المنصف السويسي ثلاثون عاماً ونيف من العطاء والابداع، عطاء لا يعرف حدوداً. فالرجل رجل مسرح في كلّ ما تعني الكلمة. فمن التمثيل "سكابان" في مسرحية "حيل سكابان" و"فاروق" في مسرحية "الهاني بودربالة" الى الاخراج "راشمون" للكاتب الياباني اكورو واكوتاغاوا 1968 و"ديوان الزنج" للكاتب التونسي عز الدين المدني 1972، "باي باي عرب" و"باي باي لندن" للكاتب المصري نبيل بدران 82 و85 و"آقدساه" للكاتب المصري يسري الجندي 1989، مروراً بالكتابة المسرحية "رحلة جحا الى جزيرة النزهاء"، "يا ثروة في خيالي"، "صهيل"، "ميت حي"... وقد أسس السويسي بعض المسارح والفرق في ارجاء تونس منذ العام 1966. وللمنصف اسهامات في تأسيس المسرح العربي بدءاً من مساهمته في المسرح الاهلي القطري ومسرح الطليعة الكويتي والمسرح الوطني في دولة الامارات العربية المتحدة، اضافة الى اسهاماته في تأسيس "اتحاد الفنانين العرب" دمشق 1986 وتأسيس "اتحاد المسرحيين العرب" في بغداد 1986 وكان أول امين عام له. ومن اجمل مواسم عطائه تأسيسه مهرجان قرطاج المسرحي في العام 1969 وقد ترأسه حتى الدورة الثالثة عشرة عام 1993. المّت بالمنصف السويسي أخيراً وعكة صحية اقعدته الفراش وجعلت اصدقاءه في تونس والعالم العربي على شيء من القلق حياله. هنا يتحدّث المنصف الى "الحياة" كما اعتاد ان يتحدّث بجرأة وطرافة. لتكن البداية من تلك الآه التي اطلقتها في اختتام ايام قرطاج المسرحية لعام 1993 وقلت يومها "آه من الايام"؟ - سأبدأ بآه... آه من المسرح، فهو في الحقيقة عمل مضنٍ ومرهف وصعب وحساس جداً، لا بد من ان نتعامل معه بعشق جنوني، عشق لم يكن يوماً ولن يكون هواية لأنه لا يحمل شيئاً يستهوي الانسان سوى ذلك الارهاق والتعب والعذاب. وهو ليس بحرفة لأنه ركوب مغامرة. فالحرفة لها استقرارها وماهيتها وضوابطها وقوانينها وتقاليدها. انه بحث وتجريب باستمرار وركوب مغامرة لاكتشاف المجهول، والمسرح عشق سرمدي او لا يكون. ومن هنا يفرض علينا ان ننقطع له تماماً، فهو لا يريد ان يزاحمه في التفرغ له فن آخر. وينبغي ان تنسى عطشك وجوعك وتنقطع له كلياً، أي ذهنياً وروحياً وحسياً وفكرياً. وكلما استطعت ان تعطيه من جهدك النزر القليل، فانه يمنحك سعادة تتلمسها او تشعر بها من خلال توجهك الى اسعاد الناس وارضائهم. والمسرح لا بد ان يكون استفزازاً للناس وخروجاً عن السائد. اذاً هو عملية تقدم باستمرار في سبر اغوار الانسان وأغوار الجماليات والتقنيات وما يمكن ان يبدعه الفنان الذي لا يبقى فناناً في اعتقادي اذا فقد مباغتة نفسه بنفسه. اي ان لحظة الابداع التي تأتي غصباً عن الفنان هي التي تشكل النشوة لديه فينسى ذلك الارق والتعب وينتشي بتلك اللحظة... لحظة اكتشاف ذلك المجهول الذي نبع منه عن طريق البحث والتجريب. وينبغي ان يكون الانسان مسكوناً وربما مريضاً "مازوشياً" مثل المخرج الذي يرهق الممثلين بتدريبهم... هذا مخرج سادي، وفي الحقيقة هو نفسه "مازوشي" لانه يدربهم من دون ان يتعب. فلذلك هناك ناحية "مازوشية" ايضاً. هذا يعني ان هذه الاعوام الثلاثين من الآهات العذبة، فيها العذاب العذب كما يقول المرحوم عبداللطيف عقل، والمسرح عذاب عذب ونحن نتلذذ بعذابه، وهذه السنوات مملوءة بالكثير من التجارب. بعد ثلاثين عاماً من المواسم المسرحية في تونس والعالم العربي، كيف تنظر الى تلك المرحلة؟ - كيف تريدني ان انظر اليها!! اعتز بأن منحني الله تعالى الصحة والقوة لانجاز كل هذا العمل، فانا لم اتوقف عنه بصفة مستمرة. وانا من الذين لا يستطيعون ان يعيشوا خارج دائرة المسرح. فأنا أكاد اتنفس مسرحاً... اصحو مسرحاً... اتكلم مسرحاً... اعيش مسرحاً في شكل يومي ومن دون انقطاع على امتداد ثلاثين سنة ونيف. هذا هو الصدق في التعامل ان صح التعبير. وعلى رغم اعتزازي بالنتائج التي حققتها، الا انني ما زلت ابحث عن الاجمل والافضل لأن طموحي لا يقف عند حدود. فتلك السنوات التي مضت كانت سنوات عطاء وحصاد كمواسم الارض. وما هي اجمل المواسم التي بقيت عالقة في الذاكرة؟ - ليس هناك موسم اجمل من الآخر. ولا يمكن القول ان "واي" هي المسرحية التي عاشت اكثر مع الناس ونالت اهتمام النقاد والباحثين ورجالات المسرح. "واي" هي المسرحية التي شكلت نقلة في المسرح العربي. ربما في الموسم الاول كانت مسرحية "الثاني بودربالة" التي شكلت في حد ذاتها موسماً لأنها خلقت جمهوراً عريضاً في مدينة الكاف اولاً ثم عبر تونس. وهناك مسرحية "راشمون" التي كانت تجربة اردت من خلالها ان اغيّر رؤية المسرحيين التونسيين الذين لم يكونوا يرون سوى المسرح العربي ولم يلتفتوا الى المرجعيات الغربية في الخارج. اشتغلت "النو الصيني" و"الكابوكي الياباني" وهما نوعان شكلا نقلة نوعية في تناول العمل المسرحي من خلال التقنية في الكتابة والاداء والاخراج. اضافة الى مسرحية "الزير سالم" لما فيها من تعامل مع الموروث الحضاري من القصص والروايات والاساطير القديمة ومحاولة التأهيل لتأسيس كيان مستقل للمسرح العربي. وقد اردفتها بمسرحيات اخرى من خلال تعاوني مع الكاتب المسرحي التونسي عز الدين المدني والمتمثلة في "ديوان الزنج" ومسرحية "الحلاج" ومسرحية "مولاي السلطان الحسن الحفصي". وكان هدف هذا البحث تثبيت هوية وخصوصية تميزان المسرح العربي عن بقية المسارح الاخرى. من خلال العلاقة الجدلية بين هاجس الفنان وحركة التاريخ، كيف ترى خصوصية مسرح هذه المرحلة؟ - لا اعتقد ان هناك مسرحاً صالحاً لكل زمان ومكان. وحتى المسرحيات القديمة مثل الكلاسيكيات التي ثبتت قيمتها وتأكدت عبر الزمن واستطاعت ان تتخطى الحدود، انطلقت من محليتها ولامست العالمية. والمسرحيات التي بقيت متحدية الزمن، هي مسرحيات ستقرأ من جديد، بمعنى ان تسلط عليها رؤية ذاتية وخاصة من ناحية الاخراج. فجدد المخرج بذلك مفاهيم تلك المسرحية. اي انه يخضع تلك المسرحية لأدواته التعبيرية الاخرى لتأخذ ابعاداً جديدة ربما لم يفكر فيها المؤلف نهائياً. هنا اتذكر مقولة الكاتب عز الدين المدني عندما اشار الى ان نظرة المخرج الى النص نظرة وصائية استبدادية، لكن يبدو ان لكم رأياً مخالفاً؟! - النص موجود ومتوافر. والكاتب المسرحي قادر على تطويع عمله الابداعي. لكنه ينظر الى هذا النص دائماً بحسب مرحلته وزمنه. وهنا اتكلم عن النصوص القديمة، عن نصوص كتّاب رحلوا منذ القرن الخامس ق.