هل الزمن طريق للذهاب فقط، ام للذهاب والاياب؟ يعتقد معظم علماء الفيزياء، بمن فيهم آينشتاين، ان "التمييز بين الماضي، والحاضر، والمستقبل، عبارة عن وهم"، باستثناء إيليا بريغوجين Prigogine الحائز جائزة نوبل في 1977، فهو يؤكد مثلنا جميعاً؟ ان سهم الزمن يمضي قدماً الى الأمام، ولا يتراجع. وبوسعه البرهنة على ذلك، على الأقل لأنه لم يشاهد سهماً عاد من هدف مرماه الى قوس راميه! لكن ماذا لو كان علماء الفيزياء، بمن فيهم آينشتاين، على صواب، ولو كان بريغوجين ونحن معه - على ضلال؟ إذاً لكانت علاقتنا مع الزمن أكثر فانتازية وسوريالية من علاقة أبي تمام به في قوله: كأنني حين جرّدت الرجاء له غضاً صببت به ماء على الزمن أو قوله: كانوا برود زمانهم فتفرقوا فكأنما لبس الزمان الصوفا أم أن معظم علماء الفيزياء، بمن فيهم آينشتاين، على صواب، بالفعل؟ أي ان الماضي والمستقبل متناظران؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلا شك في أن نظريتهم هذه ستبلبل أذهان فقراء الى الله في شؤون الفيزياء من أمثالنا. فنحن لا نجرؤ على الشك في صدقيتهم كما لا نرى دليلاً الى صحة مقولتهم. يقيناً اننا لا نستطيع ان نصدق علماء الفيزياء في هذه المقولة العجيبة التي تؤكد ان لا فرق بين الماضي والحاضر والمستقبل، اللهم الا في عالم الذاكرة أو الوعي. فالوعي واللاوعي يستحضران أحداث الماضي وتداعياته في كل لحظة من لحظات الحاضر. أي ان الحدود بين الماضي والحاضر تُلغى في وعي الانسان ولا وعيه. وهكذا يتعامل الأدب أيضاً مع الزمن والمكان والحدث. وقد انعكس هذا في كثير من النصوص الروائية منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، لا سيما في كتابات جيمس جويس وانثيالات اذهان أبطاله في ما عرف بتيار الوعي، وفي "الذكريات الحسية" عند مارسيل بروست، التي تستنهض بعض الأحداث أو الوقائع الماضية. فيصبح "الرحيل" الى الماضي ضرباً من اليوتوبيا يتيح للانسان فرص الافلات من اسر الزمن الذي يمضي بنا نحو الشيخوخة والموت وتخفيف كآبة الحاضر: كما حصل مع بطل رواية البحث عن الزمن المفقود عندما ذكرته كعكة المادلين بعمته ليوني حين كانت تغمس قطعة من هذه الكعكة في كوب الشاي وتقدمها له. فبواسطة الذاكرة، وبواسطة الأدب، يتحقق ضرب من الانتصار على الزمن، وعلى الموت. لكن هذا كله يدخل في باب "المعقول" و"العقلاني" في التعامل مع الزمن. اما الانتقال الفيزيقي، الحسي، الى الماضي والى المستقبل القريبين او البعيدين فمن أساطير علم الفيزياء، وبات مألوفاً في قصص العلم الخيالية. مع ذلك ان احداً من علماء الفيزياء لا يؤمن بالرحلات الزمنية، على رغم انهم يؤمنون بالتناظر الزمني. ففي حين يؤكد العالم الفلكي - الفيزيائي ستيفن هوكنغ ان "الفيزياء متناظرة زمنياً"، فهو لا يرى بأي شكل من الأشكال ان الرحلات الزمنية ممكنة، لأننا "لم نتعرض الى غزو من سيّاح قادمين من المستقبل" ليراقبوا أو يغيروا أحداثاً تأريخية. وفي عام 1971 كتب لاري نيفن Larry Niven، مؤلف الروايات العلمية الشهير، يقول: "اذا أجاز عالَم الخطاب امكان الرحلات الزمنية وامكان تغيير الماضي، فلن تُخترع ماكنة زمن في ذلك العالم". وتُعرف حكاية "السيّاح القادمين من المستقبل" ب"مفارقة الجماهير المتراكمة" بين كتّاب القصص العلمية الفانتازية، بعد أن طرحها روبرت سيلفربيرغ Silverberg في عام 1969: كلما ازداد تدفق رحالة الزمن الى الماضي، فإن القلق سيزداد بشأن تزايد الناس المتجمعين