أربعون عاماً مرَّت على رحيل الشاعر الفرنسي سان جون بيرس الاسم الشعري المستعار لاسم وِلادة طويل: ماري رينيه أوغيست ألكسيس ليجيه (1887-1975)، ولعلَّ هذه الذكرى مناسبة ملائمة لرصد أطوار الحياة الأخرى لهذا الشاعر الحاصل على نوبل للآداب 1960، لتلك الروح التي تغيب في مكان ما، لتظهر في تجليات مختلفة، أعني انبعاثه وحيوية نصوصه في مكان آخر على وفق عقيدة التناسخ الروحي في المذاهب اللاهوتية لتقصيها في الشيفرة الوراثية المعقدة في القصيدة العربية الحديثة، وتحديداً في حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. كان أدونيس أوَّلَ من نقل إلى العربية مقاطع من قصيدة بيرس الطويلة «ضيقة هي المراكب» وكان شاعرها لا يزال حياً ولم يفز بنوبل بعد، وذلك في العدد الرابع من مجلة شعر خريف 1957، قبل أن يصل إلى ترجمة أعماله الكاملة، حيث أكد لاحقاً إنه وضع في تلك الترجمة: كيانه الشعري كلَّه، وهيامه كلَّه ليدخل بيرس إلى الثقافة العربية بلغة أدونيس نفسه. وعلى هذا الأساس يمكن قراءة بيرس مع أدونيس على إنه الصياغة الأدونيسية المعجبة بمادة بيرس وعوالمه الشعرية، وليست ترجمة تقليدية أو نقلاً يتوخى الدقَّة الصارمة. كان ذلك قبل أن يوثِّق كاظم جهاد تأثيرات بيرس في أدونيس نفسه الذي استشعر تلك المعضلة في وقت مبكر، فعبَّر عن ضيقه وتذمُّره مما سماه «الهذر النقدي» الذي يحيل شعره إلى تلك المرجعية. «مدائح» أدونيس ورغم تعدُّد الترجمات العربية لشعر صاحب «مدائح» مشرقياً ومغربياً برزت ترجمة أدونيس ومن بعدها ترجمة عبد الكريم گاصد لعمله المهم «أناباز» التي نشرها في مجلة «الأديب المعاصر» العراقية عام 1976 قبل أن تصدر لاحقاً في كتاب، إضافة إلى ترجمتي المغربي مصطفى القصري «الفلك ضيقة» والتونسي علي اللواتي» أناباز / منفى وقصائد أخرى». ولعل البلاغة الوحشية والدلالات المتشعِّبة التي يمتاز بها شعره هي ما دفعت بالقصري، إلى استعارة جوانب من البلاغة التراثية لترجمة «الفلك ضيقة». لكنَّ بين هذه العبارة الخبرية المحمولية التي تبدو سكونية وبين العبارة المترجرجة فخامة «ضيقة هي المراكب» تلخيصاً مثالياً، ليس لصعوبة شعر بيرس ووعورة أجوائه، وإنما تشيرُ إلى قدرته على الظهور بوجوه متعددة حيث الدويُّ المختزن للجملة الشعرية والبناء الرصين الذي لا يفقد قوَّته مع تعدد ترجمات أشعاره وتنوّعها. ف «أناباز» مثلاً ترجمها كبار شعراء العالم في القرن العشرين للغاتهم، كإليوت إلى الانگليزية وأونغاريتي إلى الإيطالية، وقد لا نملك سوى إشارات شاحبة على أثر بيرس في إليوت نفسه وتأثير تلك الترجمات في الشعر الإنگليزي أو الإيطالي لاحقاً، لكننا نستطيع أن نتبيَّن، بوضوح، الظلال القوية لشعر صاحب «منفى» على الشعراء العرب في حقبة السبعينات والثمانينات. كانت ملامح تلك الظلال حاسمة في توجيه قصيدة النثر في الشعر العربي من شكلها المختصر إلى البعد الإنشادي، ومن يوميتها إلى كونيتها، ومن بنائها المتقشف، إلى الديباجة الملحمية الفخمة حيث الخطابة بديل للوزن في احيان، أو تعضيد له عندما يضيق لا سيما في القصائد الموزونة بلا قوافٍ: «ضيِّقٌ هو الوزنُ/ ضيق هو الوقف الذي يشطر جسد المرأة نصفين كالوزن القديم!» وعلى رغم هامشية الاهتمام النقدي الأوروبي والفرنسي الحديث، بالشكل الإيقاعي للقصيدة في الدراسات الاستبطانية والتركيز على