أتاحت المعركة الانتخابية في بيروت لسكان العاصمة، استرجاع مفردات الحرب لتوصيف حدة المنافسة التي بلغت ذروتها بين صفوف المقترعين السنة والشيعة، وظلت عادية ومتواضعة في الشارع المسيحي، بينما كادت تقترب في الاحياء الارمنية من الاجواء التي سادت الانتخابات في برج حمود في دائرة المتن الشمالي، الاسبوع الماضي. سيطرت مفردات الحرب على نشرات اخبار وسائل الاعلام المرئىة والمسموعة، واحتلت حيزاً اساسياً من تقارير المراسلين الذين تولوا التغطية المباشرة لسير عمليات الاقتراع في الدوائر الثلاث في بيروت، اذ تحدثوا على تبادل اللوائح الملغومة وتمرير مثيلها من اللوائح المفخخة، فضلاً عن التشطيب الذي تعرضت له اللوائح من الداخل على يد "أهل البيت"، إضافة الى "شبح" رئىس الحكومة السابق رفيق الحريري الذي خاض الانتخابات في الدوائر الثلاث، تنافسه في الثالثة "لائحة العمل الوطني" برئاسة رئىس الحكومة سليم الحص، وفي الثانية "لائحة التوافق الوطني" بقيادة تمام سلام متحالفاً مع "حزب الله"، وفي الاولى ثلاث لوائح واحدة برئاسة فؤاد مخزومي وثانية يقودها سعد الدين خالد وثالثة غير مكتملة اقتصرت على مرشحين. اذ ان ظله هيمن على الجو الانتخابي العام وبقي حديث الناخبين والمرشحين على السواء الذين اجمعوا على انهم يواجهون "كاسحة ألغام" و"بلدوزر" لكثرة انتشار ماكينته التي حضرت منذ الصباح الباكر. فدعوة الحريري الناخبين الى الاقتراع فور فتح الصناديق، السابعة صباحاً، ادى الى اختناق العاصمة، خصوصاً الاحياء الغربية منها، بالسيارات التي تقل الناخبين خلافاً للأحياء الشرقية التي شهدت إقبالاً محدوداً، عزاه المراقبون الى اضطرار المسيحيين الى الذهاب الى الكنائس لكنهم سرعان ما برروا ظاهرة عدم الحماسة بعدم خروجهم من منازلهم الا بعد تناولهم الغداء، على رغم ان عشرات المرشحين المنافسين للائحة رئيس الحكومة السابق سارعوا الى إقامة مكاتب موقتة لهم في الاحياء المسيحية ظناً منهم انهم يستطيعون توفير توازن في الاقتراع لمصلحتهم في مقابل اقتراع السنة بكثافة ل"لائحة الكرامة" التي ابقت المقعد الشيعي في الدائرة الثانية شاغراً لمصلحة مرشح "حزب الله" محمد برجاوي. واللافت ان العملية الانتخابية اجريت في اجواء امنية هادئة، نجحت خلالها وحدات الجيش اللبناني في السيطرة على الموقف ولم تسجل التقارير الامنية سوى حصول اشكالات امام بعض مراكز الاقتراع، عمدت قوى الامن بمؤازرة الجيش الى فضها. ومن ابرز الحوادث تصدي الماكينة الانتخابية لحزب الطاشناق المتحالف مع الحص وسلام ومخزومي، لمنافسيها في ماكينة حزب الرامغفار وتيار الهانشاك الذي هو في نزاع مع تيار آخر في الحزب معارض للحريري. واجريت اتصالات لوقف معركة إبراز العضلات التي قادها الطاشناق وتعرض من خلالها لسيارات تقل المقترعين الأرمن المنافسين له، ومنعهم من الاقتراب من مراكز الاقتراع، ما ادى قبل تدخل القوى الامنية، الى حصول اشتباك بالأيدي بين انصار الاحزاب الارمنية وتطور الى ضرب احد انصار "لائحة الكرامة" محازباً من الطاشناق بآلة حادة. وحصل إشكال بين مؤيدي المرشح محمد برجاوي، ومنافسه الزميل حسن صبرا، تم تطويقه. وتحدثت مصادر الحزب عن لجوء مناصرين للأخير الى ارتداء قمصان ل"لائحة الكرامة"، اخذوا يوزعون اوراقاً بأسماء مرشحيها ادرج بينهم اسم صبرا، على رغم ان الحريري تعهد ادراج اسم البرجاوي في عداد مرشحي لائحته، إضافة الى تعرض نساء من الاكراد لمرشحة "لائحة الكرامة" في الدائرة الثالثة غنوة جلول التي اصرت على البقاء امام مركز الاقتراع وطلبت من القوى الامنية وقف التجاوزات الحاصلة على مقربة منه. لكن الأبرز تميز في حربي الاشاعات والتشطيب اللتين وجدتا في التمرير المنظم لتبادل الأصوات من اللوائح