على رغم احاطة الرئيس الأميركي الجديد، جورج بوش الإبن، نفسه بفريق مجرَّب وطويل الباع في الادارة السياسية والاقتصادية والعسكرية، ورث أركانه عن ادارة أبيه وادارة أسلاف أبيه الجمهوريين، فالانتقال من الادارة الديموقراطية الى الحكم الجمهوري المتجدد لا يبدو "سلساً" ولا يسيراً. وبعض العرقلة يعود، من غير شك، الى الديموقراطيين الخاسرين، والى امتعاضهم من خسارتهم منصب الرئاسة، وهم من حاز مرشحهم أصواتاً تفوق عدد أصوات الفائز بنحو ثلاثمئة ألف صوت، فإذا بالرئيس الثالث والأربعين للولايات المتحدة الأميركية يباشر منصبه هذا لأول مرة منذ قرن واثنتي عشرة سنة منذ 1888 وهو لم يفز بالاقتراع الشعبي العام، ويدين بفوزه الى مجلس المندوبين. ولو اقتصر الأمر على "مزاح" الرئيس السابق، بيل كلينتون، وهو سمى مزاحاً قوله ان تعطيل الفرز في كاليفورنيا كان السبب في فوز خلفه، لهان هذا الأمر. ولكن التشكك في شرعية الرئاسة الجديدة، وفي متانة تكليفها الشعبي والانتخابي، خرج من دوائر السياسيين المحترفين والناشطين والمتحزبين الى عامة الناس، فالأربعون في المئة من المتشككين في شرعية الانتخابات الى الرئاسة، إذا صحت قياسات استطلاع الرأي الأخير، يبلغون نسبة كبيرة من الاميركيين. وعلى حين يجزم نحو أربعين في المئة في أن تفويض الرئيس الجديد يطلق يده في تنفيذ برنامجه الانتخابي، وهو برنامج يتصدره خفض الضرائب 1300 بليون دولار في سنوات ولايته الأربع، لم يبلغ الذين يقدمون اجراءات الخفض هذه غير ربع الأميركيين أو أقل بقليل 26 في المئة. ويفيد الفرق بين من يطلقون يد بوش في التفويض السياسي وبين من يماشونه في أولوياته الصريحة، يد نزيل البيت الأبيض الجديد. بل ان هذا الفرق يلقي على ركن سياسته ظلاً ثقيلاً من التردد والتحفظ. فإذا لم تحظ سياسة خفض الضرائب التي يعوِّل عليها المرشح الجمهوري، ويعوِّل عليها الرئيس المنتخب لأجل الحؤول دون "هبوط" الاقتصاد الأميركي هبوطاً حاداً في الركود، إذا لم تحظَ السياسة "الشعبية" هذه إلا بتأييد ربع الاميركيين، فقد يكون معنى نسبة التأييد الضيقة هذه أن الرئيس ما زال، بعد تثبيته رئيساً وتعهده رئاسة كل الأميركيين وليس حزبه منهم، صوت ربع المواطنين والناخبين ولسانهم وحدهم. ويتفق هذا مع تشخيص إحدى علل السياسة الأميركية الوطنية والبارزة، وهي استنكاف نحو نصف الجسم الانتخابي الأميركي، أي نحو مئة مليون مواطن بالغ، عن المشاركة في الاقتراع. ويحمل 52 في المئة من عيِّنة الاستطلاع، وهما ضعفا الذين يرون رأي حاكم تكساس السابق في الضرائب وتحريك الاقتصاد عن طريق خفضها يحمل هؤلاء الرئيس المنتخب على مفاوضة المعارضة الديموقراطية على برنامجه وعلى أولوياته، وربما يدعونه الى المفاوضة على طاقمه الاداري والسياسي، وهو اختار اركانه من بين أخلص خلصائه وخلصاء أبيه الرئيس الأسبق وتفوق نسبة دعاة المفاوضة نسبة من يرون ان التفويض الانتخابي جلي وقاطع، بكثير 11 نقطة. وتتضافر هذه النسبة العالية مع قلة أنصار خفض الضرائب، على رسم صورة مضطربة للتكليف السياسي الذي حظي، ويحظى به خليفة الرئيس كلينتون على الرئاسة الأميركية. وليس مصدر الاضطراب الفوز الضيق الذي نصَّب جورج بوش الثاني رئيساً. فمثل هذا الفوز، على فرق قليل، مقسوم في معظم رؤساء نصف القرن الأميركي الأخير. والفرق