الأرضُ جوادٌ أخضرْ يصهلُ بعد الموتِ ويضربُ فوق التلِّ حوافرهُ الأرضُ سنونوةٌ سوداءْ تفّاحة خوفٍ زرقاءْ وجنونٌ يحمله العقلاءْ الأرضُ بساطٌ ممدودٌ يلعبُ فيه الطِفلُ وتسعى فيه الأفعى تُطوى كالغيمِ وتُنْشَرُ كالمرعى والأرضُ بقيّةُ ما داسَتْ من عِنَبِ الكرمةِ أقدامُ العصّارينْ شابَتْ كالثّلجِ وأرسَلَ فيها النارَ مدبّرُها فغَدَتْ ثلجاً مشتعلا تتلألأ فيه الشمسُ وتلتمع السكّينْ ويُقالُ بأنّ الأرضَ انبثَقَتْ من أسفل هذا الوادي وسَمَتْ صُعُداً نحو الريحان 1 وأقام اللّهُ على كتفيها العرشَ ومدَّ سماءً فوقَ الماءْ وأشارَ فسالت نحو البحرِ الأنهارُ وكان البحر عظيماً وجميلا يكمنُ فيه الدرُّ وتختلجُ الحيتانْ وأشارَ لنا لنكونَ هنا/ نحن الآباءْ نحنُ الآباءَ الأبناءْ أصلَ الخلقِ النبأَ الرؤيا آدمَ والقدرَ الأوَّلَ والإنسانْ وبقايا ما تركَ الطوفانْ في قريتنا....: فارَ التنّورُ هُنا وأنا أعرفُ في أيِّ منازلنا صَعَدَ الماءُ وكُنّا في الفُلْكِ فلمّا هَدَأتْ ومضى غَضَبُ الأزمانْ وَرَسَتْ فوق الجوديِّ خَرَجْنا لنعيدَ الأرضَ لسيرتِها الأولى كنّا الزُرّاعَ لها ومنازِلَها وفؤوس الحطّابينْ أشجارَ اللوزِ وموسيقى خالصةً أنزلها اللّهُ ولقّنها للطيرِ وعلّمها للنهرِ وللأشجار وبوقِ الريحِ وأُرْغُنِ أضلاع الشربينْ فتعالَيْ لنعودَ الأصلَ ونحن الأهْلُ تعالَيْ وارمي في شَفتيَّ الشعرَ لأمدحَكِ فأنا مدّاحُ جمالِكِ سيّدتي ومُغنّي النارِ على الأنهارِ وسدِّ الماءِ وأوّلُ عشقٍ حَطَّ على القلب المسكينْ وأنا الطفلُ أَضَعْتُ قديماً في أحيائِكِ وجهي ومشيتُ طويلاً ضِعْتُ على عتباتِ الدهرِ وجِعْتُ وغَسَّلْتُ الأحجار بدمعة أحزاني وأَتَيْتُ لأطلب أن تمنحني عيناكِ براءة أوطاني فهمستِ لنا: كونوا عشّاقاً وقرابينَ، وصلّوا ركعتكم في العشقِ وركعتكم في الدمِّ وكونوا آخِرَ حرّاسِ التكوينْ نحن كَسَرْنا قرنَ الثورِ وأوثقنا عجلَ بني إسرائيلَ الى صخر الوادي وقتلناهُمْ بالكلماتِ فماتوا رعباً خلفَ مغاورهم قبل الطَلَقاتِ فأغمدنا فوق حناجرهم سيف الصلواتِ ودمدمة التوّابينْ أرأيتَ قطيعاً يمشي فوق تلالِ "عَرَبْصالينْ"2؟ يمشي كالظلِّ ويأمره الراعي فيكون كأطيافٍ تَسْعى بين الكثبانْ وثغاء خِرافٍ تشفعها الأجراسُ كأنّ عروسَ النهرِ تُزَفُّ لفارسِها فَسَأَلْتُ لِمنْ هذا العرسُ الربّانيُّ ومَنْ سيّدُ هذا الحفلِ الفتّانْ؟ فأشاروا لفتىً تحت ظلالِ الأشجارِ وحيداً يدخُلُ بين الأغصانْ وعلى قدميهِ نما العشبُ وخَرَّ الماءُ وحقل الألغامِ ازَّيَّنَ حتى عاد أليفا وركَضْتُ، فأسرعَ في خطوتِهِ وصرخْتُ: تمهّلْ: فأنا لستُ غريباً عنكَ ولستُ سوى ذكراكَ على أرضِ طفولتنا وبكيْتُ ولكنّ الأرض انشقّتْ ومضى، لا أعلمُ أينَ؟ خفيفاً كان كنسمةِ فجرٍ وبشوشاً كالشمسِ إذا انبثقتْ من بينِ الغيمِ ومذعوراً كخطى الغزلانْ ومضى يركضُ نحو الوادي ليُقيمَ هناكْ: أسمعُ تضحك أشجار الجوزِ لمقدمِهِ يسقيه النهرُ وتحرسه الأفلاكْ وأرى يصنعُ من أغصانِ الكرمةِ ما يشبه مهداً وينامْ لا تنتظروا أن يأتي بعد غدٍ أو بعد مشيبِ الأيامْ سينام طويلاً وستؤنسه في وحدتِهِ شمسُ الأحلامْ 2/1/2001 1 الريحان: اسم جبل الريحان المشرف من جهة الشرق على قرية عربصاليم في الجنوب اللبناني. 2 عربصالينْ: هي عربصاليمْ كما يلفظها العامّة. ولعلّ اسمها الأساسي هو "الرب سلم"، سابق على دخول "قبيلة عاملة" اليمنيّة الى الجنوب اللبناني، وعائد الى أيام "الهكسوس". * شاعر لبناني.