في أحداث تأريخية معينة. على سبيل المثال، ان حدثاً مثل صلب المسيح سيجتذب البلايين من رحالة الزمن، مع ان هذا الحدث لم يشهده ربما سوى بضعة أفراد في حينه. ثم ان الحاضر سيكتظ أيضاً بالزوار القادمين من المستقبل. "سيحل اليوم الذي يزحم فيه رحالة الزمن، الماضي، الى حد التخمة، لسوف نملأ أيام الأمس بأنفسنا ونضايق اجدادنا" سلفربيرغ. وسيكون هؤلاء الزوار سادة الموقف، وستختلط الأمور. وقدم العالم الرياضي الشهير غودل دفاعاً معقولاً ضد مفارقة الرحلات الزمنية. على سبيل المثال ان المسافر الى الماضي القريب سيجد نفسه في حيص بيص عندما يلتقي مع نفسه في مرحلة سابقة من حياته. وقد يقوم بفعل مع هذا الشخص، الذي هو نفسه، لم يسبق له أن تعرض لحدث كهذا. من جهة اخرى يؤكد غودل ان الرحلات الزمنية تتطلب سرعات تفوق التصور، أي انها يجب ان تزيد على 71 بالمئة من سرعة الضوء. ومع ان معادلات آينشتاين تنطوي على تشوهات غريبة في الزمن كأن يتباطأ الزمن كلما أسرعنا في حركتنا، الى حد انه يتوقف اذا سرنا بسرعة الضوء، الا ان هذا لا يعني اننا سنتعرض الى مثل هذه التشوهات على الأرض. لكن من المحتمل، وليس من الممكن، كما يقول العالم الأميركي من أصل ياباني، ميتشيو كاكو، كما زُعم في "عودة الى المستقبل"، ان يتراجع المرء في الزمن ويجد امه واقعة في حبه قبل أن يولد! لكن مثل هذه العوالم الاكوان، ان وجدت، ستكون خارج كوننا المنظور. وسيكون الاتصال بها مستحيلاً لأنها خارج نطاق أشعة الضوء، أي أبعد من أن يصلنا الضوء منها. لكن ماذا سيقول كاكو بعد ان وجدت سرعات تفوق سرعة الضوء؟. والآن، إذا كان الزمن يمضي بصورة أبطأ عندما نتحرك، فهل تطول أعمارنا اذا كنا في حركة دائمة على مدى عمرنا؟... للأسف ان الاجابة عن ذلك تكون بالنفي، لأن هذا لا علاقة له بعملية البلى الشيخوخة البطيئة. ومع ذلك يزعم الفيزيائيون ان الزمن يتشوه كثيراً أو يتعطل في ما يدعى بالثقوب السود، والثقوب السود هي نجوم كبيرة كأن تكون كتلة الواحدة منها أكبر من شمسنا ألف مرة. هذه الثقوب السود لها جاذبية هائلة، الى حد انها تجتذب أو تمتص حتى أشعة الضوء، وتأسرها ولا تدعها تفلت منها من هنا: ثقوب سود، أي معتمة لا يُرى منها شيء. وهناك يمكن أن يكون الزمن عشرة آلاف مرة أبطأ من زماننا. فإذا أردنا صنع ماكنات زمنية، فلنذهب الى الثقوب السود! ولحسن الحظ ان الزمن، عندنا على كوكبنا الغالي، أكثر عقلانية مما هو عليه في الثقوب السود أم اننا أسوأ حظاً؟، على الأقل ليجنبنا التورط في مفارقة الأجداد، التي يُعبر عنها ب"ماذا - لو - قتلت - جدي" المتوفى طبعاً. ولعل سر عقلانية الزمن يكمن في كونه بُعداً لا فضائياً. أم لعلي أهرف وأجدّف فيزيائياً. فعلماء الفيزياء يصرون على اعتبار الزمن بعداً رابعاً، مضافاً الى أبعاد الفضاء الثلاثة، مع ان العالم ستيفن هوكنغ يجد صعوبة في تصور فضاء ذي ثلاثة أبعاد، فما بالكم بأربعة. لكن الكاتب البريطاني المعروف اتش جي ويلز H.G.Wells كان أول من مهد الطريق للرحلات الزمنية في قصته الشهيرة ماكنة الزمن، التي نشرها في العام 1895. ويومذاك لم تكن نظرية النسبية قد ظهرت بعد، وكان حديث البعد الرابع في طفولته. بل ان بطل ويلز، المسافر الزمني، مخترع ماكنة الزمن، استطاع ان يضفي صدقية على مشروعه انطلاقاً من ان "الزمن ليس سوى بعد فضائي". وفي حوار معه يناقشه "الطبيب"، وهو أحد أبطال القصة: "اذا كان الزمن بعداً رابعاً من أبعاد الفضاء، فلماذا اعتُبر وكان