بين الفائزين السابقين وبين الرئيس الثالث والأربعين، مرده الى تركيب الناخبين الذين حملوا المرشح الجمهوري الى الرئاسة، وقدموه من طريق "كبار" الناخبين وبواسطتهم على نائب الرئيس السابق، آل غور. فناخبو حاكم تكساس، المرشح بوش، هم أهل الجنوب إذا استثنيت ولاية فلوريدا، وبعض الولايات القريبة مثل تينيسي وكينتاكي، وهم سكان ولايات الجبال الصخرية نيفادا، يوتاه، مونتانا.... ومعظم هذه الولايات قليل السكان، باستثناء فلوريدا المتنازعة، ويدخل في باب البلاد الزراعية ولعل هذا هو السبب في مجيء كثرة الناخبين الكبار، وناخبي بوش تالياً من "الربع الخالي" السكاني الأميركي إذ يمثل كل سبعين ألف ناخب عادي في هذه الولايات ناخب "كبير" واحد على حين يمثل الناخب "الكبير" 250 ألفاً من ناخبي الولايات الكبيرة والمأهولة. أما ناخبو آل غور، أي كثرتهم، فهم من ولايات الشمال الشرقي وولايات البحيرات الكبيرة والشمال الغربي. فهم أهل مدن كبيرة ومختلطة الأقوام والأعمال والثقافات، من وجه، ويحتاج معظمهم الى "المصالح العامة" والمشتركة، مثل النقل والاتصالات والتوزيع والتأمين، حاجة شديدة، من وجه آخر. وشطر كبير من هؤلاء الناخبين يعملون في المصالح المشتركة هذه. فهم أشبه بجمهور الأحزاب الديموقراطية الاشتراكية الأوروبية. ومن يتعاطى منهم العمل والشأن العامين إنما يتعاطاهما في المنظمات غير الحكومية، وروابط التأليب الضغط أو "اللوبي" وجمعيات حماية البيئة، ويتعاطاهما كذلك في النقابات والحركات النسائية والكنائس السوداء. وهؤلاء ليسوا ديموقراطيين، على نحو ما دل ترشح رالف نادر، نصير حماية البيئة، واقتراع مليوني صوت وستمئة ألف له. ولكن كثرتهم من أنصار المرشح الديموقراطي. فنحو ربع المقترعين مصدرهم النقابات، واقترع ثلثاهم لمرشح الحزب الديموقراطي. و16 في المئة من الناخبين هم، في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، من السود الافريقيين. واقترع تسعة من عشرة منهم للديموقراطي. وقريب من هذا حال الناخبين "الملونين" الآخرين. الجمعيات البروتستانتية ونظير الجمهور الديموقراطي وصبغته "الفيديرالية"، وانتسابه الى القاسم المشترك الاتحادي بين الولايات المدن، المصالح المشتركة...، غلبت الجمعيات الدينية البروتستانتية على ناخبي المرشح الجمهوري. وحصة ناخبي "الحلف" المسيحي من المقترعين الفعليين لا يقل عن الربع. واقترع شطر كبير منهم، لا يقل عن ثلاثة أرباعهم، لبوش الإبن. ويستوقف في الاقتراع الكثيف هذا انصراف هذه الفئة من المحافظين عن الاقتراع للمرشح "المتطرف" المحافظة، بيوكانان. فالمحافظون فضلوا الاقتراع "المفيد"، وآثروه هذه المرة على الاقتراع "الايديولوجي". ويعزى انتصار حاكم تكساس السابق على نائب الرئيس منافسه في ولايات تنشط فيها النقابات، مثل بنسيلفانيا وأوهايو، الى انحياز جمعيات حيازة السلاح الناري الفردي الى المرشح الذي أجاز، بحكم منصبه حاكماً إحدى أكثر الولايات أحكام إعدام، إنفاذ أحكام إعدام بلغت في الأشهر القليلة التي سبقت انتخابات الرئاسة بضع عشرة حكماً. فأصحاب السلاح الناري الفردي، ويبلغ عددهم 40 في المئة في بعض الولايات، اقترع 60 في المئة منهم لمجيز أحكام الإعدام وإنفاذها. فإذا جُمع أنصار "الحلف" الديني وأهل البلاد الزراعية والريفية والولايات