تعمل أنيسة، منذ وصلت الى باريس قبل ست سنوات، خادمة في البيوت. حين أجابت مرة عن فضول إحدى السيدات الفرنسيات اللواتي تدخل بيوتهن، قائلة انها كانت مدرّسة لغة فرنسية في المدارس الابتدائية في الجزائر علّقت السيدة، دون تردد، بأنها كانت ولا شك معلمة "لأميين". ليس لأن أنيسة لا تجيد الفرنسية، فهي متمكنة منها نطقاً وقواعد وبلاغة، بل لأن السيدة أُحرجت من نفسها بالتأكيد، لاستخدامها استاذةً في تنظيف منزلها. يدرك ذلك من يعرف مكانة المدرسة في البناء الذهني لفرنسا الحديثة، حيث هي - افتراضياً وربما "بكرم زائف" كما يقول بورديو - الأداة الأهم للانصهار الوطني العام ومؤسسة "الجمهورية" الأولى. لا أبرّىء السيدة الفرنسية من عنصرية عادية تستوطن التفاصيل اليومية للحياة والتفكير، وتوفرأسهل الملاجئ ازاء كل أنواع الصعوبات، خطيرها وبسيطها. بل أضيف الى التفسير العنصري لردة فعلها تفسيراً آخر يتعلق بالحاجة الى حماية سيكولوجية تجاه اللامعقول. وهي تتجلى هنا في الرغبة في إنكار أو الغاء المقارنة الممكنة، ونفي احتمال القياس على النفس. وقد اتخذت هذه الحاجة هنا شكلاً يعزز ويؤكد النوازع العنصرية. واجهت أنيسة الجواب بصمت ذهول. ليس لخنوع في طبعها أو لخوف على عملها، بل لأن ردة الفعل هذه كشفت أمامها أبعاداً لواقع حالها كانت تداري ادراكها والوقوف أمامها وجهاً لوجه. يعرف الجميع قصص الأساتذة والمهندسين والأطباء والمثقفين العراقيين الذين ينظفون الشوارع في استوكهولم أو يتولون القيام ببعض الخدمات في مؤسسات عامة، مقابل رواتب اللجوء.وهناك منهم من وصل الى نيوزيلندا. هؤلاء طردتهم الديكتاتورية ثم تكفل بالباقي العدوان الأجنبي المديد. أما خراب الجزائر والمغرب وتونس ومصر فيتمثل بحلم وحيد يراود شبّانها: الرحيل. لم تكن أنيسة ساذجة، وهي لم تجد نفسها في وضعية إكراهية قامت في غفلة منها، أو أنها لم تحسب حسابها قبل أن تقدم عليها. بل انها، وهي السيدة التي تجاوزت الخمسين بسنوات، خبرت فرنسا حين كانت تفدها برفقة زوجها الموظف الساعي الى العلاج من مرض عضال قضى عليه بعد حين. ولها فيها أقرباء مستقرون من زمن، يعيشون متفرقين في ضواحي عدة مدن كبرى. وقد لجأت عند وصولها الى احداهن، وهي ابنة عم تعمل مصففة شعر، كي تساعدها على السكن وايجاد عمل. وبدأت أنيسة بالأكثر توفراً وسهولة كسب، أي تنظيف البيوت، آملة أن تجد في ما بعد وضعية أفضل. إلا أن السن وقلة الخبرة بميادين التقنيات الحديثة، حيث قد تتوفر بعض فرص العمل، وانزلاق وضعيتها القانونية نحو الوجود غير الشرعي في البلاد مع انتهاء أمد الفيزا السياحية التي جاءت بواسطتها، كل هذه بددت آمالها فارتضت بالواقع، ساعية الى تحسين شروطه من داخل دائرة المتاح. كانت تعلن على الدوام انها "لن تشيخ هنا"، وانها سترجع الى حيث منزلها الواسع الجميل ومعاش زوجها التقاعدي. يقول عبدالمالك صياد في "الغياب المزدوج"، كتابه القيم والمؤثر معاً، ان خطاب الهجرة، وعلى الأخص منها الهجرة الى أوروبا القريبة، يقيم بين "المؤقت" و"النهائي" التباسا دائما، حدودا رجراجة. كانت أنيسة تتابع بصبر هدفاً بدا غامضاً في البداية. كانت تريد تمهيد الطريق أمام ابنائها، وقد أتوا فعلاً الواحد بعد الآخر، إلا الابن الذي كان مقيماً أصلاً في الكويت. وهذا ذو ميول اسلامية، إلا أن أنيسة تقول مستدركة انه بالطبع لا يشبه في شيء هؤلاء المجانين الذين يرتكبون الأهوال في الجزائر. أما أنيسة نفسها فهي مسلمة بمعنى انها تصوم رمضان لكنها لا تصلي، محتشمة لكن من غير حجاب، متحررة مع تمسك بما تسميه "قيمنا". وهي تتابع الأوضاع السياسية عبر الراديو وتستعير أحياناً جرائد الأيام الفائتة وبعض الكتب، وتتحمس لفلسطين وتمتلك رؤية سوداء لواقع بلادها، التي يتواطأ الجميع على