يعد منصب الأمين العام في المنظمات الدولية والاقليمية من المناصب ذات التأثير المهم في سير أعمال المنظمة وتشكيل مواقفها في كثير من القضايا التي تعرض عليها. وفي تقديري إننا نستطيع أن نتفق على هذه الحقيقة. فعلى سبيل المثال كان هناك اختلاف بالنسبة إلى عصبة الأمم بين إريك دزموند بريطاني 1919 - 1933 وخليفته أفيفول الفرنسي ثاني أمين عام للعصبة 1933 - 1940. وكذلك كان هناك اختلاف بين الدور الذي لعبه همرشولد ويوثانت وبطرس غالي وكوفي أنان عند توليهم منصب الأمين العام للأمم المتحدة. وينطبق هذا أيضاً على الدور الذي لعبه المرحوم عبد الرحمن عزام، أول أمين عام لجامعة الدول العربية، والدكتور محمد عبد الخالق حسونة ومحمود رياض عند توليهم المنصب نفسه. كتب الأخ والصديق الدكتور مصطفى الفقي، في مقاله في "الحياة" في 9/1/2001، عن قرب انتهاء فترة تولي الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد الأمين العام الحالي للجامعة خلال الشهور القليلة المقبلة، وأهمية التفكير منذ الآن في حسم هذه المسألة نظراً إلى أهميتها في هذا الظرف القومي شديد الخطورة، خصوصاً بعدما تردد الحديث فعلاً عن ترشيحات لأسماء كبيرة لساسة قدامى، بل أيضاً لامراء ونواب رؤساء دول وكذلك رؤساء حكومات لخلافة عبد المجيد. وانتهى الدكتور الفقي إلى الأسباب التي عرضها في مقاله إلى أنه من الصالح العربي العام ترحيل المشكلة لسنتين مقبلتين يتم بعدها اختيار أمين عام جديد، وأن ذلك في رأيه قد يكون هو المخرج العملي من مأزق لا مبرر له والمتمثل في ما يمكن أن يشكله طرح هذه المسألة الآن من خلاف بين الدول العربية ما أغنانا عن الوقوع فيه في هذه الظروف العربية الحالية البالغة الحساسية ولخشية أن تتحول مسألة البحث عن أمين عام في الشهور المقبلة صدامات مكتومة ومواجهات لا مبرر لها بمثل ما نتج عن المنافسة بين عربيين على منصب المدير العام لليونسكو وتركت مرارة لم يكن لها مبرر، فضلاً عما يتحلى به الأمين العام الحالي من صفات وخبرات تجعل من استمراره في منصبه لسنتين مقبلتين أمر يضيف ويصب في مصلحة منصبه والدول العربية الأعضاء كافة. وبادئ ذي بدء فإني أكاد أكون على ثقة من أن مقال الدكتور مصطفى الفقي وطرحه موضوع الأمين العام للجامعة ورأيه ترحيل المشكلة لعامين مقبلين، لاپبد أنه حظي باهتمام الكثير من المسؤولين في الاقطار العربية. فالدكتور مصطفى الفقي كان يشغل قبل فترة قصيرة منصب مستشار وزير الخارجية المصري للشؤون العربية ومندوب مصر الدائم لدى الجامعة العربية وأنه الآن لم يبتعد عن هذا النصب كثيراً فهو يشغل حالياً وكيل لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشعب المصري. ويصعب في تقديري الفصل بين منصبه السابق والحالي ومقاله عن الأمين العام للجامعة العربية. فمهما قال إن مقاله يعبر عن رأيه الشخصي وأنه وحده مسؤول عن اقترحه وأن دافعه الوحيد هو الحرص على العلاقات بين الأقطار العربية في الظروف الحالية التي وصفها بأنها بالغة الخطورة والحساسية - وقد يكون ذلك صحيحاً - إلا أنه لا يمكن تجنب ظن بعض وزارات خارجية بعض الأقطار العربية أنه مقال موحى به وبالون اختبار لمعرفة ردود الفعل على هذا الاقتراح من جانب مصر. وثانياً: إذا كان المستهدف من ترحيل المشكلة لمدة عامين لتجنيب الأمة العربية مأزق قيام خلاف متوقع بين الدول العربية نحن في غنى عنه حول اختيار أمين عام جديد للجامعة فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو عما إذا كان في مقدور أحد أن يتنبأ بأن الأحوال والعلاقات بين الأقطار العربية ستكون أفضل خصوصاً أن الخلافات بين الأقطار العربية قائمة منذ أن قامت الجامعة وستبقى - وهذا ليس عيباً ننفرد به - فالخلافات بين دول الاتحاد الأوروبي - الذي قطع أشواطاً لا نحلم ببلوغها هي على أشدها حول مسائل بالغة الأهمية - من دون أن يتطوع أحد باقتراح تأجيل النظر فيها لسنوات مقبلة. ثالثاً: لم يكن شغل منصب الأمين