غير المكتملة والمرشحين المنفردين، وبقيتا الشغل الشاغل لماكينات اللوائح الأساسية التي عملت من أجل وقفها واضطرت بسبب تغذية وسائل الاعلام لها، الى الاستسلام لها في عدد من أماكن الاقتراع. وظهرت الملامح الأولى للاشاعات عبر وسائل الاعلام المرئية والمسموعة المناوئة للرئيس الحريري. وبادر تلفزيون لبنان ببث ملاحق انتخابية تحدث فيها عن حصول تشطيب بين مرشحي "لائحة الكرامة" في الدائرة الثالثة غنوة جلول ومحمد قباني، وكذلك بين المرشحين في الدائرة الثانية القاضي وليد عيدو والدكتور باسم يموت. واضطر تلفزيون "المستقبل" الذي كان على علم مسبق من ماكينة الحريري، بوجود خطة علم بها من خلال اختراق الماكينات المنافسة، تحاول اثارة البلبلة بين مرشحي "لائحة الكرامة"، وقد استعد لها باكراً وعمد الى بث حوار مباشر للمرشحين يردون فيها على مزاعم خصومهم، مضيفاً أن عمليات واسعة للتشطيب تحصل بين مرشحي "لائحة العمل الوطني" في الدائرة الثالثة. وأجريت اتصالات غير مباشرة لوقف حرب الاشاعات. وأبدى الحريري تجاوبه مؤكداً أمام مساعديه أن لا مصلحة له بالأخذ بالأقاويل التي يطلقها خصومه، مشيراً الى أن ماكينته مستفيدة من الاستقرار الأمني الحاصل نظراً الى اقبال مؤيديه بكثافة على صناديق الاقتراع، بينما اتصل الحص بقسم الأخبار في تلفزيون لبنان داعياً إياه الى وقف ما يبثه،. خصوصاً ان الآخرين تذرعوا في شنهم الحرب على لائحته بأن تلفزيون الدولة هو الذي بادر بالترويج لها. وعلى خط موازٍ كان لتبادل الأصوات تأثيره على يد اللوائح غير المكتملة والمرشحين المنفردين، اذ ان المراقبين تحدثوا عن صفقة عقدتها جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية الأحباش لمصلحة مرشحها في الدائرة الثالثة عدنان الطرابلسي، تجاوزت تبادل الاصوات مع المرشح المنفرد بهاء الدين عيتاني الى "لائحة العمل الوطني" وحزب الطاشناق، إضافة الى تبادل مماثل تم بين "الجماعة الاسلامية" التي اعتمدت لعبة تجيير الاصوات في الثالثة والاولى، لعدم وجود مرشح لها لمصلحة مرشحها في الثانية زهير العبيدي. في معلومات "الحياة" ان عملية التبادل حصلت على قدم وساق، واحياناً على المكشوف ولم ينج منها حزب الطاشناق الذي اقترع محازبوه بنسبة عالية، استناداً الى البطاقات الانتخابية التي حصلوا عليها، علماً ان الحص اكد التزام الحزب دعم لائحته، نافياً ل"الحياة" خرق الاتفاق المعقود معه، ومؤكداً ان الصورة تظهر على حقيقتها فور الانتهاء من فرز الاصوات. لكن تأكيد الحص قابلته احاديث عن اقتراع محازبون من الطاشناق وبنسبة لا بأس بها لمصلحة غازي العريضي المنافس للوزير عصام نعمان، ولناصر قنديل ضد الوزير محمد يوسف بيضون، إضافة الى تمرير الحزب رزمة من الاصوات للمرشح الطرابلسي على حساب حليف الحص في "لائحة العمل الوطني" احمد طبارة. ويبدو ان الحديث عن حصول خروق مدروسة من جانب الطاشناق، يبقى مادة للاستهلاك الاعلامي في حال اظهرت نتائج الفرز عكس ذلك. وبالنسبة الى "حزب الله"، التزم كلياً "لائحة التوافق" برئاسة سلام الذي جال واعضاءها على اقلام الاقتراع للرد على اشاعات اشارت الى حصول تشطيب. وحصل الحزب على دعم من الحريري في مقابل دعم الاول المرشح الارثوذكسي على "لائحة الكرامة" في الثانية بشارة مرهج الذي يبدو انه يخوض المعركة بعد عزوف نجاح واكيم عن الترشح من باب رفع العتب. وبقي دعم الحريري للمرشح البرجاوي خاضعاً لحرب الاشاعات، ما اضطر الاول الى التدخل لدحضها او لمعالجة خروق من جراء قيام انصار له، بانزال اسم صبرا مكان البرجاوي، مع الاشارة الى ان الحزب التزم دعم الحص شخصياً في الثالثة، ولم يتصرف كأنه يخوض فيها معركة ضد احد، لعدم وجود مرشح له، وهذا ما افسح في المجال امام مؤيديه