عاد أحمد ضىف 1880-1945 من فرنسا سنة 1918، بعد أن قضى ثمانىة أعوام حصل فيها على درجة الدكتوراه في الأدب العربي، حيث ذهب إليها في ثانية البعثات التي أوفدتها الجامعة المصرية إلى أوروبا سنة 1909. وتألفت هذه البعثة من سبعة أعضاء في تخصصات مختلفة. ستة منهم مطربشون، وسابعهم أحمد ضيف معمم لأنه كان من طلاب مدرسة دار العلوم العالية التي كان طلابها يرتدون زي المشايخ وينتسبون إلى الأزهر في تعليمهم السابق. وعاد أحمد ضيف إلى مصر مستبدلاً بجبة المشايخ حلة الأفندية بعد أن أتم دراسته في كلية الآداب بفرنسا، وحصل على إجازة الدراسة العالية وفرغ من إعداد أطروحة الدكتوراه في الآداب العربية، فكان أول مبعوثي الجامعة الذين ينهضون بعبء تدريس الأدب العربي بالمناهج الحديثة التي تعلمها في السوربون، وأول من انطلق صوته من داخل كلية الآداب في الجامعة المصرية بالدعوة إلى اكتشاف ملامح الهوية الوطنية عبر تجلياتها التاريخية في الآداب والفنون. وقد صحبت هذه الدعوة دعوة ملازمة لها، ومترتبة عليها بمعنى من المعاني، أعني التشجيع على الإبداع الجديد الذي ينطق ملامح الشخصية الوطنية، ويضيف إلى الملامح القديمة ما يؤكد التطور والتغير إلى جانب الاتصال والاستمرار. وكانت المحاضرات الأولى لأحمد ضيف حدثا اجتذب إليه الأدباء الشباب الذين وجدوا في دعوته ما يستجيب إلى حماستهم الوطنية الصاعدة، خصوصا أنه كان الفارس الوحيد الذي سبق طه حسين الذي كان لا يزال في بعثته لدراسة التاريخ، وظل ضيف كذلك حتى بعد أن عاد طه حسين وتولى تدريس مادة التاريخ القديم إلى أن ساعده حماته من أقطاب حزب "الأحرار الدستوريين" على الانتقال إلى قسم اللغة العربية. أما قبل ذلك، فلم يكن سوى صوت أحمد ضيف ينادي بمنهج جديد لدراسة بلاغة العرب، ممتلئا بحماسة الرغبة في تأسىس أدب قومى ىؤكد الهوىة الإبداعية لوطنه في معركة استقلاله. هكذا، بدأ هذا الرائد الذي غمره النسىان دروسه في الجامعة سنة 1918 بتأكىد أهمىة أن تكون لنا آداب تمثل حالتنا الاجتماعىة وحركاتنا الفكرية والعصر الذي نعىش فيه، ملحا على أن تكون هذه الآداب مصرىة عربىة: مصرىة في مواضيعها ومعلوماتها، عربىة في لغتها وبلاغتها وأسالىبها. وسرعان ما اكتسبت هذه الكلمات دلالات أوسع بقىام ثورة 1919 وما صحبها من تجلىات إبداعىة أكدت الدعوة نفسها في وعي أحمد ضىف الذي لم ىفلت فرصة لإشاعة الدعوة إلى الأدب القومي. ومن ذلك استغلاله الحفل الذي أقامته الجامعة المصرىة لتأبىن الأمىرة فاطمة هانم إسماعىل في ىوم الجمعة الواحد والثلاثىن من كانون الأول دىسمبر 1920، حىن ألقى كلمة باسم أساتذة كلىة الآداب في الجامعة التي اكتمل إنشاؤها بفضل تبرعات هذه الأمىرة المحبة للعلم، مبرزاً دور الجامعة في تأسىس الوعي الفكري والإبداعي بالهوىة. ولأهمىة هذه الكلمة التي لا ىعرفها الكثىرون، والتي عثرت علىها في كتاب أحمد عبدالفتاح بدىر عن "الأمىر أحمد فؤاد ونشأة الجامعة المصرىة" مطبعة جامعة فؤاد الأول 1950، أورد ما ىتصل بموضوع الأدب القومي، وما نصه كالتالى: "إن الجامعة المصرىة، فضلا عن أنها ستقوم بعمل جلىل لكل العالم العربي، وتعىد لنا ذكرى معاهد بغداد والأندلس، ستكون أىضا من أكبر العوامل لتكوىن حىاتنا العقلىة، وتكوىن رأي علمي لنا، مصبوغ بصبغة مصرىة، وحىاة قومىة عقلىة، نعرف بها عند الأمم الأخرى، ونضرب بسهم وافر في العلوم والفنون، ونرى علماءنا في جوار كبار علماء الأمم المتمدىنة. إن مصر في إبان نهضة علمية اجتماعىة، وهذه النهضة تحتاج لحفظ كىان البلاد العلمي، ولن ىكون ذلك إلا إذا كانت الصبغة العلمية عندنا مصرىة، وأقل شيء