لا يثير الكثير من الاستغراب تحول موضوع القمة العربية إلى لغز تحتار فيه الافهام، فقد أصبح معتاداً ان تثار تكهنات من حين إلى آخر عن احتمالات أو امكانات عقد هذه القمة، خصوصاً عندما تجد في الأمور العربية أمور تستدعي التشاور والتنسيق، ناهيك عن اتخاذ موقف. وفي الغالب الأعم، يبقى الموضوع في حدود التكهنات والتوقعات والأمنيات، ولا يعرف أحد على وجه اليقين لماذا لم تعقد القمة التي راجت التكهنات في شأنها، ويحاول بعض المراقبين أن يجتهدوا في الإجابة على السؤال عبر تفسير وإعادة تفسير هذا التصريح الرسمي أو ذاك، ومن خلال قراءة ما بين سطور كلام مسؤول عربي أو آخر. ولكن هذا الاجتهاد في البحث عن تفسير لعدم انعقاد القمة يأخذ في بعض الأحيان منحى إلقاء اللوم على دولة عربية أو أخرى واعتبارها المسؤول عن تعطيل العمل العربي المشترك في مستواه الأعلى. والاجتهاد بطابعه قد يصيب وقد يخطئ. ومن الطبيعي أن يبحث المجتهدون عن تفسير أياً يكن طالما غابت المعلومات أو حجبت. ومع ذلك فالملاحظ ان تفسير عدم انعقاد القمة استناداً إلى رفض دولة عربية ما تحول إلى ميل آخذ في الانتشار سواء توافر له الحد الأدنى اللازم من الشواهد أو لم يتوفر. ووصل هذا الميل إلى حد دفع بعض المغرمين بالتنظير إلى تصور وجود نمط أو نموذج معين يقوم على تبادل الدول العربية الرئيية مواقعها في هذا المجال، فعندما يؤيد بعضها عقد القمة، يرفض أو يتحفظ البعض الآخر الذي قد يكون دولة واحدة أو أكثر. وأدى ذلك إلى إغفال معطيات موضوعية تتعلق بالوضع العربي العام وما ينطوي عليه أو يستجد فيه من تفاعلات قد يكون بعضها أكثر أهمية في تفسير عدم انعقاد القمة مقارنة برفض أو تحفظ هذه الدولة أو تلك. ويمكن الاستدلال على ذلك من الاجتهادات التي حملّت مصر المسؤولية عن عدم عقد قمة عربية لمساندة المفاوض الفلسطيني وإعادة تأكيد الثوابت المتعلقة بقضية القدس عقب انتهاء قمة كامب ديفيد الأخيرة في 25 تموز يوليو الماضي. فالأكيد ان ما حدث في كامب ديفيد كان، وما زال، يستدعي عقد قمة عربية، ولذلك كان طبيعياً أن يبحث المراقبون عن تفسير لعدم عقدها. ولكن قد لا يكون طبيعياً حصر محاولات ايجاد هذا التفسير في البحث عن دولة عربية يجري تحميلها المسؤولية وفقاً للميل الذي صار شائعاً وما تصوره البعض - بناء عليه - من أنه خلق نمطاً تقوم بمقتضاه إحدى الدول الرئيسة في العالم العربي بتعطيل عقد القمة وبالتبادل بينها بدرجة أو بأخرى. ولذلك لم يكن تحميل مصر هذه المسؤولية موفقاً. ولعلها المرة الأولى التي تتعرض فيها الدولة التي خلقت سياسة القمة العربية أصلاً في الستينات لمثل هذا الاتهام الذي سبق توجيهه إلى ثلاث على الأقل من الدول الأساسية في النظام الإقليمي العربي. واستند تحميل مصر المسؤولية عن عدم عقد القمة على تفسير ما ورد في تصريح لوزير خارجيتها عمرو موسى ومقارنته بما قاله وزير الخارجية السوري فاروق الشرع خلال زيارته القاهرة يوم 21 آب اغسطس الماضي. ففيما أيد الشرع بوضوح عقد قمة عربية وتحدث عن أن سورية "لا تتردد في المساهمة الجادة في انجاح مثل هذه القمة"، أشار موسى إلى ان موضوع القمة مطروح على الاجتماع الدوري لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية في شهر أيلول سبتمبر. وطالما ان التفكير مركز في البحث عن دولة عربية معوقة لعقد القمة، فقد جرى تفسير كلام موسى باعتباره تحفظاً مصرياً عند البعض - أو رفضاً عند البعض الآخر - على عقد القمة. ولأن منطوق الكلام في حد ذاته لا يدعم هذا التفسير، فقد استند أصحابه على المقارنة بينه وبين ما قاله وزير الخارجية السوري. وذهب بعض هؤلاء إلى أبعد من ذلك، فرأوا ان مصر لا تريد لقمة عربية أن تعقد في الفترة المقبلة، لأنها منخرطة في اتصالات مع الفلسطينيين والإسرائيليين لإيجاد حلول للخلافات التي حالت دون التوصل إلى اتفاق في كامب ديفيد في تموز يوليو الماضي. صحيح ان مصر تشارك في الاتصالات الجارية بحثاً عن حلول للخلافات الفلسطينية - الإسرائيلية، ولكن يصعب تصور وجود تعارض بين دورها هذا وبين عقد قمة، إلا إذا كانت مصر ترتب لتسوية مجحفة بالحقوق العربية في القدس. وهذا بدوره لا يسهل تصوره، وإلا لكانت مصر