القليلة السكان، الى دعاة حمل السلاح الناري الفردي والمسنين والبيض 58 في المئة من البيض اقترعوا للمرشح الجمهوري، ائتلف من هؤلاء، أي من أجزائهم الغالبة وشطورهم رسم جانبي لأميركا الجمهورية في العام ألفين يغلب عليه، أي على الرسم الجانبي، التحفظ من الدولة الفيديرالية، والنازع القوي الى تقييدها وتقييد يدها عن "الولوغ" في مداخيل المواطنين وعوائد استثماراتهم وودائعهم وأعمالهم. وهذا معنى رفع المرشح الجمهوري التعجيل في خفض الضرائب شعاراً انتخابياً بارزاً عوض خفض عجز الموازنة الفيديرالية الذي حظي بتقديم آل غور وترجيحه، واقترحه الرئيس السابق كلينتون خطة للسنوات الآتية. واقتصار أنصار التعجيل في خفض الضرائب اليوم، أي غداة انتخاب بوش، على ربع المستفتين قد يدل على أن الرئيس المنتخب لم يفلح في تخطي النواة المحافظة والصلبة من الناخبين والأنصار. وهذه النواة أتاحت له الفوز على منافسه وخصمه من غير ريب، ولكنها نصيره المتين والوفي الوحيد. وليس من اليسير حكم القارة الأميركية الشمالية، وصوغ سياسات داخلية وخارجية و"امتياز" السياسات الداخلية الأميركية انها تستتبع نتائج خارجية عظيمة الوقع، في ضوء مصالح هذا النصير وميوله وأهوائه. والأرجع أن هذا ما يعنيه ال52 في المئة من المستفتين الذين يميلون الى ضرورة مفاوضة الادارة الجديدة معارضتها الديموقراطية على نهج الادارة المزمع. فلا ريب في ان كثرة من الأميركيين يتوجسون خشية من ميل الرئيس الجديد مع نواة ناخبيه الصلبة والشديدة المحافظة من المتدينين المتزمتين، ودعاة الحق في اقتناء الأسلحة النارية من غير قيد، ومباشري مقاومة الاجهاض بالقوة، والمنكرين فصل الدين عن الدولة، والمنددين بالاختلاط العرقي والجنسي في الجامعات... والحق ان الخشية والتوجس هذين، لم يبخل الرئيس الجديد و"رئيس وزرائه" العتيد، نائبه ديك تشيني الذي اضطلع بدور بارز في اختيار رؤوس الإدارة الجديدة، لم يبخل الاثنان بما يغذيهما وينفخ فيهما. فالثلاثي جون اشكروفت المرشح لوزارة العدل وغيل نورتون المرشحة لوزارة الداخلية وليندا تشافيز المرشحة السابقة لوزارة العمل ينتسبون، من غير تستر ولا تردد، فكراً وعملاً، الى النواة الانتخابية الصلبة والشديدة المحافظة التي يدين بوش الابن لها بالفوز. واختيار بوش الابن وطاقمه مثل هؤلاء، وتوليتهم المناصب التي يعود اليها النظر في العلاقات بين الأعراق والأفراد والبت في الخلافات الاجتماعية، والتحكيم في حقوق الجماعات وحركاتها، إنما يدل باكراً على عزم الرئيس المنتخب على "تسديد" ديونه السياسية، الانتخابية، وديونه المالية التبرعات، الى دائنيه الكثر، على ما ذهبت اليه صحيفة أميركية لا تصدق فيها تهمة "اليسار" هي "ذي وول ستريت جورنال" ومعلقها توم هامبورغير. والى السيد اشكروفت، الذي ثبته مجلس الشيوخ وزيراً للداخلية وأقره على منصبه، يعود انفاذ القوانين التي تحمي عيادات الاجهاض من هجمات أعداء الإجهاض، وبعض هذه الهجمات أسفر عن حرق عيادات وقتل أطباء. ويعارض الرجل الإجهاض، وهو مطلب رفعت النساء لواءه وعدَدْنه كسباً لهن ولحقِّهن في اختيار حياتهن وتدبيرها على النحو الذي يرتأين، في حالَيْ الحمل اغتصاباً وسفاحاً، ولا يراه مقبولاً أو مرضياً إلا في حال تهديد الحمل أو الوضع حياة الأم الحامل. ويؤيد وزير