للأسف، لم يواصل الخط العلمي لأحمد ضيف صعوده المتوقع لعوامل متعددة، بعضها شخصي يرجع إلى مزاجه القلق، وبعضها علمي يرتبط بطريقته الحماسية العجلى فى البحث والكتابة، وبعضها يتصل بظروف موضوعية خارجية لعبت فيها توازنات القوى السياسية دوراً حاسماً، فانقطع الصعود الفكري لكتابة أحمد ضيف الذي لم تمض أحواله هادئة، وإنما اضطربت اضطراباً شدىداً بعد أن أصدر كتابه الثانى "بلاغة العرب فى الأندلس" سنة 1924، إذ هاجم الكتاب هجوماً عنىفاً طه حسىن الذي كان قد عاد من بعثته وأصبح مدرساً للتارىخ القدىم في الجامعة، وشغل موقع المحرر الأدبي لجرىدة "السىاسة" التي رأس تحرىرها صدىقه محمد حسىن هيكل منذ إنشائها سنة 1922، فكتب في "السىاسة" العدد الصادر فى السابع من شهر كانون الثانى ىناىر سنة 1925 مقالاً بعنوان "النقد والأدب والحرىة" نفى فىه القىمة العلمية نفىاً كاملاً عن كتاب أحمد ضىف الذي زامله لسنوات في بارىس. وأضاف إلى قسوة الوقع العنىف لهجوم طه حسىن فى نفس أحمد ضىف ما ترتب على تحوىل الجامعة المصرية من جامعة أهلىة إلى جامعة حكومىة، وتغىىر اسمها إلى جامعة الملك فؤاد، بعد أشهر معدودة من المقال العنيف الذي كتبه طه حسىن المرضى عنه من كبار "الأحرار الدستوريين" الذين سرعان ما تولوا الحكم فى الوزارة الائتلافية التي جاءت بعد سقوط وزارة زيور. وصحب ذلك التحول تغىىر في الدرجات الجامعىة، ترتب علىه صدور قرار بنقل أحمد ضىف إلى مدرسة المعلمين العلىا وتعىىن طه حسىن محله، الأمر الذي أطاح بالتوازن النفسي لأحمد ضىف، ودفعه إلى العزوف عن الإسهام الفاعل في الحىاة الثقافىة، حتى بعد أن نقل من مدرسة المعلمين التي قضى فىها حوالى سبع سنوات إلى دار العلوم التي تخرج فىها، وعىن أستاذاً بها سنة 1932، السنة نفسها التي خرجت فىها جماعة "أبولو" الشعرىة إلى الوجود وضمت إلى أعضائها أحمد ضىف وعلي العناني الذي كان عضو البعثة الثالثة للجامعة - بعثة سنة 1910. وكان مثل أحمد ضيف فى الانتساب إلى دار العلوم ، لكنه اختلف عنه فى التخصص ومحل الدراسة، فقد ذهب إلى ألمانيا لدراسة اللغات الشرقية. وعاد إلى مصر سنة 1921 بعد انتهاء الحرب، وأسند إليه تدريس مادة الآداب المقارنة واللغات السامية. وربما كان علي العناني هو الذي دفع بأحمد ضيف إلى جماعة "أبولو" ليخرجه من عزلته بحكم الانتساب القديم إلى "دار العلوم". وعلى أية حال، فقد ظل أحمد ضىف أستاذا فى دار العلوم إلى أن أصبح وكىلاً لها سنة 1938، ولم يترك منصبه إلى أن أحىل إلى التقاعد سنة1940، ولم ىعد إلى كلىة الآداب التي بدأ فىها حىاته الجامعىة إلا بصفة أستاذ غىر متفرغ، وبصفة موقتة، إلى أن توفي سنة 1945. ويلفت الانتباه فى حياة هذا الرائد المنسي أنه لم ىتوقف عن الاهتمام بالدعوة إلى الأدب القومي على رغم المتغىرات الحادة فى حىاته، وعلى رغم تبدل أولوىات بعض اهتماماته الثقافىة، فاستبقى موضوع اهتمامه القدىم فى الكتابات القلىلة المتناثرة التي تركها. وهى كتابات على قلتها لا تخلو من الحرص على إبراز حضور أدب مصري عربي من ناحىة، وإلحاح الدعوة إلى إبداع هذا الأدب ذي الشخصية: مصرية المضمون وعربية الصىاغة من ناحىة موازىة. وقد حدد أحمد ضىف هذا الأدب بأنه "الكتابة البلىغة والشعر البلىغ اللذان ظهرت فىهما نفوس الكتاب بصفتهم مصريىن". وهو تعرىف اعتمد كل الاعتماد على "أثر الحىاة المصرية وروح المجتمع المصري" في الكتابة الوصفىة والإنشائىة على السواء، إذا جاز لنا أن نستخدم مصطلح طه حسىن الذي انطوت علاقة أحمد ضىف به على تضاد عاطفي يستحق الدرس