قد اعطت الضوء الأخضر للرئيس عرفات لتوقيع اتفاق كامب ديفيد. ففي هذه الحال كانت المسؤولية تقع عليه بالدرجة الأولى، فإذا رفضت مصر اتفاقاً مجحفاً بعيداً عنها في تموز يوليو، فهل يعقل أن تسعى إليه بيديها لتتحمل المسؤولية عنه في آب اغسطس أو أيلول سبتمبر؟! ويعرف القريبون من دوائر السياسة الخارجية المصرية أن مشاركتها الفعالة في الاتصالات الهادئة إلى حل الخلافات تجري في إطار قناعاتها وأن الرؤية الأميركية التي طرحت في كامب ديفيد هي التي بدأت في التغير. وفي هذا السياق جاءت زيارة الرئيس كلينتون إلى القاهرة يوم 29 آب اغسطس الماضي. والواقع انه إذا تحررنا من هاجس البحث عن دولة عربية لإلقاء اللوم عليها وتحميلها المسؤولية عن عدم عقد القمة، سيمكننا أن نرى عاملين مهمين يتعلقان بالعلاقات والتفاعلات العربية - العربية ويخلفان أجواء غير مواتية للدعوة إلى اجتماع الملوك والرؤساء العرب في اللحظة الراهنة. وهذان العاملان يتعلق أحدهما بعملية التسوية وتداعيات مفاوضات كامب ديفيد، بينما يتصل الثاني بالأزمة العراقية واثارها على التفاعلات العربية. أما على صعيد عملية التسوية، فالمشكلة ليست في قضية القدس التي يوجد اتفاق عربي شامل على عدم اتخاذ أي دولة عربية موقفاً ينطوي على تنازل في هذه القضية شديدة الحساسية. ولكن المشكلة التي لا يراها من يلقون اللوم على مصر تكمن في عدم وجود اتفاق عربي مماثل على الموقف من إعلان الدولة الفلسطينية من جانب واحد يوم 13 أيلول سبتمبر أو تأجيل هذا الاعلان وما إذا كان هذا الارجاء لأجل مسمى آخر أو غير مسمى. فهناك من يرى إعلان الدولة في الموعد الذي سبق للسلطة الفلسطينية أن حددته أياً تكن تداعياته وبغض النظر عما يمكن ان يترتب عليه من منافع أو مضار، وبعض هؤلاء لن يحرك ساكناً إذا اجتاح الإسرائيليون هذه المنطقة أو تلك واسقطوا فلسطينيين قتلى وجرحى. فهو في المقدمة وقت الكلام والخطب، وهم وراء المؤخرة بمسافات حين يحين وقت العمل والجد. وهناك في المقابل من يفضل تأجيل اعلان الدولة مع التباين في تفاصيل الارجاء ومداه الزمني. وهذا الخلاف بين الاعلان والارجاء قائم بين الدول العربية وفي أوساط السلطة الفلسطينية نفسها، ويستحيل الوصول إلى اتفاق في شأنه خلال القمة. ولذلك كان لزاماً ارجاء عقدها إلى أن تتخذ القيادة الفلسطينية قرارها بالتشاور مع من ترغب في التداول معهم، لأن عقدها قبل ذلك ينطوي على مغامرة بتفجيرها. وأما على صعيد الازمة العراقية، فلقد فاجأنا صدام حسين بمفاجأة اخرى غير سارة كعادته عندما شن حملة متواصلة منذ اول من آب اغسطس الماضي على بعض الدول والشخصيات العربية، وخصوصاً الكويت والمملكة العربية السعودية فضلاً عن الامين العام للجامعة العربية الدكتور عصمت عبدالمجيد. وهذا متغير مهم لا تصعب ملاحظته وادراك آثاره السلبية على الاجواء العربية. فقد اعاد التصعيد العراقي اجواء اول آب 1990 الكئيبة بعد عشر سنوات كاملة. وعاد معها التوتر الذي كان قد خفّ نسبياً والتربص الذي كان قد تراجع درجات. فهذا التصعيد هو الاعنف والاكثر حدة وضراوة منذ الغزو فضلاً عما صحبه من تهديد صريح بتكرار الحدث المأسوي الذي انهى جهوداً جادة شهدها النصف الثاني من الثمانينات لوقف التدهور وبدء مرحلة جديدة في العلاقات العربية. والمهم ان هذا التصعيد جاء بعد ان كانت الكويت قد اسقطت تحفظها السابق على المشاركة في قمة عربية يحضرها العراق الامر الذي ذلّل عقبة لم يكن ممكناً عقد قمة القاهرة عام 1996 في ظلها من دون الوصول الى صيغة اتاحت عدم مشاركة العراق. ولا يعني ذلك ان الكويت استأنفت تحفظها، ولكن اي قمة تلك التي يمكن عقدها في ظل هذا القدر من التوتر الذي خلقه النظام العراقي، واي نتائج يمكن حصدها اذا انعقدت القمة في ظل كل هذا التوتر. الا يكفي هذان السببان لفهم لماذا يصعب عقد القمة هذه الايام من دون الحاجة الى تحميل المسؤولية الى دولة بعينها؟ وعلى أي حال فقد فتح الرئيس حسني مبارك باباً للأمل عندما عبّر في لقائه مع جمع من الطلاب يوم 23 آب اغسطس الماضي عن اعتقاده بإمكان عقد القمة في نهاية العام الجاري او مطلع العام المقبل. * كاتب مصري - مساعد مدير مركز "الاهرام" للدراسات.