يوسف شاهين في كتاية سيناريو "المهاجر" قال لي في مرحلة متقدمة من العمل معاً: اريدك ان تتعلم الاخراج. فاستجمعت شجاعتي واخبرته برغبتي الكبيرة في ان اصبح ما كان في حينه اكبر من قامتي". وعن الفرق بين المدرسة الشاهينية والمدرسة الاكاديمية، يقول خالد: "يوسف شاهين صاحب منهج علمي صارم، اشد صرامة من اي اكاديمية، لأنك تمارس ما تتعلمه على أرض الواقع. ففرحة التطور والتمرس لديك تسمح لك باختصار الزمن، اضافة الى انك في المدرسة الشاهينية تتعلم ادق التفاصيل السينمائية من اول كتابة الفيلم حتى ظهوره على الشاشة". حياة بأسرها ما سلبيات التجربة مع شاهين وما حجم التضحيات؟ - التضحية بحياتك الخاصة وتكريس نفسك 24 ساعة لهذه المهنة. لأن السينما عند يوسف شاهين مهنة مقدسة لا تقبل شريكاً، هي هوايته، ولعبته، ولذته، وعذاباته. هي كل شيء في حياته، فان دخلت معه في هذه الصومعة واعطيتها ذاتك ردت اليك تضحياتك، وانا اعطيت هذه التجربة 24 ساعة يومياً على مدى عشر سنوات، اي عمري السينمائي، وهو من عمر حرب الخليج. اما عن السلبيات فانك توضع في خندق هذا العملاق، وينظر الى سينماك مقارنة بسينماه، ويبدأ البحث عن اوجه الشبه واوجه القصور، وتجد نفسك في مقارنة مباشرة مع مخرج كبير له تجربة عريقة وانت مازلت تحبو في اول الطريق وهذا ظلم. كي تبدع يجب ان تقتل الأب، وانت أبدعت في ظل الأب الروحي شاهين. ما المعادلة التي وجدتها لكي تتوازن؟ - معادلة الابداع في ظل سلفة روحية معادلة شديدة الصعوبة، لكنني استغللت ظل يوسف شاهين لمصلحتي. حين يغريني الاستسهال في مشهد ما يطلع لي ظل يوسف شاهين متوعداً ويقول لي: انا علمتك ايه!؟ كنت اعمل طول مراحل الفيلم كأن عينيه تراقبانني، وكانت سلطته الروحية حافزاً لاعطاء الأفضل والأجمل. الا تخاف من "كليشيه" مساعد شاهين، ابن شاهين الروحي؟ تلميذ يوسف شاهين؟ اين خالد يوسف في كل هذا؟ - انت تتكلمين على فنان طاغ على كل فريق الفيلم من اكبر مساعد فيه الى اصغر عامل، ولكل منهم بصمة في الشريط، لكنها تضيع في بحر المنظومة الشاهينية. من يعمل معه يعرف انه نقطة صغيرة في بحر واسع، لا حدود له. انت فيه محدود ودورك ان تكون اداة توصيل تصب في ما يريد هو قوله، وبأفضل السبل، وهو في الآخر المسؤول الوحيد عن رؤيته. لا يخيفني ولا يزعجني ان اتفيأ ظل عبقرية كشاهين. لأنني مدين له بالكثير مدى الحياة. حكاية العاصفة العاصفة" اول افلامك، وهو حكاية تحملها منذ سنوات، ما النقطة التي بنيته عليها؟ - ليس مصادفة ان تشغلني فكرة عن حرب الخليج فارتباطي بهموم العالم العربي السياسية والانسانية هو ما دفعني الى صناعة فيلم عن تلك الحرب لأنها نقطة محورية في تاريخ العالم، لا في تاريخ الامة العربية فقط. كنت اريد ان اضع هذه النقطة الساخنة والمحورية في اطار حكاية واقعية تسمح لي برصد شريحة اجتماعية مصرية واثار هذه الحرب المأسوية فيها. وأنا مؤمن بأن هذه النقطة الساخنة حرب الخليج ستقتل بحثاً سواء على الورق ام على شاشات السينما. انها تشبه حرب فيتنام بعبثيتها. وكما تركت تلك جرحاً لا يندمل في التاريخ الاميركي، فالأخرى كانت وستبقى جرحاً عربياً نازفاً فينا. السينما الاميركية بعد صمت 10 سنوات في نهاية حرب فيتنام عرفت موجة عارمة من الأفلام التي تحاكيها وتحللها وتحاكمها. لذا ستشهد السنوات المقبلة افلاماً كثيرة عن حرب الخليج وآثارها، لأنها قمة التراجيديا العربية، اضافة الى انها قلبت موازين العالم ليس خلال مئة عام، ولكن في رفة عين. هاجس هذه الحرب سيطر علي لحظة اندلاعها. فمنذ فجر الحضارة وحتى 1990-1991 شهد العالم صراع الثنائيات على ارضه. كان هناك دائماً قطبان يتنازعان السيادة. حرب الخليج افرزت عالماً أحادي السيادة. اميركا اليوم هي السيد المطلق الذي يتحكم بمصائر الشعوب. وهذه معادلة شديدة الخطورة. ثم ان هذه الهزيمة هي اكبر الهزائم في تاريخنا العربي عام 1967 هزمنا نتيجة عدوان أجنبي علينا، جاء من خارج نسيج الأمة. لكننا تمردنا على هذه الهزيمة وانتصرنا عام 1973. اما بعد هزيمة حرب الخليج فقدمنا استقالة جماعية من كل اوجه النضال، واخترنا الاستسلام نهجاً واسلوباً. هجوم الفيلم لما ينته، وقد شرعت صحف كويتية في شن هجوم قاسٍ عليه من دون رؤيته. هل هذا مؤشر الى انك وضعت اصبعك على جرح يمنع الاقتراب منه؟ - ملف حرب الخليج لا يزال مفتوحاً. فهناك مأساة الأسرى الكويتيين في العراق، وهناك شعب العراق الذي يعيش حصاراً غير انساني منذ سنوات، عدا تعرضه اليوم للملوثات اضافة الى المواقف العربية المشرذمة. ما نشر في بعض الصحف الكويتية يشير الى ان هذا البعض يعتبر جرح حرب الخليج ملكية خاصة لا يحق لأحد الاقتراب منها. لذا اعطوا لأنفسهم الحق في نهش اي شخص يحاول الكلام على حرب الخليج، وفاتهم اننا جميعاً كعرب في الهم خليج!. هذه الاقلام كتبت أنني جزء من حرب التخويف التي تمارس عليها كي تعود وتصب في جيوبنا مقدرات الخليج. وتذكرون بأموال هدرت باسم النضال العربي الذي تمخض عن وهم. لو نالني هذا الهجوم الشرس بعد الفيلم، لكنت وجدت له منطقاً يساعدني في الرد عليه. ولكن حين يهاجَم من دون ان يراه حتى منتجه، لأنني لم انته منه بعد، فهذا هو المضحك المبكي. على اي اساس أهاجم واحاكم؟ هل يقرأون النيات ويفصلون عليها محاكم تفتيش وارهاب؟ انتظروا يا سادة عرض الفيلم، واذا كان عندكم تصور مغاير له فلنتناقش. لو كان فيه ما يمس الكرامة العربية لما سمحت به الرقابة في مصر. الفيلم ليس طرفاً في "العاصفة" جسدت المقاومة الكويتية ضد الغزاة، ليس من موقع ولائي لأي نظام خليجي، ولكن من منطلق ايماني بالشعوب العربية ان يكون هناك كويتي واحد رفع السلاح في وجه المعتدي واستشهد، فهذا يعني ان هناك مقاومة. وفي المقابل أنا متضامن مع الشعب العراقي، وهو اعرق شعوب المنطقة ويشهد له تاريخه بذلك، وتضامني معه لا يعني تضامني مع نظامه القائم يسرا ودورها قدمت يسرا في فيلمك دوراً من احلى ادوارها السينمائية ما الذي اغراها في اداء دور أم لشابين؟ - يسرا فنانة ذكية جداً، وتعي القضايا الوطنية. وهي قبلت ان تكون اماً لشابين في دور اكبر من عمرها لأن الشخصية تجسد صراعاً انسانياً تعيشه الأمهات الشابات حين يترملن باكراً. يسرا في الشريط نموذج الأم - الأنثى، وهو لم يعالج بموضوعية في السينما المصرية، فإما ان تكون المرأة اماً وإما أنثى. شخصية يسرا وشكلها ساعداني على تقديم الأم - الأنثى المحترمة. انها ام تعيش صراعاً بين امومتها وأنوثتها، حتى تأتي لحظة اندلاع حرب الخليج التي تزلزل كيان الانثى لتترك للأم الملتاعة ان تصرخ ضد عبثية حرب يواجه فيها الأخ اخاه على ارض شقيقة!. فيلم "العاصفة"، على رغم موضوعه الجاد، يملك مقومات الفيلم التجاري من حيث اختيار ابطاله: يسرا وهشام سليم وحنان ترك وهاني سلامة. وفيه غناء ورقص وحب. هذا يعطينا احساساً أن هناك مخرجاً لا يغيب عن ذهنه الجمهور، لحظة؟ - صنعت هذا الشريط بمجهود كبير وفي ذهني ان يصل الى اكبر عدد من الناس، وعملت "اللالي" كما يقال. فيلمي ملتصق بالهم العام ويخاطب الناس بلغة بسيطة. العائلة المصرية التي تدور عليها احداث الفيلم، تشبه جيرانك واقاربك واهلك. وعلى رغم ان موضوع الفيلم سياسي، فالمعاناة الانسانية هي التي شكلت شخصياته وهي محوره. ما شغلني مأساة الناس البسطاء في ظل القضايا الكبرى. كيف يحب الناس في الحروب، بِمَ يحلمون؟ كيف يموتون؟ واذا وفقت في ايصال هذا الى الناس، اغنم المكافأة التي انشدها. لو أدار الجمهور ظهره لفيلمك على رغم جودته الفنية وقيمته السينمائية كما حصل ل"عرق البلح" ول"جنة الشياطين"، ماذا تفعل؟ - ليس هناك فيلم جيد وساقط. كل ما في الامر أن هذين الفيلمين عرضا في مناخ غير ملائم، وتزامناً مع ظروف غير موضوعية، علماً انهما يتمتعان بقيمة فنية عالية. وسقوطهما جماهيرياً الآن لا يعني سقوطهما الى الابد. "باب الحديد" و"الأرض" مرا بالظرف نفسه، وهما اليوم من علامات السينما الكلاسيكية في تاريخ السينما العربية. فالفيلم الجيد قادر على تجاوز سوء التوقيت لأنه قد يتعثر لكنه لا يسقط من ذاكرة السينما. بالنسبة إلي، اذا فشل فيلمي، فسأقول: ويلي ويلي من نار الكلمة ان لم تجد من يسمعها وبفخر طفولي. هذه قصيدة لي كتبتها من 15 سنة، اي انني سأعيد ترتيب اوراقي وسأبحث عن مواطن الفشل وسأحاول ايجاد المعادلة للوصول الى الناس. انا مؤمن بالجمهور العربي وبذكائه الفطري، وعلينا معرفة اصول مخاطبته. صنعت الفيلم بعين المخرج وعين المشاهد، صنعته للناس سواء أحبوه أم تصادموا معه. يوسف شاهين كيف استقبل هذه التجربة؟ هل احب الفيلم؟ - هو أسعدنا بهذه التجربة، وقد احب الفيلم، وسعادته تعني أنني لم اكن تلميذاً له مخيباً للآمال. كلمة مخرج ماذا تعني لك؟ - خطوة على الطريق...