نجاح جورج بوش في الوصول إلى البيت الأبيض أثار الكثير من التفاؤل لدى بعض الأوساط العربية المعنية بالعلاقات مع الولاياتالمتحدة. وازداد هذا التفاؤل بعدما أعلن بوش عن تعيين الجنرال كولين باول وزيراً للخارجية في الإدارة الأميركية الجديدة. الذين أبدوا ارتياحهم إلى بوش، تحدثوا عن ثلاث ميزات رئيسية يتمتع بها الرئيس الجديد بالمقارنة مع وليم كلينتون وآل غور. الأولى، هي أنه جاء متحرراً من الفوائد والديون إلى اللوبي الصهيوني، لأنه لم يحظ منه بدعم قوي أو مؤثر، مما يعفيه من العمل على تسديد هذه الديون والالتزامات في المستقبل. الميزة الثانية، ان لبوش ولباول ولبعض مساندي بوش مثل وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر، صداقات ومعرفة بالعديد من الشخصيات العربية. الثالثة، هي أنه لقي تأييداً قوياً من العرب الأميركيين، وانه اختار أفراداً منهم لكي يتولوا المسؤوليات في حملته الانتخابية. هذه الميزات الثلاث يمكن توظيفها، في تقدير الذين أبدوا ارتياحهم إلى رئاسة بوش، في خدمة قضية العرب الأولى، أي القضية الفلسطينية. بالطبع، يقول هؤلاء، ينبغي عدم المبالغة في تقدير احتمالات التحول في السياسة الأميركية تجاه العرب، لأن السياسة الأميركية الشرق أوسطية تقوم على أسس ثابتة من الصعب تبديلها في ظل المعطيات الراهنة، إلا أنه من المستطاع التأثير عليها وتحسينها. وإذا كان للعرب أن يأملوا في إدارة تتجاوب معهم من دون الخروج عن مبادئ السياسة الأميركية، وإذا كان لهم أن يتطلعوا إلى رئيس يمارس شيئاً من الانصاف والاعتدال في سياسته تجاه القضية الفلسطينية، فإنه جورج بوش وإدارته الجديدة. إنه قد لا يكون خطأ أن يتوقع المرء تحسناً طفيفاً في موقف الإدارة الأميركية من القضية الفلسطينية. والحقيقة أنه لا يحتاج الرئيس الجديد أن يفعل الكثير لكي يفضل إدارة كلينتون - آل غور التي كانت، في تقدير الكثيرين، أكثر الإدارات الأميركية في التاريخ انحيازاً إلى إسرائيل. وليس صعباً أن يفضل سياسي أميركي آل غور في موقفه تجاه القضايا العربية، وهو الذي تعهده اللوبي الصهيوني بعنايته ودعمه منذ اللحظات الأولى لدخوله حلبة الانتخابات الرئاسية. ولكن بمعزل عن المقارنة بين بوش ومنافسه، فإن التصريحات والمواقف التي اتخذها هو وكولين باول تجاه القضية الفلسطينية كانت متوازنة خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهذا ما قد يبرر المتفائلين شيئاً من التفاؤل شرط التشديد على ضرورة عدم المبالغة وعدم توقع الكثير من مسؤولي واشنطن الجدد. مزايا الإدارة الأميركية الجديدة قد تكون موضع نقاش، أما المبالغة في الحديث عن هذه المزايا وعن علاقات الصداقة التي تمتد بين واشنطن وبين بعض العواصم العربية تنطوي على عواقب كثيرة. من أهم هذه العواقب، ان مثل هذه الأحاديث قد تتحول أحياناً إلى مقدمة لمطالبة العرب أنفسهم بتقديم التنازلات إلى "الأصدقاء" في واشنطن، بدلاً من أن تكون مدخلاً إلى العكس، أي إلى مطالبة أولئك "الأصدقاء" بإبداء روح الانصاف ومراعاة مبادئ العدالة الدولية في التعامل مع العرب. ومن هذه العواقب أيضاً ما هو نابع من أن صداقة العرب لا تزال حتى الآن تعتبر أقرب إلى أن تكون في واشنطن تهمة يتنصل منها أصحاب المسؤوليات والمصالح والمطامح، بل ان بعض الذين حومت حولهم "شبهة" صداقة العرب بزوا خصومهم في اتخاذ المواقف السلبية تجاه القضايا العربية. وما حدث في الماضي يمكن أن يتكرر في المستقبل. المثال الأفضل على ذلك النوع من "الأصدقاء" هو جورج شولتز، وزير الخارجية في عهد الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان. فعندما عين شولتز وزيراً للخارجية، اثار تعيينه موجة من الارتياح في العواصم العربية، لأنه قيل عندها إنه صديق للعرب، وانه تعرف عليهم وأصبح ملماً بمصالحهم وحقوقهم ومشاعرهم بحكم عمله في شركة "بيجتل" ذات المصالح والمشاريع الضخمة في المنطقة العربية، إلا أن شولتز رد خلال وجوده في وزارة الخارجية الأميركية تهمة صداقة العرب بوضوح قاطع لم يقبل الشك. فعندما أصاب العلاقات الأميركية - الإسرائيلية بعض التوتر في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، لعب جورج شولتز دوراً كبيراً في إزالة ذلك التوتر وتمتين العلاقات من جديد. وعندما اصيب الاقتصاد الإسرائيلي بالمتاعب نتيجة التضخم الكبير خلال الثمانينات، بادر شولتز، الواسع