إذا كنت تهوى مشاهدة المدن وهي تصغر فما عليك إلا حجز مقعد إلى جانب الشباك عندما تسافر بالطائرة. أمّا إذا كنت تهوى مشاهدة الدول وهي تصغر فإن ذلك سيكلفك كثيراً من الآلام نتيجة الدّماء، الحروب، الفقر، المجاعات، وربما الانقلابات. أرخيت ظهر المقعد قليلاً الى الوراء وأسندت رأسي بإعياء عليه. تذكرت العراق، فلسطين، لبنان، الجولان والوطن المسيّج بالغزاة. تذكرت وجهك الهارب منذ 12 سنة. تذكرت وجهك والأندلس. كلاهما يرقد خامداً بين تلافيف الذاكرة، ليكتنز أكثر ما يمكن من الحنين. لم يكن من بدّ ونحن نعبر الطرف الغربي للمتوسط من الضفة الجنوبية الى الضفة الشمالية مثل طارق بن زياد الذي فتح لنا في أوروبا طريقاً. لم يكن من بدّ ونحن نعبر الى إسبانيا من أن ينهض ذلك الجرح القديم ويُضاف الى جرح الراهن لتتكسّر النصال على النصال على حد قول أبي الطيّب، ولتكبر قائمة الأوطان المفقودة من الأندلس الى فلسطين مروراً بمزارع لبنان، الجولان وشمال العراق. وترميم الجراح بالجراح يحتاج الى متاهات من الحب ويهفو الى وادٍ من الحنين وأنا أفتقد وجهك وأفتقد يدك تدفئ يدي وأفتقد وميض عينيك يسبقني الى الشمس ويضيء أعماق جسدي المعتّمة ويرتّق جسد الوطن المثقوب برصاص القبيلة التي تقتتل في ما بينها من أجل عذرية النساء. زوجي لا يفتقد شيئاً في هذه الدنيا غير هويتي يبحث عنها في الكلمات المتقاطعة ويحاول أن يعوّض عن خسارته في "البورموسبور" ويحلم كل ليلة بفتاة عذراء. وأنا أبحث عن أرض عذراء لم تدنسها قدم ذلك "النتن ياهو" ولم يدركها حصار "كلينتون" ولا تبعيته. زوجي يشك بي عندما أسرح يتصوّر أنني أفكر في رجل آخر. وأنا فعلاً أفكر في رجل آخر، في رجل يستطيع أن يردّ لأطفال العراق لعبهم ويردّ للأرض العربية كبرياءها. أفكر في هذه الدعوة التي وصلتني من إسبانيا وفي الحوار الذي تدعونا أوروبا إليه الآن وتحديداً "الاتحاد الأوروبي". نحن بلدان البحر الأبيض المتوسط وهي اختارت برشلونة لتحتضنه هذه المرّة. حوار الثقافات الذي يراهن عليه الغرب الآن بعدما فشلت كل أنواع الحوارات الأخرى. ولكن حتّى هذا الحوار هل يمكن أن يكون حيادياً؟ أحاول أن أذهب إليه صفحة بيضاء وأقترح على ذاكرتي أن تختار من التاريخ مشرقه وتنسى مظلمه. وجوه الركاب الإسبان حولي تحتفظ بسمرة خاصّة، تأبى أن تكون أوروبية خالصة على رغم العيون الزرق والخضر. هل يمكن أن يكون هؤلاء أحفاد عبدالرحمن النّاصر، عبدالله الصغير ابن عبدون وابن عبّاد والرميكية؟ الشعر الأسود والبشرة السمراء هل هما الشاهد الحاضر دوماً، القائم في دمائهم ليذكرهم بأصلهم لمن أدار ظهره لتاريخه العربي؟ الشاهد الذي لم تستطع يد التاريخ ان تمحوه. تلك اليد التي امتدت الى أكبر جامع في إشبيلية وحوّلته الى كاتدرائية دفنت فيها جثمان "كريستوف كولومبوس" مكتشف تاريخها الجديد ليسمى الآن "كاتدرائية اشبيلية" والذي يطلق على مئذنته الشهيرة اسم "الخيرالدا". سقوط غرناطة لا يسقط من ذاكرتي. وتفر أحلامي مع لوركا: "فوق صفحة الماء تفر أحلامي / باتجاه سمراء غرناطة الصغيرة / إلى ما قبل 12 سنة ترجع أحلامي... وجهك هو هو لم يتغيّر، ذلك النزق الطفولي منتشر عليه وعلى حركاتك. أو أنني أريد أن أقول: تتحرك بنزق طفل يلاحق لعبته، الآن تغيرت اللعبة. صرت تديرها من وراء مكتبك. مكتب رجل أعمال انيق، تتداعى الدنيا على أصابعه ويبقى القلم قدره. لم أخطط للقائك ولكن الصدفة تردنا كل مرة أطفالاً من جديد نحاول إعادة اكتشاف الدنيا ولكن بنية