قراءة الشعر قراءة جمالية مضمونية تأويلية، فإن إشكالية الإيقاع في أشعار سان جون بيرس نالت اهتماماً بحثياً استثنائياً في هذا المجال، فقد كان الشكل الشعري لديه مركباً ومعقداً، ينوس بين الشعر والنثر، في هذا التشابك المتواتر والمتوتر بين شعرية النثر في المقطعية المقاربة للآيات الإنجيلية والإيقاع المتسع للبحر الاسكندري بتفعيلاته السداسية المزدوجة التي تقاربه من البحر الطويل في العربية وبهذا فهو ذو فرادة بهذه الهجنة الإيقاعية. هذه «القطبة المخفية» في النسيج البيرسي، والتي لا تحيط بها الترجمة عادةً، ربما شكلت حافزاً لا واعياً، يمكن من خلاله تفسير ظاهرة كون غالبية الشعراء العرب الذين تأثروا بشاعر «منارات» هم من الجيل الوسيط، أعني شعراء الجيلين السبعيني والثمانيني ممن كتبوا قصيدة التفعيلة أصلاً قبل انتقالهم إلى قصيدة النثر، إذ ظلَّ في قصيدتهم شيءٌ من الإيقاع الموروث من قصيدة الرواد، في الوقت الذي بدأت تجذبهم تجارب القصيدة المتحرّرة من الوزن، بينما ظهرت الترجمات المتعددة لشعره في وقت كانت تجربة قصيدة النثر توازي تجربة قصيدة التفعيلة في صعودهما المتضارع بل في تشابكهما أحياناً. الشكل الضليل وبهذا المعنَّى كان بيرس محرضاً أساسياً على نشوء هذا «الشكل الضلّيل» الشكل الوسيط في قصيدة النثر في الشعر العربي، ذلك الشكل الذي أطاح الوصايا المدرسية «البرنارية» (سوزان برنار) في تحديد الشروط الأربعة الأساسية لشكل قصيدة النثر. فشعراء مثل سليم بركات في الشام، ومحمد بنيس في المغرب العربي، وقاسم حداد في الخليج، وسواهم، أسماء يمكن أن ترسم صورة تقريبية للمشهد البيرسي في خريطة قصيدة النثر العربية، سواء من خلال قراءته معرباً أم بالنص الفرنسي (محمد بنيس). ويقف نص سليم بركات في صدارة ذلك المشهد مستعيراً تلك الديباجة الفخمة والتي تكاد تقوم على جمع الأسرار والأشتات في استعارات متدافعة على نسقٍ متصل وهيمنة واضحة للخطابية. أما البحريات المطولة التي يظهر فيها بيرس نسَّاباً لسلالات عناصر الطبيعة فتتحول لدى سليم بركات إلى جبليات بينما تتناسخ أعشابه وقواقعه وكائناته الأخرى للتقافز أيائل وثعالب وكراكي. وقد يبدو طبيعياً رصد تأثيرات الشعر الفرنسي في الشعر العربي في سورية ولبنان وكذلك في المغرب العربي بفعل تلك المرجعية الفرانكفونية التقليدية، غير أنه في بلد كالعراق، ظلَّ أكثر انجذاباً إلى الشعر الأنگلوسكسوني، ومُهتمَّاً بإليوت في شكل استثنائي منذ السياب والبياتي، فإنَّ شعر بيرس سيمثل الوشم الفرانكفوني الأوضح مع ملاحظة أنَّ جسد القصيدة الحديثة في العراق كان مهيئاً لاستضافة هذا الوشم بفعل الميل الطبيعي في الشعر العراقي إلى الإنشاد والغنائية والمطولات، واهتمامه المبكر بفكرة الشاعر الرائي النبوي المشغول عن العالم بالأساطير، والتي قد تتقلص لتتحول إلى أساطير محلية أو حتى أساطير شخصية، ويظهر الأثر البيرسي بوضوح من هذا الجانب لدى كل من خزعل الماجدي في «خزائيل» ومحمد النصار في «تنافسني على الصحراء» التي تقارب «صحراء جوبي» في أناباز، ونصيف الناصري في سديمياته الثمانينية المترهلة بالأهاب البيرسي. وهكذا انعكس الهيام الأدونيسي، بعوالم بيرس إلى تهويمات متصلة في أحلام الوحي البيرسي وهو الذي ظلَّ يواجه زخم العالم من حوله مستغرقاً في تأمل الأعماق، حتى ليبدو سوريالياً من بعد! أعني