الخبرة في شؤون الاقتصاد، بدون تكليف من أحد وبدافع من حرصه الشديد على سلامة إسرائيل وأمنها الاقتصادي، إلى تشكيل فريق طوارئ من الاقتصاديين الأميركيين والإسرائيليين لمساعدة إسرائيل على التخلص من التضخم وتصحيح أوضاعها الاقتصادية. وفي ربيع عام 1983 فرض شولتز على لبنان اتفاق 17 أيار مايو الذي حابى إسرائيل على حساب المصالح اللبنانية، وأزم أوضاع لبنان الداخلية وعلاقاته مع الدول العربية. وفي عام 1988 مارس شولتز ضغطاً مباشراً ومكثفاً على القيادة الفلسطينية لكي تصدر إعلان جنيف الذي انطوى على الاعتراف بإسرائيل من دون أي مقابل جدي. إضافة إلى ذلك كله، اتخذ شولتز العديد من الخطوات والمواقف المتعارضة مع المصالح العربية والتي دلت على ضرورة الحذر الشديد في اغداق صفة صداقة العرب على المسؤولين الأميركيين وعلى توقع الأفعال الايجابية منهم. إذا كان هناك من سبب حقيقي للتفاؤل بالإدارة الأميركية الجديدة، فإنه لا يعود إلى سياستها تجاه العرب والشرق الأوسط، وإنما يعود إلى سياستها الخارجية بصورة عامة. فإدارة بوش - باول تبدو أقل ميلاً إلى التدخل في مناطق العالم الأخرى من إدارة وليم كلينتون، وحتى من إدارة بوش - بيكر. وتشكل هذه النزعة المحافظة قاسماً مشتركاً لدى باول وكونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي. فباول من معتنقي "استراتيجية المخرج" التي تقول بضرورة العثور على طريقة لإنهاء تدخل الولاياتالمتحدة في أية قضية من القضايا قبل التفتيش عن طريق لبدء التدخل فيها. انطلاقاً من هذه الاستراتيجية يدعو باول إلى الحد من السياسة الأميركية التدخلية. وتشارك رايس زميلها باول تخوفه من تورط الولاياتالمتحدة في مغامرات غير محسوبة ومن تحمل المسؤوليات في غير محلها. من هنا تجد رايس في تحمل الاتحاد الأوروبي الأدوار الأكبر في تحقيق الأمن والاستقرار في أوروبا أمراً يستحق التشجيع والتأييد. الأطراف الدولية التي تريد توظيف القوة الأميركية من أجل مصالحها تجد في نزعة الإدارة الأميركية الجديدة "الانعزالية"، ما يدعو إلى التشاؤم والقلق. ففي بريطانيا، مثلاً، حيث يتطلع الكثيرون من الساسة ومن صنّاع الرأي العام إلى توظيف العامل الأميركي في ايقاف مشروع الاتحاد الأوروبي، وجهت انتقادات شديدة إلى باول ورايس. مجلة "الايكونوميست" 23/12/2000 ذكّرت قراءها باخفاقات الاثنين وبالمواقف الخاطئة التي اتخذاها، وأبدت شكها في جدوى التفاؤلات الكثيرة التي أحاطت باسناد المناصب الأميركية الحساسة إليهما. صحيفة "الغارديان" 18/12/2000 توقعت أن ينظر باول إلى القضايا الدولية من خلال "منظار المصالح القومية الأميركية الضيقة". في إسرائيل هناك قلق صامت، كما يقول بعض المحللين، من الاتجاهات الجديدة في السياسة الأميركية، فهنا أيضاً نشدان لتوظيف القوة الأميركية في اضعاف العرب وحرمانهم لمصادر القوة والتأثير. إن بعض الأطراف العرب قد يجد في التوجه "الانعزالي" الأميركي الجديد ما يثير القلق أيضاً. فمنذ هزيمة حزيران يونيو عام 1967، برز في السياسة العربية من يعتقد أن تدخل الولاياتالمتحدة في الصراع العربي - الإسرائيلي يفيد العرب، وان واشنطن قد تمارس ضغطاً على إسرائيل لاقناعها بتقديم التنازلات إلى العرب، وانه إذا كانت هناك مشكلة في التدخل الأميركي في مجرى الصراع أو التفاوض العربي - الإسرائيلي، فإنها راجعة إلى مواقف المسؤولين الأميركيين تحديداً، وليس إلى النظرة العامة التي تعتنقها النخبة الأميركية الحاكمة تجاه القضايا العربية. بهذا المعيار فإن تدخل كلينتون في المفاوضات العربية - الإسرائيلية قد لا يفيد القضية، بينما تدخل بوش في هذه المفاوضات يفيدها، ومتابعة كولين باول - ابن برونكس - ل"عملية السلام" تختلف عن متابعة دنيس روس - خريج اللوبي الصهيوني "آيباك" - لهذه العملية. أي أن التدخل قد يكون لمصلحة العرب مثلما يكون ضد مصلحتهم. إلا أنه بعد التجارب المريرة التي عرفها العرب في علاقتهم مع الولاياتالمتحدة، بات من المناسب اعتبار أن الانعزالية الأميركية، وليس التدخلية، هي الأساس الأفضل لتطور العلاقات العربية - الأميركية، من هذه الزاوية، فإنه يمكن للدول العربية أن تجد بعض الايجاب في الإدارة الأميركية الجديدة، علماً بأنه ايجاب يحد من مفعوله درجة تدخل واشنطن في مناطق وقضايا عربية أخرى خارج إطار الصراع العربي - الإسرائيلي المباشر. * كاتب وباحث لبناني.