العدل العتيد الصلاة في المدارس كلها، و"التشيك المدرسي" أي المعونة للأهل الذين يرتأون تدريس أولادهم في مدارس خاصة، دينية في معظمها، عوض المدارس العامة أو الرسمية، والحقَّ في اقتناء الأسلحة النارية وينظر الكونغرس قريباً في مشروعي قانونين أحالهما كلينتون على الهيئة التشريعية يقيد الأول شراء الأسلحة بالبريد ويحظر الثاني الأسلحة الهجومية، ويضطلع وزير العدل بدور راجح في مناقشة القوانين التي تتولى أجهزة وزارته مراقبة انفاذها. وعارض اشكروفت، وهو حاكم ولاية ميسوري، تعيين قاض أسود، روني رايت، عضواً في محكمة الولاية العليا. وكان القاضي ردَّ مشروع قانون، ناقشه مجلس الولاية التشريعي، يجرِّم الإجهاض ويدينه، على خلاف اجتهاد المحكمة الفيديرالية العليا وفتواها في الأمر. ويُخمن في ان السبب في موقف حاكم ميسوري السابق من القاضي هو لون القاضي وعرقه، الى ليبراليته. ويؤيد هذا الشك خطبة ألقاها الحاكم في خريجي جامعة تحظر العلاقات بين الطلاب والطالبات من أقوام وأعراق مختلفة. وجملة الأمر في شأن "شيخ المتطرفين،هذا، بحسب إحدى ناشطات الحركات النسائية، انه "ترعرع في أميركا تناهض ثقافة الساحلين الشرقي والغربي وبمنأى من المناطق الحضرية... وكان والده وجده واعظين في كنيسة تجمّع الله التي تحظر على رعيتها التدخين والرقص والشرب"، على ما كتب هوارد فانيمان ومايكل إيسيكوف من "نيوزويك". وأزمع بوش "الأصغر"، على ما تسميه بعض الصحف تودداً، تولية السيدة ليندا تشافيز، المكسيكية الأصل من طريق والدها، وهي ايرلندية الأم. ولكن أصول المرشحة السابقة الى وزارة العمل والبيئة لا تقلل من عدائها السافر للنقابات، ولا مناهضتها "العمل الإيجابي" وهو يبيح التمييز لصالح الأقليات الضعيفة الحيلة، إعداداً وتعليماً وتمثيلاً في الوظائف. وترأست تشافيز رابطة حملت لواء إفراد الانكليزية بصفة اللغة الرسمية وترك الاثنينية اللغوية الانكليزية والإسبانية. وحين اقترحت ادارة بيل كلينتون زيادة تسعين سنتاً على الحد الأدنى للأجر على الساعة كتبت ليندا تشافيز مقالاً وصفت فيه المشروع ب"الماركسي". ولا يخلو قبولها الترشيح الى وزارة العمل، ومراقبة قوانينه وتشريعاته، من التدليس والمراوغة. فهي يوم حملت على مرشحتي بيل كلينتون الى وزارة العمل، زُوويه بيرد ثم كيمبا وود، وأبطل ترشيحهما يومها تفويتُهما سداد ضرائب كانت متوجبة عليهما لحاضنتين بيتيتين وحالهما قريبة من حال ليندا تشافيز اليوم، كانت تشافيز تستخدم المهاجرة الغواتيمالية، المختلسة الإقامة، التي أبطل استخدامها، من غير تسديد اشتراكها في الضمان الاجتماعي، تولي المحازبة الجمهورية وزارة العمل، فاختار الرئيس الجديد إلين تشاو، الآسيوية الأصل، عوض سابقتها الباطلة الترشيح. وتنتمي المرشحة الى وزارة الداخلية، غيل نورتون، الى مناضلي التيار المحافظ، وناشطي اليمين المتشدد. وعلى المثال نفسه من إيلاء خصوم المصالح التي ترعاها وزاراتهم ادارة هذه الوزارات - فيولى نصير إباحة الأسلحة النارية وزارة العدل وتولى وزارة العمل مخاصمة النقابات... يوكل الرئيس الجمهوري وزارة الداخلية الاتحادية الى امرأة كانت وزيرة الداخلية في ولاية كولورادو، ويقدمها على مرشح آخر، من الجناح الليبرالي في الحزب الجمهوري، جون تيرنر، رئيس صندوق صيانة الموارد الطبيعية. وتعتقد