1 الاوقات كلها تصلح لزيارة غرناطة. لا يختلف في ذلك ربيع عن صيف. خريف عن شتاء. نهار عن ليل. الاوقات كلها تسمح لغرناطة بالكلام. مبتدئاً بالصمت خلاف ما عودتنا عليه ادبيات عربية حديثة جعلت من الاندلس موطناً للحنين. أو ما احتفظت به كتب الاندلسيين من آلام التهجير الجماعي. باسم المسيحية التي تخلّتْ عن جوهر المسيحية. المحبة. وفي الآلام أودع الاندلسيون صوراً تستحق اعادة قراءة في زمننا الحاضر وما ترمز اليه من بعد انساني. اولاً. سابقاً. كنت نزلتُ غرناطة قادماً من فاس. سنوات الشباب يسّرت قدوماً كهذا. حقيبة خفيفة وجواز سفر لا يحتاج الى تأشيرة. دراهم قليلة. والمسافة خطوات. لم يكن السفر يكتسب مرتبة السر. ابداً. كانت الرحلة الى الاندلس بمثابة زيارة بيوت الاهل. شمالاً. بين الحنين والحلم. والفاسيون وجميع المغاربة. يتداولون الحديث عن غرناطة. او اشبيلية او قرطبة. كما لو كانوا يتحدثون عن اقرب المدن اليهم. بالمتخيل ذاته كنت نزلتُ غرناطة. شبابي اقوى مني. واندلسيتي تدلّ القدمين. لا شيء يمنع عني اندلسيتي. انا المدرك لما معنى ذلك. في زليج العمارة وجبْسِها. في طبيعة العادات. في معجم الألفاظ او. معجم الامثال. في الطبخ المحافظ حتى الآن. على أذواقه. في الموسيقى التي تكاد لا تفارق البيت. وحماسة الشباب تضيف الى كل ذلك لمحة من الشوق. أنزل غرناطة وعلى جبيني ما تبقى من شحوب الرومانسيين. 2 اكثر من عشرين سنة مضت. على آخر زيارة قمت بها لغرناطة. تذكرت طول الفترة وانا أقبل على المدينة من جهة مالقة. في الحافلة تقل الوفد المغربي الى مؤتمر الثقافة العربية. الذي دعا اليه معهد الدراسات والبحوث في برنستون. واشرف على انجازه كل من ادونيس وعبدالله حمودي. حافلة تعبر الهضاب وغرناطة تقترب. برائحة لا تشبه ما كنت تعودت عليه. سابقاً. في عهد الشباب. انني كهلٌ. حقاً. وغرناطة التي تدخلها الحافلة لا اتذكر من عمرانها الحديث شيئاً. ابنية لا تميز المدينة عن سواها. في مدريد. او سان باولو. او ميونيخ. او ستراسبورغ. عمارة موحدة. من نمط يفتقد عبقرية الامكنة. وهو ما لا يريحني. أريد ان اشمّ هواء البيازين. واترك. عظامي تذوب في قصر الحمراء. وبينهما افسح للتخيلات في ترديد مواويل الفلامنكو. هذه العمارة الحديثة تبعدني عن غرناطة التي عرفت. ذات سنوات. وذات. عمر. هو بالتأكيد آيلٌ الى زوال. بهدوء استغرب منه. لو تساءلت. أين أنا؟ لجننت جبال السييرانيفادا على مرأى العين. والثلج. اخ غرناطة. ما يزال هناك. ايضاً. فلا مجال للسؤال عن الأين. سؤالي مستعجل. كيف اصل الى غرناطتي. التي كانت محدودة البنيان. قبل عشرين سنة. بل قبل ثلاثين سنة. تاريخ اول زيارة لي. وانا احمل في جيبي ديوان رامبو؟ حالة الاستعجال لا تظهر على وجهي. لقد تحولت الآيات من مكانها. وهي الآن. في الدواخل. تشتغل. بعيداً. عن الملامح اللامبالية لخارجي. 3 غرناطة بني الاحمر. من ينساها "من بيننا؟ نون الجماعة لا تقتصر على العرب وحدهم. ولا على المسلمين واليهود المتأصلين من جذورهم الغرناطية الاندلسية. انها تدل على كل الذين سرقت منهم غرناطة. قديماً. ولكن الصدى الوحيد لا يزال يتردد في القلوب وفي النفوس. الليلة السابقة على تسليم مفاتيح المدينة الى الحقد. والجهل. والعنف. والدم. هي ليلتنا جميعاً. بلغاتنا العديدة. اليوم. ونحن نرى الى غرناطة. مشوهة في ذاكرة فرق من السائحين. الذين لا يدركون عذابات. الغرناطيين. وهم في اغلال التفتيش يقادون الى حتفهم. غرناطة الماضي. وغرناطة الحاضر. نعم. هي ذي السمة الاولى التي احسستها تنشأ في الصمت. صمتي. هبوب من جهات محجوبة. وقدماي خفيفتان. لم اعد ذلك الفتى المعبأ بالحنين. بالدمع السريع على الكلمات. حالة اخرى. غريبة عن تلك الزيارات السابقة. وعن تلك السنوات التي كنت لم اشعر كل مرة فيها اني من هنا طردْتُ. مغلولاً. يشف اللهاث قفص صدري. ومن الساقين تتصاعد قضبان النار. لماذا استيقظت في نفسي صورة الحاضر. التي لم تكن ممكنة في شبابي؟ حاولت ان اتأمل. بين تقاطعات الحديث مع الاصدقاء. الوافدين. الى المؤتمر. ثم انتهيت الى ان بين شبابي وبين كهولتي. اسفاراً. لربما تحولت الى اسفار ابدية. فيها تجدد ميلادي لمرات. فيها تعرفت على ازمنة ثقافية. سياسية. اجتماعية. حضارية. فيها امتزجت بعالم لا يتوقف عن شد انتباهي الى الاخطاء. وها انا ثانية. في غرناطة. اعيد الرؤية الى مدينة وزيارات. واسئلة لها الألق الذي لا ينتهي. 4 ليس الزمن محايداً. وغرناطة تستحم بدورها في مساء الزمن. شنيلُ الزمن. نهر غرناطة الذي يصب في نهر الوادي الكبير. وصدفة. ظهر وجه خوسي ميكيل. من بين الجموع التي اجلت زيارة قصر الحمراء حتى يسقط الليل. وتضاء نجوم القصر بأبيات ابن زمرك. كان صوت خوسي يصلني بهدوء. وفي اقترابي منه اكتشفت عاشقاً اندلسياً يعيش تبدل الازمنة. لقد فعل الزمن فعله في غرناطة. وها هي نخبة من المثقفين الغرناطيين اصبحوا محتجين على الطقوس التي يحافظ عليها كل من رجال الدين ورجال السياسة. وهم يلتقون في اليوم الثاني من يناير كانون الثاني من كل سنة ليذكّروا بطرد غير المسيحيين وبتخليص المدينة من الصورة الوحيدة لشرورهم. مثقفون يريدون للمدينة ان تتخلى عن عداوة لا تناسب الزمن ولا اهله. ويطالبون بخلق طقوس بديلة لها المحبة والتفاهم. لها النظير البعيد نحو اندلس المستقبل. بعد ان تغذت اجيال على كراهية العرب والمسلمين. هذه اللمعة الفريدة التي وهبها لي خوسي ميكيل. اضاءت لي متسعاً يمكنني من خلاله ان اقترب من الزمن الحاضر في غرناطة. هذا الحاضر الذي تحجبه عني قوافل السياح وهم يتمتعون بعجائب الروايات عن قصر الحمراء. وعن تاريخ البانين واللاجئين. مكان للأساطير الدائمة الحمرة. 5 وقريباً من فندق سراي. الذي كنا ننزل فيه. حديقة محاطة بالطرق السيارة. هناك بعد الجسر. تمثال حديث لأبي عبدالله. آخر ملوك غرناطة. اقيم منذ فترة قصيرة. تحية لأبي عبدالله. لقد تغيرت الصورة الشهيرة المعلقة في الكاتيدرائية. تلك التي تثبت تسليمه مفاتيح غرناطة الى ايزابيلا. الكاثوليكية. كما يسميها الاسبان. صورة ابي عبدالله في الحديقة تحتفل بوداعة الملك الجالس على كرسي قبالة المدينة. عائداً من الهجرة. وامامه تقف فتاة خجولة تمد اليه زنبقة او ياسميناً. لغة الهامش التي اسمعها على لسان خوسي ميكيل. لغة لي. ولك. نحن اصدقاء غرناطة.