لتوزيع اصواتهم على المتنافسين. لكن الاشاعات لم تبق في الحدود الجغرافية للدوائر الانتخابية في بيروت، وانما تأثرت مباشرة بالأجواء السائدة في الجنوب، وهذا ما تبين ل"الحياة" من خلال الاتصالات المفتوحة التي اجريت بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري والحريري اذ ابلغه الاول ان عمليات تشطيب يتعرض لها وزير الاعلام انور الخليل وبنسبة اقل، المرشحين المحسوبين على حركة "أمل" و"حزب الله" في الجنوب، على يد مناصرين لرئىس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. واضطر الحريري الى التدخل مع جنبلاط الذي رابط في بيروت مواكباً معركة مرشح الحزب غازي العريضي وأوفد اليه النائب مروان حمادة طالباً منه إعطاء تعليماته لوقف التشطيب في الجنوب لئلا يتأثر بنتائجها العريضي، بعدما سجل المراقبون تعرضه للتشطيب وانما بدرجة مخفوضة، من جانب مؤيدي الحركة والحزب في بيروت. اما في اقلام الاقتراع المخصصة للمسيحيين فإن نسبة الاقبال في الثالثة تكاد تكون غير موجودة، لعدم وجود مرشحين للمسيحيين يحضونهم على الاقتراع بكثافة، بينما بقيت محدودة في الاولى والثانية، من دون ان تسجل نسبة مرتفعة على رغم ان المعركة في الاشرفية وجوارها شهدت منافسة كانت شديدة بين المرشحين المسيحيين سواء كانوا على اللوائح او منفردين، كأن هاجسهم الدخول في معركة مبارزة مباشرة لمعرفة من الاقوى منفرداً في منطقته. ولا يجوز ان يغيب عن معركة بيروت طابع المنافسة الذي لم تحجبه التصريحات المتتالية لسلام عن التوافق والوفاق والتودد، وان بيروت ستنتصر للتيار الوفاقي، مؤكداً ان من السابق لأوانه الحديث عن معركة رئاسة الحكومة وان كان يعتقد ان الحريري واحد من ابرز المرشحين. ودعا الى وجوب قيام حكومة سياسية يشارك فيها الجميع للنهوض بالوضع الاقتصادي والمعيشي. فالحرب بين الحص والحريري استمرت وانما بطريقة غير مباشرة وغاب عن تصريحاتها تبادل الحملات. وشدد الحص على نزاهة العملية الانتخابية ونجاح القوى الامنية في ضبط الأمن من دون ان يغيب عن باله امام زواره التذكير بسلطة المال ودور الاعلام في مقابل تأكيد الحريري ان من يتحدث عن المال السياسي يخلط بين التقديمات الاجتماعية التي توفرها "مؤسسات الحريري" منذ 25 سنة وان هذا الكلام غير صحيح، والشعب اللبناني يعرف هذا. واعتبر ان هذه الاتهامات تأتي دليل عجز، وابتعاد الناس عن الذين ليس لهم منطق آخر. ورد الحريري على النائب طلال ارسلان وقال: "إن رئىس الحكومة يأتي من خلال الاستشارات". وعن التعايش مع رئىس الجمهورية اميل لحود، قال الحريري "إن هذا امر سابق لأوانه، ولننتظر نتيجة الانتخابات، الرئىس لحود يقول إنه على مسافة واحدة من الجميع ولا اعتقد ان هناك مشكلة شخصية معه والكلام على إمكان التعايش او عدمه آت من الحكومة، لا من الرئىس لحود، لأن الحكومة الحالية تعتبر نفسها متضررة والناس ليسوا معها والانتخابات لن تكون لمصلحتها". ورأى "ان مصلحة البلد هي التي تجمع بين رئىسي الجمهورية والحكومة". وخشي ان يفسر البعض: مطالبة جنبلاط باعادة النظر في العلاقات اللبنانية - السورية في شكل خاطئ "فنحن والاخوة في سورية نطالب دائماً بتطوير العلاقة بين البلدين". ويبدو للمراقبين ان المعركة في بيروت تتجاوز قضية رئاسة الحكومة، وهي تتفاوت بين اختبار قوة الحريري في منافسة خصومه وعلى رأسهم الحص وسلام، وتوكيد الزعامة والمرجعية، لتعذر التعايش على الاقل انتخابياً. اذ ان مؤيدي الحص وسلام بدرجة اقل حملوا على رئىس الحكومة السابق واتهموه بأنه يريد الغاء القيادات، وهو بدوره رفض الدخول في سجال مباشر، واكتفى بالقول ان المعركة "تدور بين منهجين ولنترك للناخبين القرار النهائي وسننتظر ساعات لنعرف لمن اقترعت بيروت".