السيدة، الساعية في الحصول على تثبيتها في مجلس الشيوخ في منصبها الاتحادي، ان الدمج بين دفاع ولايات الجنوب الأميركي عن الرق وبين دفاع هذه الولايات عن استقلالها عن الحكومة الفيديرالية، وايجابها حقها في هذا الاستقلال، أدى الدمج هذا بها الى اضعاف "فكرة" مقاومة الولايات "امتلاك الحكومة الفيديرالية سلطات كثيرة على حياتنا"، نحن المواطنين والأفراد، على ما قالت قبل أربع سنوات في مركز أبحاث محافظ بولايتها. وتؤيد غيل نورتون التوسع في قطع الأشجار والإنشاءات التعدينية والمنجمية، وحفر آبار النفط في الأراضي العامة، وهي تكثر بغرب الولاياتالمتحدة، وفي المحميات الطبيعية في القطب الشمالي. وتضيق وزيرة الداخلية المزمعة بإنشاء طريق عجلات، في مبنى المجلس التشريعي بكولورادو، خاص بكراسي المقعدين والمعوقين، وتصف الطريق هذا بالزيادة "الدميمة". وعمد الرئيس السابق، بيل كلينتون، الى استباق سياسة الجمهوريين العازفة عن حماية البيئة من الاستهلاك الصناعي المدمر، فوقّع في الأيام الأخيرة من ولايته مراسيم تنفيدية تقضي بحماية الغابات من أعمال الحفر والتنقيب عن المعادن والطاقة. وتنتظر بعض شركات النفط، وهي تبرعة للمرشح جورج والكر دبليو، ولصندوق حملته ب9 ملايين دولار على غرار تبرع شركات الاستثمار ب22 مليون دولار، والشركات العقارية ب17 مليوناً، وشركات الخدمات المالية بعشرة ملايين، ومكاتب المحامين بمثلها، وانفاق شركات الصيدلة والدواء أربعين مليوناً على حملات دعاية تفند خطط آل غور في حقل الطبابة والضمان...، تنتظر هذه الشركات سداد اسهامها في الحملة الانتخابية الباهظة التكلفة التي قادها بوش الابن عن الجمهوريين وآل غور من الديموقراطيين. ولا تخلو ادارة السياسة الخارجية وهي سياسة عالمية، سياسية وحقوقية وعسكرية واقتصادية، بامتياز من خلافات يعود معظها الى ترتيب المصالح الأميركية في الخارج الواسع والمعقد ترتيباً يتفاوت من حزب الى حزب، ومن رئيس الى رئيس، ومن ظرف الى ظرف. ولعل استباق كلينتون السياسة الخارجية الجمهورية، في الأيام العشرة الأخيرة من ولايته، ومصادقته على معاهدة إنشاء محكمة جزاء جنائية دولية تخول هيئة قضائية دولية ومستقلة تعقب مرتكبي جرائم في حق الانسانية على مثال ارتكاباته حرب البلقان، والإبادة العرقية في رواندا، لعل هذه المصادقة مثال على تفاوت الترتيب بين الحزبين، وعلى ضعف سلاسة الانتقال من ادارة الى ادارة. المنطق العسكري العملاني فبينما يأخذ الجمهوريون برأي العسكريين الأميركيين ويتخوفون تقييد المحكمة الدولية خطط التدخل العسكري في المسارح الحربية التي تنتشر قوات أميركية أو قوات مختلطة عليها، تسوغ الادارة الديموقراطية توقيعها المعاهدة اليوم بحجج وأدلة أكثر تعقيداً من المنطق العسكري العملاني. فهذا المنطق يتذرع بتكلفة نشر القوات الأميركية حيث لا تدعو الحاجة الى نشرها، وبانشغال هذه القوات بأعمال "سلمية" تترتب على حفظ الأمن والسلام الداخليين مثل تنظيم السير في جوار مدارس الأطفال ببريشتينا، عاصمة كوسوفو، على ما مثَّلت مستشارة بوش لشؤون الأمن القومي السيدة كوندوليزا رايس فذهب تمثيلها... مثلاً. ومثل هذا الانشغال، السلمي، ليس من شأن الجيش الأميركي. وهو شأن الحرب والأعمال الحربية، إعداداً ودرءاً ردعاً ومباشرة. ويؤدي ترتيب