يعتبر دائماً شيئاً مختلفاً؟". وفي الاطار نفسه يخاطب "عالم النفس"، وهو بطل آخر من أبطال القصة، المسافر الزمني في قوله: "انت تستطيع ان تتحرك في اتجاهات الفضاء كلها، لكنك لا تستطيع ان تتحرك في الزمن". وهذا هو بيت القصيد وسر المغالطة. لكن المسافر الزمني، مع ذلك، فاجأهم بعد أيام بعودته من رحلته الى المستقبل البعيد، التي رواها لهم بالتفصيل. وتعكس ماكنة الزمن لويلز ذهنية متقدمة لكاتب كتب القصة في نهاية القرن التاسع عشر، مع ان ماكنته كانت بدائية متخلفة أشبه بالدراجة الهوائية. يصف المسافر الزمني كيف كان الزمن يمضي في رحلته الى المستقبل البعيد، وهو بعد في ماكنته الزمنية: كانت الليالي والنهارات تمر بين طرفة عين وأخرى. وكانت الأشجار تنمو وتتغير بلمح البصر، وترتفع المباني في الفضاء ثم تزول كما في حلم، ويتناوب الصيف والشتاء بلحظات أيضاً. ثم تحط ماكنته في عالم من البشر متقدمين علينا بمراحل، لأنهم يعيشون في مستقبل لا يزال بعيداً جداً عنا. انه مجتمع "شيوعي" كما يصفه المؤلف. لباسهم موحد، ورؤوسهم بلا شعر، ولا تجد فرقاً - في المظهر على الأقل - بين ذكورهم وإناثهم. غذاؤهم الفاكهة فقط فهم نباتيون، وهي فاكهة غريبة. وكذلك زهورهم غريبة، ونباتاتهم. وليس ثمة معالم من الصراع الطبقي أو الاجتماعي. ولم يكن بينهم أناس مسنون. ولا تجد حوانيت أو ورشات عمل. لكنه وجد تحت هذا العالم تحت نفق عالماً آخر، دونه مستوى. المالكون في الأعلى، والمعدمون في الأسفل. كانت هذه القصة فاتحة أدب الرحلات الزمنية في القصص العلمي الخيالي. ومع ان لهذا الأدب قراءه، الا انه يبقى مفتقراً الى الصدقية، لأنه يخرق قانوناً للطبيعة، هو سهم الزمن. فحتى لو تباطأ الزمن أو تسارع فإن هذا لا يعني العودة الى الماضي أو الانطلاق الى المستقبل البعيد. وهنا يكمن الفرق بين الأدب والعلم. الفن يتسامح مع الفانتازيا والمغالطات والوقائع المنافية للحقيقة، في حين لا يتساهل العلم مع أي شيء من هذا. أنت تستطيع أن تكذب وتلفق في الأدب، لا سيما في الشعر، لكنك لا تستطيع أن تفعل ذلك في العلم. لهذا قيل قديماً "أعذب الشعر أكذبه". أما في العلم فإن أي معادلة، أو نظرية، أو رسالة علمية، تعتبر باطلة اذا اكتشفت ثغرة فيها. وهنا تحضرني مقارنة بين الذهنية العلمية والذهنية الفنية، كما رواها أحد رجال العلم: كان العالم Heinz Pegal مدعواً الى حفلة عشاء في مدينة نيويورك، وكان هو العالم الوحيد بين جمع من الكتّاب والمحررين والمثقفين. ودار الحديث عن مجلة نيويورك ريفيو أوف بُوكس، فأثنى عليها وقال انه معجب بها، لكنه اعترف بأنه لم يستطع أن يتذكر أي شيء مما قرأه فيها. ان ما فيها من معلومات يدخل في مخزون ذاكرته لمدى زمني قصير ولا يلبث طويلاً في ذاكرته. ويعتقد أن السبب في ذلك، على رغم جمال الأساليب وعلى رغم مستوى النصوص الرفيع، هو انها تعبر عن فكرة شخص واحد حول تفكير أو فاعليات شخص آخر. وأكد أن ما يتذكره هو أشياء تدخل في إطار المفاهيم والحقائق، وليس أفكار أو أذواق أو تصرفات البشر، العابرة. مثل هذه البدائه لا ينبغي ان تكون موضوع اهتمام الناس الجادين، الا كتسليات ثقافية. فران الصمت على الحضور، وشعر بأنه معزول، وان الصدع بين العالمين الثقافيين - العلم والانسانيات - اتسع على نحو كبير. وشعر كأنه أساء الى قدسية معابد الضيوف الآخرين. فحاول ان يروي نكتة لينقذ موقفه من هذا الوضع الذي لا يحسد عليه، الا انه لم يفلح. * كاتب عراقي مقيم في لندن.