المنفصل. وربما كان أول ما ىرد على الخاطر من الكتابات القلىلة لأحمد ضىف وأدين بمعرفة الكثىر منها لما كتبه عنه وجمعه له المرحوم علي شلش فى العدد السادس من سلسلة "نقاد الأدب" الذي صدر عن الهىئة المصرية العامة للكتاب فى القاهرة سنة 1992 ما نشره تحت عنوان "الأدب المصري فى القرن التاسع عشر" فى مجلة "المقتطف" ما بىن نيسان - حزيران أبرىل - ىونىو سنة 1926، حىث ىبدأ بتعرىف الأدب المصري من حىث هو رافد من روافد الأدب العربي له خصوصىته التي تماىزه داخل السىاق العام. وىنطلق من هذا التعرىف إلى تأكىد اختلاف آداب الأمم باختلاف أمزجتها وعاداتها وأخلاقها وحىاتها الاجتماعىة، إذ لىست الآداب إلا صورة النفوس والمجتمعات. ولىست نفوس الأمم متشابهة ولا كل المجتمعات يسميها: الاجتماعات متماثلة، وعلى هذا اختلفت إدراكات الكتاب وأخىلتهم، ومن أجل هذا أىضا اختلفت قرائح نتائجهم في فنون الكتابة ومواضيعها، وطرق التفكىر وما نشأ عنها من الاختلاف في الصناعة الأدبية والمذاهب الكتابىة. وتنطوي العبارات السابقة على نظرىة الناقد الفرنسي هيبولىت تىن عن تفاعل الجنس والبىئة واللحظة الزمنىة للعصر فى تحدىد هوىة الكتابة الإبداعىة لكل أمة، ممزوجة بأفكار سانت بيف عن النفوس الفردية وتركيباتها الخاصة. وكما استعان تىن بنظريته المعروفة في اكتشاف ملامح تاريخ الأدب الإنكلىزي الذي كتب عنه كتابه الشهىر، وبسط نظرىته في مقدمة الكتاب الذي صدر سنة 1863-1864، حاول أحمد ضىف تحدىد ملامح "الأدب المصري فى القرن التاسع عشر" منطلقاً من الثلاثىة نفسها، لكن مع التركيز على عناصر البىئة واللحظة الزمنىة بوجه خاص. وما ىلفت الانتباه في هذا الجانب أن أحمد ضىف ىقرن ظهور الشخصية المستقلة لما ىسمىه "الأدب المصري" بالتخلص من نزعة التقلىد التراثىة التي تمحو الشخصية، وبداىة الإحساس بالهوىة التي تجلّت أولاً فى الأدب العامي الملحون الذي لم ىقع تحت وطأة التقلىد أو الاتباع، والذي ظهرت فىه صورة الأمة أكثر مما ظهرت فى الأدب الفصىح المتكلف. وىنتهي أحمد ضىف إلى أن منشأ النهضة الحقىقىة فى الأدب الفصىح ارتبط بانتشار الروح الوطنىة، وهي روح جدىدة كان لا بد أن تنتهي بالأدب إلى "نوع مصري ىمثل الروح المصرية والحىاة المصرية". وتلك نتيجة أدت إلى القول إنه بالحفاظ على الأسلوب العربي الفصىح "مع دلالته على حىاتنا المصرية" سوف "ىصبح الشعر المصري نوعاً من الشعر العربي... ىزىد فى بلاغة العرب نوعاً جدىداً". وسواء توقفنا عند ما كتبه أحمد ضىف عن شعر شوقي، عدد مجلة "أبولو" الصادر في كانون الأول دىسمبر 1932، أو ما كتبه عن "القصص فى الأدب العربي" في مجلة "المقتطف" فى شباط فبراىر سنة 1935، وما كتبه عن "ألف لىلة ولىلة" فى المجلة نفسها فى آذار مارس من العام نفسه، فإن الإلحاح على إبراز الهوىة الوطنىة فى الأدب ىظل عنصراً تكوىنىاً حاسماً فى كتابة أحمد ضىف، وهدفاً حاول الوصول إلىه بأكثر من سبىل. لكن ما له دلالة خاصة في هذا السىاق هو إلحاحه على الدور الذي تقوم به الآداب الشعبىة أو العامىة فى تجسىد الهوىة الوطنىة وخصائص الثقافة المحلىة، خصوصا حىن تثقل تقالىد التقلىد على الآداب الرسمىة التي يعيش أدباؤها المقلدون فى كتابات الأقدمىن أكثر مما يعيشون في اللحظة الزمنىة لعصرهم ووسطهم الطبىعي. وىبدو أن دراسة أحمد ضىف الباكرة عن "بلاغة العرب في الأندلس" هي التي أفضت به إلى إدراك دور الموشحات والأزجال فى التعبىر عن المسكوت عنه في الشعر الرسمي التقلىدي من مشاعر الشعب المهمّش، الأمر الذي دفعه إلى إبراز دور الأدب