حرصه على وعي تلك المسافة بين الكتابة بالحلم لدى السورياليين والكتابة بنوع من الوحي الصوفي لديه بين عبارة: «الرياضيات المعلقة على كتل الملح الطافية» في «أناباز» و:«للبحر وحده سنقول كما كنا غرباء في أعباد المدينة» في «ضيقة هي المراكب». ولا تكاد القصيدة الحديثة في مصر تفرّط بحصتها من الاستفياء تحت تلك الظلال المديدة حيث القصيدة المدوّرة، والسرديات ذات الصورة المتدفقة حتى لدى شاعر تفعيلة كمحمد عفيفي مطر. شاعر لا زمني هكذا سيغدو المولود في مستعمرة فرنسية صغيرة في الأنتيل، أوقيانوساً تندفع موجاته وظلاله بقوة إلى أبعد يابسة في مدن الشعراء. شاعراً لا زمانياً، أزمنته متدحرجة، وأماكنه مفتوحة على المطلق، فهو شاعر المناخ الشعري القارِّي، أكثر منه شاعر القصيدة ذات الغرض المحدد والشكل المختزل. فإذ استعارت قصيدته شكل الجغرافيا المفتوحة، وكان التاريخ هو المعنى الذي يتحرك بين بحر وصحراء، في حملة رياح وثلوج ورمال، جاءت المطولات في قصيدة النثر العربية لتقترح شكل النص المفتوح، تحت تأثير هذا البهاء المتدفق بعباراته المحكمة وسبكه الملحمي. كانت الطبيعة مسرحه وأبطاله في الآن ذاته: الثلوج، الأمطار، الرمال، الرياح، البحار، فبينما تبدو قصيدته صحراوية آسيوية في «أناباز» فهي بحرية في «منارات» ومركبة في «ضيقة هي المراكب» بيد أن التضاريس والجغرافيا عموماً لم تكن لديه سوى فضاء متخيّل يعيد تشكيله غاباتٍ استوائيةً من تشابك الرموز الملحمية، لتغدو تلك الأماكن المأهولة بالأسرار والرموز وليس تلك الأماكن اليومية المعتادة في الحواس. إنها أمكنة الحدس والاستبطان والاحتفاء بالعزلة، وليست شواهد للمرئي والمتاح. وهو بهذا المعنى شاعر فتوحات كبرى صاغ من التجريد ملحمة، حتى وهو ينسحب إلى الداخل، مستعيناً بطاقة من الشغف الإكزوتيكي. لقد لاحظ آلان بوسكيه في دراسته المهمة «سان جون بيرس أو البلاغة المنقذة» أن الجغرافيا المتنقلة في التجربة الذاتية لبيرس أكسبت شعره كل هذا الثراء فبينما منحت أجواء الكاريبي قصيدته صوراً «يتنازعها العنف والسحر». منحته آسيا، حيث المسافات الشاسعة، التأمل ومراقبة الخواء، وساعدته أوروبا على التأليف المحكم وأمدَّته أميركا بالعزلة والمنفى، ولذلك فإنه «بالمقدار الذي أحس فيه بعبء زمانه، استطاع أن يبتعد عنه» ومن هنا كان ذلك الشعر الذي يتخذ فيه الهذيان «أشكالاً أولمبية». لكن اللافت في شعر بيرس أنه لا يفصح عن ملامح حياته الشخصية، فنحن نتعرف في شعره على عوالم كبرى إلا أنها ليست تجربته الفيزيائية، فالمختفي خلف اسم مستعار، أخفى تفاصيل يومياته وحياته الشخصية خلف هذا الحجاب المحكم من كيمياء الاستعارات المتتالية والعوالم الكلية والتجارب المعرفية. فلقد نظر دائماً إلى الشعر على أنه أعلى من الفلسفة، وأبعد من الفيزياء بما في ذلك فيزياء الجسد، ولهذا كانت تجربته روحية داخلية مغلّفة وباطنية حيث: «لا تاريخ إلا تاريخ الروح» تلك العبارة التي لم ينجُ من قوة تأثيرها شاعر بحجم البياتي، وهنا تكمن جناية أساسية لشعر بيرس في العربية، أو ما سمّاه اللواتي بشيء من العسف: جناية أدونيس، إنه الفخُّ الذي يستدرجُ الشعراء نحو عالمه المؤسس أصلاً على عوالم موغلة في القدم: فالموجة واحدة منذ طروادة، «عبثاً ترسم لنا الأرض القريبة حدودها، موجة واحدة من العالم، الموجة ذاتها منذ طروادة.»