م. وعندما اتطرق مثلاً الى "أوديب" سوفوكليس فانا اقوم بعمل اخراجي من خلال واقعي وتكويني ومفاهيمي، وبالتالي فأنني اطوع ذلك النص من خلال ادواتي التعبيرية الفنية. ثم ان هذه المسرحيات الكلاسيكية القديمة ذات كثافة وتضاريس وابعاد كثيرة حتى يمكن ان تجد هذا المخرج قد سلط الضوء على البعد "السيكولوجي" للشخصيات، فقوم بقراءة سيكولوجية للمسرحية. هكذا ترى العمل هنا يأخذ بعداً خاصاً. هناك مخرج آخر يبحث في تركيبة العلاقات الطبقية في المسرحية. فيركز على الجانب السياسي او المادي او التاريخي فصبح الاخراج من نوع ثان. اذاً لكل تركيبة اجتماعية خصوصياتها وانا عندما اقوم بعمل ما انطلق من مخيلتي، لماذا؟ لأنني اريد اولاً ان اعطي الاولوية لتواجدي في المكان بخصوصيته ومناخه الخاص ثم التفاعل معه. وانطلاقاً منه اتفاعل مع الناس في مناطقهم سواء كانت تونس ام العالم العربي. اي ان الغوص في المحلية أو الالتصاق بالواقع المحلي هو طريقنا الى العالمية. هكذا كان شكسبير وسوفوكل وكل الذين اثّروا في مجرى تاريخ المسرح وفي محطاته الكبرى. وهم علامات التراكم الانساني العالمي. فمن هذا المنطلق علينا ان نغير المسرح لانه يغير الحياة. هل حققت التجربة المسرحية للمنصف السويسي المعادلة الصعبة بين المسرح الذي يحمل فكراً وصيغاً فنية جمالية متقدمة وبين النجاح الفني والجماهيري؟ - في كثير من الاحيان توصلت الى تحقيق هذه النتيجة والتي هي فعلاً معادلة صعبة، ومن حق المسرحي ان يفشل لاننا لا نملك اتفاقاً مع الابداع. ماذا عن المسرح التونسي، وهل يعيش نهضة كما يراها بعض المسرحيين الرواد؟ - اعتقد أننا كما نعيش نهضة في بعض النواحي نعيش انتكاسة في نواحي اخرى. انا لا أفهم مسرحاً بلا جمهور أو مسارح بلا مسرحيين او حتى الحديث عن مسرح من دون حضور للمسرح في اهتمامات الانسان التونسي. فكما يهتم الانسان بتفاصيل حياته اليومية، ينبغي ان يهتم ايضاً بفكره وروحه لكي يسمو ويحقق انسانيته. وهنا يتبادر الى ذهني سؤال وهو. هل يحتل المسرح حيزاً من اهتمامات الانسان التونسي واحساسه؟ اعتقد اننا لم نتوصل الى هذا. كانت هناك فورة بدأت في الستينات ثم اختفت تدريجاً. الا ان هناك استنهاضاً للهمّة ولكن لا ينبغي ان تقتصر على من هم داخل المسرح فقط، بل ان تهتم بالمسرح في بعده السوسيولوجي، وعلاقته بالانسان في حضوره اليومي وباحتلاله مكانة في اهتمامات الناس وحياتهم اليومية. وهذا لا يمكن ان يكون الا عبر خطة شمولية يلعب فيها الاعلام الثقافي دور الاسد ويكون المسرحيون في الطليعة، ويعدلون ما يمكن تعديله في تعبيرهم وفي اساليب بناء خطابهم، حتى يحقق هذا الخطاب الجمالي الفني التواصل المفترض.