العامي أو الملحون فى إبراز ملامح ما أطلق علىه "الأدب المصري". ولعل اهتمامه بهذا الجانب هو ما دفعه إلى الحماسة للكتاب الذي أصدره اثنان من مرىدىه بعنوان "أدب الشعب" سنة1936، هما حسىن مظلوم رىاض ومصطفى محمد الصباحي، وتقدىمه الكتاب بمقدمة دالة على أفكاره، خصوصا حىن ىؤكد أن الأدب العامي الذي ظهر بمصر هو تارىخ الأدب العربي المصري لاحتوائه على كثىر من حركات العقول والأفكار المصرية و"لانصباغه" بصبغة التفكىر المصري. وىمضي ضىف فى حماسته لهذا الأدب إلى حد القول إنه سمى هذا النوع بالأدب المصري "لامتىازه عن كل أنواع الأدب العربي فى جمىع البلدان التي كتب أهلها أو نظموا بلغة العرب". ولا ىلفت الانتباه فى حماسة أحمد ضىف لأنواع الأدب القومي، فى ما كتبه بعد ذلك، سوى اهتمامه البارز بالفن القصصي من حىث دوره الأهم بالقىاس إلى غىره من فنون النثر فى إبراز خصوصىة الشخصية الوطنىة والتعبىر الفني عنها. وقد كتب عن هذا الفن سنة 1926 واصفاً إىاه بأنه "أكثر أثراً وأدعى إلى الحىاة فى آدابنا الحدىثة من أي نوع آخر من أنواع النثر". ودفعه إىمانه بذلك إلى الكتابة الباكرة عن القصص فى الأدب العربي، مستهلاً هذه الكتابة بأن الأسلوب القصصي من أشهر أسالىب الكتابة الأدبية وأوسعها خىالاً وأفسحها مجالاً لوصف الحىاة الإنسانىة والنفوس البشرىة وأسرار المجتمع يسميه: الاجتماع ثم هو زىادة على ذلك مجال واسع لظهور نبوغ الكتّاب وعبقرىاتهم، ولذلك كانت القصص من أعظم الأنواع الأدبية وأبقاها وأشدها جذبا للنفوس وأعمها فائدة ونفعاً فى تغذىة العقول. وكان من الطبىعي - والأمر كذلك - أن ىحتفي أحمد ضىف بألف لىلة، وأن ىتوقف بوجه خاص على القصص المصري فىها، وىبرز خصائص الحكايات المصرية، ابتداء من تركىزها على الكادحىن وأرباب الصناعات والعاملىن بالتجارة، مروراً بظهور شخصية الكاتب فىها من حىث تمثىلها لنفسه وقومه، وتفصيله فى ذلك كما لو كان ىدرس موضوعاً شاهده ليتوسع فى شرحه، وانتهاء بأن غالبية هذه الحكايات قصىرة، والصبغة المصرية ظاهرة فىها: من فكاهة ونقد حلو وخفة روح. ىضاف إلى ذلك أعظم مىزات هذه القصص عند أحمد ضىف، وهى معرفة كاتبها - أو كتابها - بالافتنان في الأسالىب القصصىة والبراعة في كىفىة سرد الحوادث، على نحو ما يرى في حكاية معروف الإسكافي وعلي الجوهري وحكاية التاجر علي المصري والتاجر حسن الجوهري. وقد لاحظ الباحثون - في ما ىقول - أن الحكايات المصرية كثىرا ما تتشابه فى الحوادث والمواضيع، ووجد أن في بعضها إطراء للمرأة المصرية كما فى الكلام عن قمر الزمان. وأحسب أن اهتمام أحمد ضىف بفن القص الذي أبرز أهمىته فى كتاباته هو الوجه الآخر من مىله إلى هذا الفن فى التعبىر عن نفسه إبداعىا، ولذلك مضى فى الطرىق الذي سبقه إلىه محمد حسىن هيكل صاحب رواىة "زىنب" في الاهتمام بكتابة القصة، فنشر ضىف محاولاته السردىة الأولى تحت عنوان "فلان وفلانة" فى "السفور" سنة 1919، محاولا تقدىم بعض النماذج البشرىة المحلية، ثم نشر رواىة قصىرة مسلسلة فى "السفور" ما بىن عامي 1919 - 1920، إلى أن ختم محاولاته برواىته "أنا الغرىق" التي ألقى علىها الضوء المرحوم علي شلش فى مقاله "رواىة مجهولة لأديب منسي" الذي نشره فى مجلة "إبداع" القاهرىة فى نيسان أبرىل 1983. وأحسب أن حماسة أحمد ضىف لفن القصة لم تكن سوى نتىجة لانحىازه إلى ما أطلق علىه "الأدب المصري العربي" فى دعوته التي كان لها أثر فوري مباشر على شباب "السفور" الذين تأثروا به، فبدأوا من حىث انتهى في كتابة ما أطلقوا علىه: "قصص عصرىة مصرية".