ثمة قطيعة بين الادباء المغاربة والادباء المشارقة، اذ ان هناك مثلثاً يتحكم باللعبة، والزوايا الثلاث تتكون من المغرب العربي تونس - الجزائر - المغرب من جهة، وهو رأس الزاوية الاولى، والزاوية الثانية هي فرنساباريس، والزاوية الثالثة هي بيروت. ولكن عملية "تدوير الزوايا" - حسب تعبير المثقفين اللبنانيين - تغيّر الصورة، وهكذا يتحول المثلث الى دائرة، حيث تتم في بيروت ترجمة الكتب المغربية لإعادة تصديرها وتوزيعها في بلدان المغرب. وهكذا يفقد المثلث زواياه وتصبح الدائرة بديلاً عنه، مع اربع نقاط متتالية هي: المغرب - باريس - بيروت - المغرب. وكأن اللقاء لا يتم الا عبر وسيط أوروبي: فرنسا عامة وباريس على الاخص. يولد ادباء المغرب في بلدانهم، ويتلقون دراسة عربية - فرنسية، ويتوجهون الى باريس للدراسة، ويبقون هناك، ويختارون الفرنسية اداة تعبير، ويكتبون بالفرنسية لجمهور هجين هو مزيج من عرب وفرنسيين. ينتمي الطاهر بن جلّون الى الادباء المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية، وهو واحد من ادباء الجيل الثاني" وللتذكير فقط، يمكن ذكر ابرز الادباء المغاربة الذين اختاروا اللغة الفرنسية: كاتب ياسين ومالك حداد ومحمد ديب وجان عمروش وطاووس عمروش ومولود فرعون ومولود معمري ونبيل فارس وجان سيناك وعزوز بيفاغ وآسيا جبّار ورشيد بوجدرة الجزائر" الطاهر بن جلّون وعبدالكبير الخطيبي وإدريس شرايبي المغرب" عبدالوهاب المؤدب وألبير ميمي وشمس نادر تونس. والكاتب الطاهر بن جلّون هو الاكثر غزارة بين الكتّاب المغاربة، فهو روائي معروف وشاعر وصحافي وباحث، فهو الذي كتب: "حرّودة" و"الإنكفاء المعزول" و"أشجار اللوز ماتت من جراحها" و"الذاكرة المستقبلية" و"محا المجنون، محا العاقل" و"صلاة الغائب" و"الكاتب العمومي" و"إبن الرمال" و"ليلة القدر" و"يوم صمت في طنجة"... من جهة اخرى، نشر بحثين هما: "أعلى درجات العزلة" وهو كتاب مستوحى من اطروحة دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، ناقشها المؤلف في شهر حزيران يونيو سنة 1975، في جامعة باريس السابعة وهي تتحدث اي الاطروحة عن البؤس العاطفي والجنسي عند المهاجرين من شمال أفريقيا، والكتاب الثاني هو: "الضيافة الفرنسية" والعنوان بحدّ ذاته معبّر. يمكن اعتبار الكتاب الجديد للطاهر بن جلّون، على انه الجزء الثالث من ثلاثية تتعلق بوضع المهاجرين المغاربة في فرنسا، فبعد الكتابين السابقين، يأتي كتاب "العنصرية كما شرحتها لابنتي" لكي يتمم هذه الثلاثية. وعلى الرغم من صغر حجمه، استطاع هذا الكتاب الصادر في كانون الثاني يناير 1998، ان يكون بين الكتب الاكثر مبيعاً في فرنسا" حسب مجلة "لوبوان"، والتي تصنف الكتب الاربعين الاكثر مبيعاً، وبعد مرور تسعة عشر اسبوعاً على صدوره ما زال يحتل المرتبة الرابعة، اما مجلة "الاكسبرس" والتي تصنف الروايات في قائمة على حدة والابحاث في قائمة اخرى: فإن هذا الكتاب هو في المرتبة الثالثة يسبقه كتاب "حكمة التحديثيين" والذي وضعه لوك فاري