تخريبها، كما تقول، حاجبة ثقتها عن كل الأطراف. وهي تنتمي الى الطبقة الوسطى المدينية والعربية الجذور. فلا تشبه في شيء الكتلة الأعم من المهاجرين القدماء في فرنسا، الذين كانوا على الأغلب من أصول ريفية، وبالنسبة الى الجزائريين: من مناطق القبائل البربرية، كما كانوا مدفوعين بانهيار الزراعة وتوفر فرص العمل في أوروبا. إلا أن ظاهرة الهجرة امتلكت على الدوام تعقيدها العالي الذي لا يلخصه العامل الاقتصادي واحتساب "قوة العمل" المغادرة أو الوافدة، لأن الهجرة تحمل معها أبعاداً ثقافية وسياسية واشكاليات دينية ولغوية، علاوة على القصص الفردية العائدة الى كل انسان. وكان عبدالمالك الصياد قد أسس كتابه على إعادة الاعتبار للبعد المزدوج للظاهرة بوصفها قصة غياب عن البلد الأصلي، كما هي قصة حضور في البلد المقصود: وجهان لعملة واحدة، لا يمكن الفصل بينهما إلا أنهما، واقعياً وعلمياً، دائرتان أو موضوعان للفهم والبحث. وفيما تتوفر المؤلفات في ما يتعلق باحدهما، ذاك الذي يتناول المهاجرين في بلد الوفود، يغيب الآخر بما يشبه غياب أصحابه عن المكان، فيزداد "انحراف" الدراسات الأولى المتوفرة، نحو معالجة المسألة انطلاقاً من مشاكلها وليس بمنطق الادراك الاجمالي لها. أما اليوم، فيضاف الى التعقيد الأصلي للهجرة، المستمد من تاريخ الاستعمار الطويل، وبالنسبة الى الجزائريين - وهم الكتلة الأكبر من المهاجرين في فرنسا - من وقائع حرب التحرير الوطنية البالغة العنف وما تحمله من مُضمرات يزيدها صمتاً وتشابكاً الهجرة الى البلد المستعمِر والصعوبات الخاصة بأوضاع المهاجرين، يضاف الى هذه كلها تعقيد جديد يتعلق بأوضاع الجزائر الراهنة. تبدو أنيسة وابناؤها، وآخرهم وصل منذ أيام، تجسيدا لمرحلة جديدة في الهجرة وفي خطابها معاً. وكانت أزمة حادة تتعلق بالخطاب حول الهجرة قد طُرحت منذ نهاية السبعينات، مع انقضاء الزمن الذي كانت فيه الهجرة، كما يقول الصياد، تجد مبرراتها الشرعية والتخفيفية في قيمة التحويلات النقدية التي يرسلها المهاجرون الى عائلاتهم وأقاربهم في الجزائر والتي كانت، ولزمن، تعادل أو تفوق قيمة عائدات البترول. نسيت هجرة أنيسة وعائلتها تماماً العناصر المرتبطة بهذا البعد الاقتصادي، وهي تتجاوز البعد الآخر المستمد من الأزمة العامة التي دخلتها الجزائر مع نهاية الثمانينات، والتي انتجت خطاباً شديد الارتباك، يدين "الجبناء" الهاربين من الوطن، الباحثين عن الخلاص والأمان، بينما تغرق البلاد في الفوضى والدماء. يبدو الخطاب المرافق للهجرة وكأنه يستقر اليوم على عري كامل. لا يبحث عن مبررات ولا يسوق أوهاما. انه يأس حزين يعبر عنه الاندفاع الى الرحيل بأي ثمن. وهو بالنسبة الى آلاف الشبان المغاربة مأساة القفز في قوارب الموت التي ترد أخبارها كل يوم، حتى باتت مألوفة معتادة مناظر الأجساد الفتية الغريقة. مئات تلفظهم كل شهر أمواج شواطئ اسبانيا، وآخرهم ما زال البحث جارياً عنه. اما بالنسبة الى أنيسة وأمثالها، وهم كثر، فقد وفّر لهم وضعهم الميسور نسبياً تجنب القفز في قوارب الموت، بل وفر لهم فرصة الحصول على أذونات سفر، مقابل وساطات أو رشوات. وهو يؤشر الى وصول الموجة النابذة في بلادنا الى فئات وشرائح اجتماعية جديدة، لم تكن هي موضوع الهجرة التقليدي حتى الآن. يقول الوافد الأخير: لم يكف انقطاع الماء لمعظم ساعات اليوم، وهي المشكلة التي لم تجد لها حلاً بعد أربعين عاماً من الاستقلال، لم يكف انهيار الاقتصاد بفعل الفساد المعمم، وانهيار التعليم والمرافق العامة، لم يكف التباس القتل والقَتَلَة، بل بدأت الكهرباء بالانقطاع المديد. أمازحه: يعني هذا تمسكاً بشعار "كهربة الريف" العتيد؟ أي ريف؟ لقد انقطعت في العواصم... ما هي حدود الدائم وحدود المؤقت يا ترى؟ أي إيذان هذا بالخراب!