ظهوراً في هذه الصبغة أن ىكون التعلىم بلغة البلاد، وبنوع الإدراك والتصور والذكاء الذي ىمتاز به أهل البلد، وأن تكون أنواع الحركات العلمية مصرىة في شكلها، مع حفظ الصلة بىننا وبىن الأمم الأخرى بمعرفة لغاتها وإتقانها، لسهولة الأخذ عنها والوقوف على حركة الرقي عندها. نعم إن الحقائق العلمية واحدة، ولكن لكل أمة مىزة خاصة ظاهرة فيها، هذه المىزة هي التي تكون لها من تعلىمها القومي، وأكثر ما تكون الوطنىة ظهوراً في هذا التعلىم. لذلك نجد المتعلم منا في بلد أجنبي ىمىل إلى هذا البلد وىحب علومه، وهذا أثر التعلىم القومي الأجنبي. نقول إننا في إبان نهضة سىقودها شباننا، ونقول أىضا إن هذه النهضة لن تثمر ثمرها المطلوب إذا كانت عقول شباننا ناسجة على منوال أمة أخرى، أو مصبوغة بصبغة أجنبىة، ]أو[ تمىل إلى الاندماج في غىرنا ومحو شخصىتنا. فلا بد لنا من حىاة عقلىة قومىة، تجعل لنا شخصىة علمية، ىبنى علىها مستقبل البلاد العلمي. وهذا ما ترمي إلىه الجامعة المصرىة، وهو غرضها". وما ىلفت النظر في الكلمات السابقة هو إلحاحها على تكوىن حىاة عقلىة "مصبوغة بصبغة مصرىة" أو حىاة قومىة نعرف بها عند الأمم الأمم غىر العربية. وىقترن بهذا الإلحاح إبراز "خصوصىة الإدراك والتصور والذكاء" في الوطن، وتأكىد أهمىة الانفتاح على العالم بما ىؤكد الخصوصىة التي لا بد أن ىشىعها التعلىم القومي. وىترتب على ذلك مهاجمة التبعىة الفكرية أو الاتباع الثقافي الذي ىمحو الشخصىة، وتحدىد الدور الأساسي للجامعة في أنه دعم للحىاة العقلىة القومية وبناء للهوىة الثقافية. وكان ما أوضحه أحمد ضىف بكلماته السابقة الامتداد الطبىعي لدروسه الجامعىة التي أوجز هدفها في كتابه "مقدمة لدراسة بلاغة العرب" الذي طبعته مطبعة جرىدة "السفور" سنة 1921. وكان أحمد ضيف في هذا الإيجاز متشبعاً بروح ثورة 1919 التي غمرت كل النفوس، والتي أنزلت الدعوة إلى الأدب القومي منزلة الصدارة في عقول ووجدان الطليعة من مثقفي الأمة الذين أنطقت الثورة ما كان مسكوتا عنه لدى الكثيرين منهم. وتبرز هذه الروح في الصفحة الأولى من كتاب أحمد ضيف، خصوصا حين يربط بين دعوته إلى سلوك طريق جديد في دراسة بلاغة العرب وفهمها وما أصبحت عليه مصر ثورة 1919 من حالة رقي وتطور، تشبه من بعض الوجوه أن تكون عصراً من عصور النهضة، عصراً علامته ما حدث في العقول وفي المجتمع من انقلاب وتغير وميل إلى الجديد في كل شيء وفي كل نفس، حتى في النفوس التي لا تحب غير القديم. وأول الجدىد الذي يترتب على الثورة اكتشاف هوىة الذات الوطنىة في تحررها الذي ىحاول الوصول إلى أقصى ما ىمكن أن ىصل إلىه العقل البشري من الذكاء والإتقان في التعبىر عن حضوره الخاص. هذا الحضور الخاص موصول بإرادة الاستقلال التي تعني، من المنظور الأدبي، البحث عن الخصوصية حتى في دائرة الإيمان العميق بالانتساب إلى الأدب العربي الذي يجمع بين كل الناطقين بالضاد. ولذلك يقول أحمد ضيف إن اللغة العربية لغتنا لأنها لغة الكتابة والتأليف، ولأنها تستوعب لغة التفاهم بيننا. والآداب العربية آدابنا من حيث إنها أصل معلوماتنا ومنبع معارفنا ومواهبنا العقلية وعنصر حيوي من عناصر وحدتنا. و"لكننا نريد أن تكون لنا آداب مصرىة تمثل حالتنا الاجتماعىة وحركتنا الفكرية، والعصر الذي نعىش فيه، فتمثل الزارع في حقله، والتاجر في حانوته، والأمىر في قصره، والعالم بىن تلامىذه وكتبه، والشىخ في أهله، والعابد في مسجده وصومعته، والشاب في مجونه وغرامه". بعبارة أخرى، أراد أحمد ضىف أن تكون لأمته "شخصىة" أدبىة واحدة تؤكد وحدتها وخصوصيتها. ولا يعني ذلك هجر اللغة العربية وآدابها، لأننا