وأندريه - كونت سبونفيل، والكتاب الثاني هو "ضد النار" للمؤلف بيار بوربيو. ان كتاب بن جلّون الجديد يذكّر بكتاب أنيس فريحة: "إسمع يا رضا"، فبينما روى أنيس فريحة لولده حكايات القرية، فإن بن جلّون يروي لابنته ميريم قصة العنصرية عمودياً وأفقياً، عبر التاريخ ومن خلال الحاضر. ويقول المؤلف بن جلّون أنه اعاد كتابة هذا النص خمس عشرة مرة، لكي ينشر كتاباً من ستين صفحة موجهاً الى الاولاد بين سن الثامنة والرابعة عشرة، ولكنه كتاب موجه للبالغين ايضاً. تسأل ميريم والدها: ما هي العنصرية؟ فتأتي الاجوبة متفاوتة بين بساطة الشرح وصعوبة المراجع كما سيرد الحديث لاحقاً. العنصرية هي مزيج من الشعور بالتفوق او النقص، وهي موجودة عند الطرفين، ان مثل هذا الجواب يذكّر بكلام ميرسو، بطل رواية "الغريب" لألبير كامو، الذي يجيب صديقته ماري متحدثاً عن باريس قائلاً "إنها قذرة، هناك حمام والجدران سوداء والناس جلدهم ابيض". ميرسو الفرنسي الاصل والجزائري الاقامة لم يجد تعبيراً آخر سوى هذا التعريف بالفرنسيين. ان الانسان هو عدو ما يجهل، من هنا يتحول الخوف الى مصدر رئيس للعنصرية، تماماً كما في حالة جان - ماري لوبان الذي يسعى الى اثارة الخوف لدى الفرنسيين. ص: 11. وهذا الخوف من الغرباء هو في اساس تصنيف الناس بحرف الباء المكرر ثلاث مرات Beurs, Blacks, Blancs وهم على التوالي عرب الجزائر في فرنسا وأهل مقاطعات ما وراء البحار، وأخيراً البيض الاجانب" وهذا ما يولّد رُهاب الاجانب Xژnophobie. ويقول بن جلّون مخاطباً ابنته بأن الانسان لا يولد عنصرياً ولكنه يصبح كذلك مع الوقت، مستعيداً افكار جان - بول سارتر دون ذكره، ولا ادري اذا كانت ميريم قد فهمت ذلك كما ينبغي. ويتوقف المؤلف عند التمييز العنصري ويشرح اصل كلمة غيتو ص: 19: "ان كلمة غيتو هي اسم جزيرة صغيرة في إيطاليا، مقابل مدينة البندقية. وتم ارسال اليهود الى تلك الجزيرة سنة 1516، بعيداً عن بقية المواطنين غير اليهود". ويقول المؤلف ان كلمة عنصري لا اساس علمياً لها، وليس هناك اعراق بل هناك جنس بشري ومجموعات بشرية. وهو لن يلبث ان يتحدث عن الاستنساخ، لكي يستنتج بأن "الغنى يكون في التنوع" ص: 27. ويتطرق المؤلف الى الحروب الصليبية العنصرية باسم الدين ومبادرة البابا يوربان الثاني في إعلان الحرب سنة 1095 انطلاقاً من مدينة كليرمون - فيران، وكذلك يتطرق للحديث عن حروب الكاثوليك ضد المسلمين في إسبانيا. - من هو العنصري؟ يجيب بن جلّون قائلاً: "العنصريون مقتنعون بانتمائهم الى مجموعة بشرية اكثر تفوقاً من المجموعة المجابهة لهم" ص: 28. اما الاديان السموية فهي تبشّر بالمساواة، وهناك فرق كبير بين العنصريين والاصوليين والمتعصبين. ويتوصل المؤلف الى المعادلة التالية: ان العنصرية هي وليدة الخوف والجهل والحماقة. ومرةً اخرى يعود الى سارتر لكي يقول: "العنصرية هي الجحيم"، وهي وليدة الانانية ايضاً" ويعطي المؤلف امثلة لفظية ذات مغزى عنصري" "الاسود قوي كسول جشع وقذر"، "الصيني قصير اناني