مبيّتة. فتحتَ باباً أغلق منذ 12 سنة فانهارت التفاصيل على عتبة لسانك... كالريح تحاول أن تحملني إلى عتبة أخرى قصيّة وعصيّة عن الكلام. وتدهش إذ تراني أتحول الى زوبعة تقع الريح ذاهلة في شباكي. ويسري الحنين محتفلاً ببعث الجثث، ما أسرع ما استيقظ فيّ كل ميت قديم. رهيبة هبّة الأموات من المقابر في أوصال ليل بارد. إنها ترعبني. لولا يدك التي كانت تجوس في ثنايا شعري وصمتك الصوفي الدافئ يميل علي: "وجهك مدينة شرقية وأنا خارج أسوارها غريب..." وجوه الإسبان حولي منشغلة بأمور أخرى غير سمرتها. أمامي مسافران ما انفكا منذ صعدا الى الطائرة يتحدثان عن المال والأعمال... سقوط غرناطة لا يسقط من ذاكرتي. هل يمكن التراجع نحو المكان القديم. إلى مدينة صرخت صرخة هزّت الليل الجليل ثم سقطت في الرعب البعيد... جسر من الوجع يمتد بيني وبينها... لا مجال للقهقرى. هناك مدن أخرى على حافة الهاوية وأخرى سقطت وأخرى تشتعل. صوت "كارلوس كانو" يصلني من بعيد "كالإشارة التي تسبق ضوء العلامات" يسحرني بتلك اللكنة الأندلسية الآسرة: "آه اشبيلية ما أبعدك / إنك القيد الوحيد الذي أحس به / قيد... قيد... قيد... / استسلمت إليك فاشفقي عليَّ...". تلك الليلة كنت على وشك الاستسلام لك. كان قيداً عمره 12 سنة. وكنتَ على مشارف الفرح وسبقتني راكضاً الى طقس الرغائب الممنوعة. أما أنا فوقفت على العتبات ملعونة من دنيا الرغائب واللذائذ ما دام دمي لم يصفّ من محرمات القبيلة... كنت ما زلت غير جديرة بأجمل الحماقات. أنت تفهم أنني كنت طفلة صغيرة، والآن تغيرت صرت طفلة كبيرة. غرناطة معزوفة قديمة تعبث بدواخلي. كل ذلك لأنك بعيد ولأنك لم تسافر معي. تعرف أنني أكره السفر بمفردي وأريدك أن ترافقني ولا أكتفي بظلك. وأعجز أحياناً عن ملامسة قلب المدينة إذا لم تكن معي. نواقيس ألم الجهة اليسرى من الرأس بدأت تدق من فوق طرف العين حتى أسفل شريان الرقبة. "الشقيقة" على الأبواب. الآن عرفت لماذا يسمونها "الشقيقة". لأنها شقيقتي فعلاً لا تفارقني. هذا الوجه الذي تحول الى قهر بعدما رفع الأطباء عنه أيديهم، لا أستدعي طبيباً إلا ليقول لي: إنه الداء الذي لم نجد له دواء. حتى في أوروبا وأميركا. وهم يظنون أن أميركا هي نهاية العالم. لكن عرّافاً هندياً ما زال يختزن حكمة الشرق القديم، لا يعرف أوروبا ولا أميركا استطاع أن يخفف عني الكثير... أمسكت بالجهة اليسرى من جبيني وظللت أضغط عليها بأصابعي وأعد "الشقيقة" أن أغلق ديوان الماضي مرة واحدة وأرميه في البحر وألا أتذكر ولا أتألم، لا أحزن ولا أفرح، لا أحب ولا أكره... طلبت من مضيف الطائرة كوب شاي وأدرت وجهي نحو تلك الكوة التي تسمى نافذة، تمنيت لو أخرج رأسي منها وألقيه للغمائم البيض والشعاعات الفضية الشفافة لتغسله من وجع التاريخ. ذلك التاريخ الذي لم يعد يعني أحداً غيري على الأقل في هذه الطائرة. أردت أن أدخل طقساً جديداً. امرأة تولد للتو. لا أوجاع ولا ذاكرة. ولكن إذا ما غسلت أنا ذاكرتي وغيّرت نظرتي الى "الآخر" فهل سيغيّر هو نظرته لنا نحن العرب؟ يحضرني قول المستشرق "جورج أورويل" وهو يصف العرب: "هل لهم اللحم نفسه الذي هو أنت؟ هل لهم حتى أسماء؟ إنهم ينبعون من الأرض، يعرقون، يعانون الجوع ثم يغوصون عائدين الى أكوام المقابر التي لا أسماء لها من دون أن يلحظ أحد أنهم ذهبوا...". يتعطل لساني عن أي حوار. قطيعة بحجم البحر... وأنا أحاول أن أعلو فوقها كما تعلو هذه الطائرة ولكن ربما أيضاً كمن يردم البحر بالتراب. * كاتبة تونسية.