العام للجامعة بواسطة المصريين منذ إنشاء الجامعة وحتى الآن - باستثناء فترة نفي الجامعة بعيداً في تونس - مجرد مصادمة ولكنه كان انعكاساًَ لظروف قيام الجامعة في حينه من جهة وللثقل المصري في الجامعة العربية والمنطقة العربية عموماً أيضاً في حينه من جهة ثانية. ولكن حتى في المراحل الأولى أظهرت اتجاه الدول العربية، أو بعضها على الأمل في أن يتم تداول منصب الأمين العام بين الدول العربية الأعضاء أو فى الحد من سلطة الأمين العام من جهة أخرى وذلك عندما كان الأمين العام - في عهد المرحوم عبد الرحمن عزام - يلعب دوراً بارزاً في تشكيل مواقف الجامعة من القضايا المعروضة عليها. ويذكر أن المرحوم عبد الرحمن عزام نفسه أعرب عن رأيه في اجتماعات اللجنة الفرعية السياسية التي وضعت مشروع ميثاق الجامعة في ضرورة وإمكان تداول منصب الأمين العام بين الدول العربية. ففي المرحلة التمهيدية قبل إنشاء الجامعة - من تموز يوليو 43 إلى آيار مايو 1945 - وفرت مصر مجموعة السكرتارية برئاسة الدكتور محمد صلاح الدين، الأمين العام لمجلس الوزراء المصري في ذلك الحين ووزير خارجية مصر بعد ذلك، وقامت هذه السكرتارية - وهي مصرية تماماً - بتسجيل وإعداد المحاضر. وعندما دخلت المشاورات بين الدول العربية المعنية مرحلة أكثر تقدماً بإجراء محادثات اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام في الاسكندرية 25/9 إلى 14/3/1944 أبدت مصر استعدادها لتوفير كل ما تقتضيه أعمال السكرتارية على أن تشارك فيها الدول العربية الأخرى إذا رغبت، وأكدت مصر أنها بذلك لن تحتكر في المستقبل مناصب الجامعة وأنها تحرص على مشاركة الجميع في العمل العربي المشترك. وتكونت فعلاً سكرتارية اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام في الاسكندرية من خمسة مصريين واثنين سوريين، بالإضافة إلى عراقي ولبناني وسعودي. وهذا يوضح أن الدول العربية المؤسسة للجامعة حرصت على المشاركة عندما أتاحت لها مصر هذه الفرصة رغم أن هذه الدول كانت حينئذ في بدء عهد استقلالها أو تعمل من أجل استكماله ولا تملك حتى المتخصصين الذين يغطون احتياجاتها الذاتية أحياناً. فكان النقص في الكفاءات هو السبب الرئيسي في عدم قدرة الدول العربية في حينه على المشاركة الفاعلة في بناء هيكل الأمانة العامة في هذه المرحلة بالإضافة لأسباب أخرى كالمرتبات التي كانت موضوعة ومحددة على أساس كادر الوظائف في وزارة الخارجية المصرية بلد المقر مما حدا بالعربي السوري أو اللبناني أو اليمني أو السعودي إلى الإحجام عن قبول منصب في الأمانة العامة. لكن الظروف الآن اختلفت كلياً ليس فقط من ناحية المرتبات، بل في ما بلغته هذه الأقطار العربية من رقي وتقدم حتى أصبحت لديها كوادر صالحة، ليس فقط للعمل في الجامعة العربية، بل وفي المنظمات الدولية. إذن لاپبد من مراعاة ما حدث في الأقطار العربية في تطور. وأيضاً بات من المهم أن يشارك الجميع في بناء الجامعة العربية بداية من منصب الأمين العام الى أصغر منصب فني، الأمر الذي سينعكس بلا شك على تفعيل دور الجامعة من جهة وترسيخ أهميتها كأداة رئيسية للعمل العربي المشترك من جهة أخرى في وقت أصبح الشائع النظر فيه على الصعيد العربي - من المحيط إلى الخليج - أن الجامعة باتت مبنى آيلاً للسقوط لا ترجى منه فائدة خصوصاً بعدما أصبح انعقاد القمة يتم بين فترات طويلة رغم الأزمات التي تستدعي انعقادها، وهو الأمر الذي حدا بالبعض في اقطار عربية مختلفة إلى تشكيل جمعيات أهلية تحت مسمى العمل العربي المشترك أو روابط أصدقاء جامعة الدول العربية بغرض التصدي للفكر السائد والنظرة المتشائمة التي تحيط بالجامعة. إن تفعيل العمل العربي المشترك لا يأتى الا بدماء جديدة وبشخصيات ذوات مبادرات خلاّقة مؤمنة بعروبتها. والظرف العربي الراهن، رغم أنه بالغ الخطورة، إلا أن المرحلة الخطرة التي يمر بها تدعونا إلى عدم ترحيل المشاكل. * سفير مصري سابق، عضو رابطة أصدقاء الجامعة العربية.