الوظائف والأولويات هذا الى تقليص المشاركة الأميركية في الأعمال الحربية، بما فيها الانتشار الوقائي والفصل بين المتقاتلين. ومن الأمثلة غير الظاهرة دور الاستخبارات المركزية في العلاقات الأمنية الفلسطينية والاسرائيلية، على نحو ما ينبغي أن يؤدي الى قصر الحرب وتعريفها على الأعمال "الجراحية" الموضعية، أو على الضربات الوقائية من غير حاجة الى مرابطة ميدانية. وعلى هذا فالمهمات المتوقعة قليلة، وفي وسع الولاياتالمتحدة الأميركية استباقها. وينبغي إذاً استباقها، على خلاف مذهب الديموقراطيين و"ارتجالهم" سياسة لكل ظرف ويوم، على زعم رايس نفسها في هجائيتها الاستراتيجية. وبعض السياسة الجمهورية هذه لم يعدم مباشرته والأخذ به في ولايتي بيل كلينتون. وهذا قرينة على دوام دور "الهياكل التقنية" ونفوذ أصحابها من مبرمجين ومخططين واداريين، على قول ج. ك. غالبرايت. فالقواعد العسكرية الى ضمور، وقوات مسرح العمليات معظمها رجع الى الولاياتالمتحدة نفسها، وتحديث التسليح وتجديده دأبهما تمكين القوات من توجيه ضربة أولى قاصمة من غير اشتباك ولا تورط في رد قد يطول، والدرع الصاروخية الواقية من صواريخ الدول "المارقة" اختبرت في الأعوام الأربعة الأخيرة وترك الرئيس السابق القرار الفصل فيها الى خلفه. ويرد بعض مهندسي السياسة الخارجية الكلينتونية على صورة الحرب المجرد التي يشيعها ايديولوجيو الادارة الجمهورية، وهي تباين صورتها في مرآة وزير الخارجية الجديد ورئيس الهيئة المشتركة السابق للقوات الأميركية كولن باول. فيقول ديفيد شيفر، سفير كلينتون المتجول لقضايا جرائم الحرب، إن الجرائم الجماعية في الحروب "الداخلية" أو الاقليمية لا تقتصر خسائرها المباشرة، ولا التعويض اللاحق عنها في إطار استئناف الإعمار والإنهاض، على قتل البشر وهدم الحجر. فهي الجرائم الجماعية تصيب "الأبنية الاجتماعية والسكانية" برمتها، وتعطل قدرة المجتمع المبتلي بها على استئناف علاقات سياسية، داخلية واقليمية، مستقلة وعلى قدر معقول من السوية التحكيم السلمي في الخلافات، إنشاء أبنية دولة، الحؤول دون استشراء الفساد، حفظ النوع من الأوبئة الفتاكة.... ومحاربة الجرائم الجماعية وحروب الإبادة، من طريق محكمة جنايات دولية ترعى الدول القوية إنفاذ مذكراتها وأحكامها، جزء من وقاية مجتمعات كثيرة، بل متكاثرة، من السقوط في الفوضى "الأهلية" المتمادية والمدمرة التي تتربص بها في أنحاء كثيرة من العالم. وعلى هذا ف"الحرب" - وهي حروب كثيرة الصور والأشكال - سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية قبل أن يختصرها العسكريون في عمليات جراحية، وضربات أولى، وأهداف دقيقة. والعراق، وايران قبله، ولبنان قبلهما، والسودان، واريتريا، والصومال، وتشاد، وليبيريا، وسييراليون، ويوغوسلافيا السابقة، وبلدان البحريات الكبرى الافريقية، أمثلة ماثلة وراعفة على حروب لا يُدرى أين تبدأ، ولا يدرى على أي صور تستمر ولا كيف تنهى وتوقف. ويخلص شيفر من وصفه الحروب الجارية الى أن السياسة الخارجية الأميركية، وموقعها ودورها على ما هما عليه، لا مهرب لها من مواجهة أحوال وأوضاع تفترض السياسة الناجعة بإزائها "حماية حقوق الانسان، والحؤول دون وقوع إبادة جماعية" حتى بعد انسحاب القوات الأميركية أو المختلطة. وهذا محال إلا بإشراك قوات