لو فعلنا ذلك أصبحنا بلا لغة وبلا أدب فيما يقول. ولا سبيل إلى أن يكون لنا أدب خاص بنا من دون أن نرجع إلى اللغة العربية وآدابها التي هي قاموسنا ونموذج بلاغتنا حتى في خصوصيتها. إن المقصود هو أن يكون أدبنا أدباً عربياً مصبوغاً بصبغة مصرية. ولذلك نتعصب للغة العربية ونتمسك بها لأنها أصل معارفنا وسر مدنيتنا. ولا ينكر علينا إنسان ذلك، كما لا يمكنه الاعتراض علينا في ما نرجوه من أن تكون لنا آداب مصرىة عربىة. هذه الدعوة جعلت أحمد ضيف يحتفي بمعنى التعدد في الآداب، وعلاقة هذا التعدد باختلاف المذاهب والأجناس والبيئات، الأمر الذي قاده إلى تأكيد العلاقة الوثيقة بين البلاغة والمجتمع، وإبراز أهمية الصلة بين الكاتب وكتابته ومجتمعه، مضيفا إلى ذلك ضرورة معرفة البلد الذي عاش فيه الكاتب ومزاجه وسيرته والتربية التي حصل عليها، وإذا كان عاش عيشة سهلة أم عيشة فقير مجتهد، ثم لا بد من معرفة حالته النفسية، إذ البلاغة صورة للمجتمع ونفسية الكاتب على السواء. وكان ذلك يعني الاهتمام بمذهب سانت بيف 1804- 1896 في النقد الذي تعلم أحمد ضيف من كتاباته الاهتمام بشخصية الكتاب، جنبا إلى جنب مذهب هيبوليت تين 1828- 1893 الذي نقل عنه قوله: "الرجل ثمرة من ثمرات البيئة التي ولد وتربى فيها، كالشجرة تنمى في الأرض التي نبت فيها أصلها. وإنه يمكن أن ترجع جميع الأسباب التي تكون الرجل إلى ثلاثة أصلية: الجنس، والبيئة الطبيعية والاجتماعية، ثم الزمن الذي تكونت فيه حياته العقلية". ويعلق ضيف على ما ينقله قائلا إن طريقة تين هذه من أهم الطرق وأنفعها، لأنها تحمل الناقد على دراسة ووصف الأمة التي فيها نشأ الكاتب، جنبا إلى جنب البلد الذي عاش فيه والمدنية التي تأثر بها. وذلك تعليق يؤكد "أثر البيئة في العقول والنفوس" إذا استخدمنا تعبيرات أحمد ضيف الذي وجد في التوليفة التي مزج بها طريقة تين وطريقة سانت بيف الأساس النظري لدعوته إلى أدب مصرى عربي ينطق اختلاف بيئته. وكان لتوهج هذه الدعوة بثورة 1919 ما دفعها إلى التمرد على القديم، ومن ثم القول بأن الأفكار عندنا مقيدة محصورة محدودة: مقيدة بالعادات، محصورة في دائرة ضيقة من المعلومات، محدودة بشيء أشبه بالعقيدة في صحة ما نحن عليه من العلم والأخلاق. ولذلك رأى أحمد ضيف أن الخروج من العادات عسير، خصوصا في بلد من أشد ما يكون تمسكا بعاداته وطرقه في الفهم والإدراك. ولكنه لم يمض مع هذا الجانب السلبي إلى النهاية المتشائمة، بل ثار عليه مؤكدا وعود المستقبل الذي رأى من علاماته الموجبة إقبال الشباب الثائر على تعلم العلم وقبول الجديد في "هذه الحركة المباركة" التي بعثتها ثورة 1919. ويفضي ذلك بأحمد ضيف إلى إدراك مبدأ حركة العالم وتغيره، والنظر إلى العلم والأدب من حيث علاقتهما بهذا المبدأ الذي يجاوزهما بقدر ما يشملهما، ومن ثم يؤكد السير مع الجديد الذي حدث في العالم المتقدم، وضرورة أن تأخذ العقول والمعارف وجهة أخرى غير الوجهة الموجودة في كتبنا ومعلوماتنا، خصوصا بعد أن تعلمت العقول معنى الثورة وتشربت النفوس توقد حركتها المباركة. وقد احتفت جرىدة "السفور" احتفاء ظاهرا بكتاب أحمد ضىف فور صدوره، واقتطفت منه الفصل الخاص بمذهب هيبولىت تىن في النقد ونشرته كاملا، ورحب بالكتاب زملاء أحمد ضىف في السفور، خصوصا الكتّاب الشباب الذين لمعت أسماؤهم في ما بعد من أمثال أحمد زكي وحسن محمود وأحمد الصاوي محمد. ولم يكن من المصادفة - والأمر كذلك - أن يذكر عيسى عبيد محاضرات أحمد ضيف وكتابه في المقدمة التي كتبها لمجموعتها القصصية الأولى "إحسان هانم" التي وصفها بأنها "مجموعة قصص مصرية عصرية".