وقاس" و"العربي عدواني وخائن". ان العنصرية هي بحاجة دائماً الى كبش محرقة، وهذا ما يفسّر شعارات جان - ماري لوبان الذي يقول ان ثلاثة ملايين عاطل عن العمل هو نتيجة وجود ثلاثة ملايين اجنبي" هذه اللهجة العنصرية هي التي كانت وراء وصول هتلر الى السلطة مدّعياً تفوق العنصر الآري" وطالما ان الحديث يدور حول الحرب العالمية الثانية" كان لا بدّ من الحديث عن التطهير العرقي ص: 43 الذي اصاب الارمن مليون ضحية واليهود خمسة ملايين والغجر المنحطين عرقياً وكذلك التطهير العرقي لدى الصرب الذين ذبحوا البوسنيين المسلمين. ص: 44. ويستشهد المؤلف بتعايش العرب واليهود والبربر في المغرب، ورفض الملك محمد الخامس تسليم اليهود الى حكومة فيشي بقيادة الماريشال بيتان الذي كان يريد ترحيلهم الى معسكرات الاعتقال. ويصل الحديث الى الاستعمار وخاصة استعمار الجزائر، فيدور الحديث عن "فضائل" الاستعمار: "ان المستعمرين يبنون بضع طرق وبضع مدارس وبضعة مستشفيات. ... والمستعمر ينمّي ما يساعده على استغلال طاقات البلد المحتل". ص: 51. هذه الجملة الاخيرة تذكّر من دون ادنى ريب بحديث مصطفى سعيد موسم الهجرة الى الشمال اذ يقول: "انني اسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، وقعقعة سنابك خيل اللنبي وهي تطأ ارض القدس. البواخر مخرت عرض النيل اول مرة تحمل المدافع لا الخبز، وسكك الحديد انشئت اصلاً لنقل الجنود. وقد انشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم". ويتوقف المؤلف عند قصيدة لجان عمروش، الشاعر الجزائري تقول: "لقد اخذوا كل شيء من الجزائريين / الوطن والاسم / اللغة والقواعد المقدسة للحكمة / التي تحدد سير الانسان / من المهد الى اللحد، / اخذوا الارض والقمح / الينابيع والحدائق / خبز الفحم وخبز الروح / رموا الجزائريين خارج كل وطن انساني / حوّلوهم الى ايتام / حوّلوهم الى سجناء / سجناء حاضر من دون ذاكرة ومستقبل". في الصفحات الاخيرة، يتحول كتاب بن جلّون الى كتاب تربية مدنية مملوء بالنصائح التربوية الموجهة الى ابنته وزملائها، مستعيداً تعابير سارتر في حديثه عن الانسان العنصري، فهو اي هذا الانسان جبان وقذر. امضى الطاهر بن جلّون حياته وهو يكتب بالفرنسية عن المغرب، ليعرّف الفرنسيين على عالمٍ آخر، كانت رواياته تريد ان تقول للقارئ الفرنسي، ان هناك املاً من التقارب والتلاقي بين عالمين اثنين، ولكنه اكتشف اخيراً ما هي العنصرية. ولكن اذا كان المؤلف يريد ادانة العنصرية موجهاً كلامه الى ابنته العربية المغربية، فما معنى الحديث بالفرنسية !. ولكن هذا الكتاب هو مؤشر، ربما، على تحول في حياة الطاهر بن جلّون، وربما، يمكن القول ان بن جلّون قد يتحول الى الكتابة بلغته الام العربية، تماماً كما فعل كاتب ياسين عندما اختار العودة الى الكتابة اللغة الامازيغية او رشيد بوجدرة الذي تحول الى الكتابة بالعربية. بانتظار ذلك، ينبغي قراءة هذا الكتاب... Tahar Ben Jelloun - "Le Racisme expliquژ ˆ ma fille"; Paris, Seuil, 1998