عسكرية ميدانية ومرابطتها. ويذهب الديبلوماسي التارك الى أن من مهمات السياسة الأميركية، على كثرة وجوهها، الاسهام في إنشاء أنظمة قضائية محلية تتولى النظر - على شاكلة المحكمة التي أقرت الجمعية الوطنية الكمبودية إنشاءها في النصف الأول من كانون الثاني يناير الجاري - في جرائم القادة السياسيين والعسكريين الضالعين في جرائم حرب، أو جرائم في حق الانسانية. فما يصح في "عمل ذاكرة" البلدان والمجتمعات الأوروبية، والبلدان والمجتمعات الصناعية الكبيرة الآسيوية على سبيل المثال، ويصح في نجاعة استئناف فحصها تاريخها ومسؤولياتها عن حوادث هذا التاريخ، يصلح مثله في المجتمعات الفقيرة والمتحدرة من تقاليد تاريخية وثقافية وسياسية مختلفة. فالحرب، على هذا، أمر جدي تلابسه المأساة على الدوام. ولا فائدة ترجى من معالجته بالقوة القاصمة أو القاضية وحدها. ولعل هذا درس من دروس الحرب الباردة الطويلة، وهزيمة الكليانية، ومن دروس "الحروب" الاسرائيلية العربية التي خبرتها الادارة الديموقراطية خبرة طويلة وقريبة. والقوة القاصمة تؤدي الى القلعة الحصينة والمعتزلة، أو هي تفترض مثل هذه القلعة. ولا يسع الولاياتالمتحدة الاميركية اعتزال العالم، بديهة، ولا الإنكفاء على قلعتها، على ما قد يُفهم من بعض وجوه الإدارة الجمهورية الجديدة، ومن نازع بعض أعيانها. ولو حُمل العالم على أسواق مالية ونقدية وانتاجية، وأخرجت منه أبنيته الاجتماعية والثقافية الموروثة - والأمران ممتنعان ومستحيلان - لما صح تدبيره في ميزان المصالح الاميركية وحدها أو على قياس هذه المصالح. وتحقق الاجراءات الاقتصادية الانتقالية، وما رَشَح عن خطط مساعدي بوش الاقتصاديين، بول أونيل وزير المالية ولاري ليندسي مستشاره الاقتصادي، وهما صاحبا مشروع الخفض الضريبي الكبير، الى رئيس مجلس الاحتياط الفيديرالي منذ 1987 ألان غرينسبان، تحقق هذه الاجراءات استحالة سياسة القلعة الحصينة. فالاحتفال الذي استقبل قرار غرينسبان، في 3 كانون الثاني الجاري، جعلَ الفائدة على الودائع 6 في المئة، وهو الإجراء الرابع في سنة واحدة، وخفضها نصف نقطة والإجراء، قياساً على أرباع النقطة سابقاً، قوي، لم يلبث الاحتفال أن هدأ. فالمديونية الاميركية، أسواقاً مالية وميزانية فيديرالية، كبيرة على نحو قد لا تكون حتى سياسة تخفيض العجز التي أشار بها كلينتون وعزم غور على انتهاجها لو قيض له الفوز، ناجعة. فخسرت الأسواق المالية، في 6 كانون الثاني، شطراً كبيراً من أرباحها في الثالث منه. ويتوقع باحثون اقتصاديون، اميركيون وأوروبيون، توجه الاقتصاد الاميركي، إذا قدمت الادارة الجديدة فعلاً معيارها الداخلي وحده، الى فقء "الفقاعة" المالية الناجمة عن "نشوة" أسواق المال، على ما سمى غرينسبان ارتفاع أسعار الأسهم عشية أزمة 1998 الآسيوية. ويرتب هذا سياسة "ضمور" ما زالت مستمرة، في اليابان منذ عقد كامل من السنين. وعندما رد الرئيس الثالث والأربعون على "مزاح" سلفه بالقول: "المهم انني فزت" - وكان هذا قبل امتحان وزرائه وقبل ظهور علامات المعارضة الديموقراطية العامة - جاء رده أشبه باللقب الذي لقبه به خصومه عندما ابتدأ حملته الانتخابية. ولكن "الهياكل التقنية" هي سند السياسات الرئاسية الاميركية، وهي ملهمتها. وتنبئ هذه الحال بعثرات غير "سلسة". * كاتب لبناني.