في الصف الثاني المتوسط كنا ندرس في بغداد بعض قصائد ابي نؤاس نواس ضمن المناهج الدراسية الحكومية. وفي أواسط الثمانينات أزيح تمثال الشاعر من مكانه في الشارع المسمى باسمه منذ العهد الملكي. وكانت حجة الازاحة ان الشاعر من أصل فارسي. وفي الثانوية والكلية كنا نتلقف النتاجات الابداعية والفكرية المصرية بلهفة وحب. فقد كانت مصر الثقافية هي العاصمة الثقافية للجميع. فمنها برز طه حسين وسلامة موسى والعقاد وشوقي وعلي طه والمازني والرافعي وعادل كامل وجماعة "أبولو" وبدوي وزكي محمود واسماعيل مظهر... وهذه اسماء على سبيل الأمثلة لا الحصر. ونسمع اليوم ان في مصرنا نفسها يُطارَد الابداع والمبدعون مرة باسم مكافحة الاسلام وأخرى بحجة ادانة الاباحية وأدب الفجور... وكأنما لا تكفي حملات الأنظمة ضد المثقفين الذين يجرأون على التعبير عن آرائهم السياسية المستقلة كتلك القوائم الصادرة عن النظام العراقي أخيراً بادانة العشرات من مثقفينا المغتربين بالردة والخيانة. ان تهم الارتداد السياسي أو تخديش الأخلاق العامة أو تهمة انتهاك المقدسات الدينية، أصبحت هي الرائجة في نهاية العقد الماضي وتستمر مع دخولنا القرن الحادي والعشرين. ومن يدري فقد تتسع وتتحول الى حملات تفتيشية ثقافية تطاول الكثير من تراثنا الأدبي والفكري كأعمال المعري وألف ليلة وليلة وامرىء القيس ويتيمة الدهر والأغاني. أما أبو نؤاس فيوشك، كما يبدو، أن يُنحر في هذه السنة بالذات... فهل أكبر من هذه الاستعدادات الثقافية لمواجهة تحديات القرن الجديد!؟ والمؤلم المأسوي ان نسمع عن مصر بالذات أكثر هذه الأخبار إثارة للدهشة والاحتجاج. فبعد قتل فرج فودة ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ تأتي الضجة المفتعلة لبعض التيارات السياسية المتعصبة دينياً عن رواية "وليمة لاعشاب البحر". وتأتي قصة أخرى تحت ضغط اسلاموي أيضاً عن الروايات الثلاث التي قيل ان فيها ما يخدش الآداب. ونسمع غرائب عن ديوان ابي نؤاس الذي طبع عشرات المرات في القرن الماضي والذي تراد إعادة النظر فيه، ربما بحجة ان فيه فسوقاً. ويذكر أن عدداً من الفقهاء قد كتبوا منذ قرون كتباً عن الجنس لا تزال من بين الكتب الأكثر رواجاً، ويمكن العثور عليها حتى عند بعض أبطال المكافحة اليوم. ان للدولة حق السماح بنشر أو عدم نشر أي كتاب في مؤسساتها الرسمية. ولكن ليس من حقها أن تجعل نفسها الحكم والقاضي في التعامل مع ما يُكتب، ناهيكم عن التحريض الرسمي والعلني ضد الكاتب ونتاجه. كما ان هناك رأياً عاماً مثقفاً وهناك قانون عند الاقتضاء. وكلما تراجعت الدولة أو المثقفون أمام دعاة التحريم والتكفير الثقافيين ازدادت شهية هؤلاء الاخيرين الذين قد يطالبون، وكما مر، بحرق المعري واخوان الصفاء وألف ليلة وليلة واحسان عبدالقدوس ونزار قباني، وباتلاف أكثر من ثلاثة أرباع الأفلام المصرية منذ الأربعينات حيث الرقصات الشرقية بالمفرد أو الجماعية حيث قد تبدو صدور وارداف. وهذا فيما يستطيع شباب اليوم وحتى صغاره مشاهدة أكثر الأفلام ابتذالاً عبر الانترنت والفضائيات... ويحدث كل هذا في العالم العربي وقد افتتحنا قرناً جديداً يحمل لنا تحديات خطيرة في كل المجالات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية والتربوية. ومع ذلك نتحدث عن تحدينا لاسرائيل التي لم تغلب العرب مراراً بسلاحها بقدر ما كان ذلك بتنظيمها السياسي وتقدمها العلمي والتكنولوجي. ان الثقافة العربية قد تراجعت في الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة نتيجة قهر الأنظمة الدكتاتورية وانتشار التطرف الديني وغياب قيم التسامح والحوار. وتلعب شرائح من المثقفين العرب أدواراً هدّامة ضد الثقافة العربية قد لا تقل أحياناً عن أدوار الأنظمة الشمولية التي صادرت الرأي الآخر. وهناك من يدافعون عن حرية المثقف لديهم ويسكتون عن القمع الوحشي لزملائهم في البلدان الأخرى كالعراقو بل يباركون ويزكّون. ان مطاردة الأعمال الأدبية توشك ان تتحول الى حملات تفتيش يمتزج فيها الجهل بالنفاق وبشهوة استعباد المجتمع الذي يراد أن تشيع فيه قيم ثقافية واحدة، أي قيم شمولية باسم الحرص على المقدسات. أما الأدباء الذين يسفّون في الكتابة باسم حرية الابداع باستخدام تعابير ومقاطع يمكن التعبير عن مضامينها بأسلوب أرق وأكثر ابداعية، فانهم مع الأسف يقدمون لدعاة التحريم والتكفير سلاحاً بالمجان.